تنظر إسرائيل إلى مقاييس القوى في الشرق الأوسط بطريقة لا تتفق والرؤى العربية، وعلى شاكلة لا تنسجم مع بعض القراءات الدولية أيضاً. فهي تواظب على التذكير بأنها تتموضع في وسط معاد لا يتمنى وجودها، ولا تفتأ تكرر لازمة"المحيط المناوئ"الذي يتوق إلى إزالتها عن الخريطة، وتتحدث عن ضآلة مساحتها الجغرافية، وصغر حجمها السكّانيّ"ثلاثة وعشرون ألفا من الكيلومترات المربعة، وخمسة ملايين من السكان، فيما يستحوذ أعداؤها الذين يجاوزون ثلاثمائة مليونا من البشر على الأقلّ، ومليار إنسان على الأغلب، على أصقاع ومساحات شاسعة، إيماء إلى: العالم الذي يشكّل العرب غالبيته، والدول التي يشكّل المسلمون أكثريتها الساحقة، وتقدّر إسرائيل أنها لا تستطيع العيش المستقل الكريم وسط هذه الجغرافيا، وفي عباب هذه الديموغرافيا، دون أن تكون قوية بما فيه الكفاية، ومخيفة إلى حدود سقوط خصومها فرقا ورعبا قبل أن تحدثّهم مخيلاتهم عن الاقتراب من أسوارها، وتجزم أنّها اليوم أقوى منهم بأسرهم، وأنّ عليها الاحتفاظ بالفارق الشاسع، فتحضّ أوروبا والولايات المتحدة على مواصلة دعمها لتوسيع هذا الفارق إلى الحدّ الآمن، الذي لا تعيّنه طبعا، بل تشهر سيف"المظلومية"في وجه من يعمل على تعيينه، عندما يمكن للمظلومية وحدها أن تتكفّل بإخراسه! لا جديد في هذا، بل إنه مكرر ومملّ، اعتاد البشر سماعه في كل أنحاء العالم، وخبرته الأنظمة العربية إلى الحدود التي مكّنتها بدورها من الاتّجار به بكفاءة، ولكنّ التأمل المطّرد في هذا الزعم وتلك التجارة يدحض قراءة إسرائيل وعملائها، ويبين أنّ موازين القوى لا يمكن أن تكون لمصلحتها، وفي غير صالحهم تاليا، فالسلاح ليس دليلا كافيا على التفوّق الاستراتيجي مهما أمعن الإسرائيليون والمستفيدون من هذه القراءة في تخزينه والمباهاة به من جهة، والنواح من هوله وفظاعة التآمر الخارجيّ معه من جهة أخرى، ولن ينجح الترهيب باستخدامه، وسيظل استعماله عاجزا عن إثبات التفوّق بأية صورة. فلا يمكن أن يدور بخلد إسرائيلي واحد مهما تمكّنت منه السذاجة، أن بإمكانه البقاء آمنا في ظلمة المنطقة لمجرد حيازة السلاح النووي وغيره، لأنّ التلاصق الجغرافيّ بين العرب والإسرائيليين يسلب هذا السلاح أهمّ نقاط قوّته، ويظهره أفقر من أن يطعم في سنيّ القحط، وأصغر من أن يتمكّن من تحطيم خصومه، فهو قادر على إبادة الفريقين حقا، ولكنّه عاجز تماما عن استئصال شأفة خصومه دون سواهم، ولأنّ الحال كذلك من الغنى وانسداد مجالات الإنفاق الآمنة، فإنّ للسلاح الأخف حَملا، والأبخس ثمنا، والأوضع تقنيا وميكانيكيا وزنا استراتيجيا أبين في تأثيره وتحكمه بالمزاج الأمني المتوتر للإسرائيليين خصوصا، بل إنّ الاستخدام الفعليّ للأسلحة المتطورة من صواريخ ذكية وطائرات عملاقة ومدافع بعيدة المدى ودبابات سريعة ذات قدرات نارية وتوجيهية عالية، يفرض على الإسرائيليين ضرائب باهظة لجهة الخسائر التي تستطيع أن ترفع وتائر العنف حول إسرائيل، وفي قلبها، ويمكن للاستخدام الأرعن، أن يحطّم الحذر الذي وسم بميسمه اللعبة الصراعية المنضبطة وفق قوانين وضوابط لم يخرج أحد فريقي الصراع عن محاذيرها، إلا عندما كانت تضطره الساعة الاستثنائية، إلى استخدام آلة بريدية استثنائية. لعبة ميدانُها جغرافيا تتصل بالنفوس على جانبي الصراع، وأدواتها خطب نارية، واتفاقات مرحلية، ومفردات سياسية تتراوح بين تربّص وهدأة تارة، وتهديدات بالهاوية تارة أخرى، يمكنها أن تتجاوز حينا خطوط محظوراتها الحمراء، ولكنّها كالشريحة التي يستطيع مبرمجوها إعادة توليفها، وضبط عملها بعد كل تشويش، يفهم مصمموها أنّها تتواصل بين حدين حيويين: الأول: لا تحقيق لأحلام الإسرائيليين بأمن شامل وجبهات هادئة وسكون مطلق، والثاني: لا عمليات فدائية تحريرية. ويمكن للفريقين خارج هذين المحظورين أن يلعبا ويتلاعبا بمخزون جمهوريهما العاطفي ما شاء لهما التلاعب. فلم يثبت حتى اللحظة أنّ الخروج السافر عن قواعد اللعبة مفيد لأحدهما، وإذا كان ثمة من يعرف على وجه الدقة النتائج الكارثية لحرب تموز على العرب، واللبنانيين، وحزب الله، فهما جهتان فحسب: القيادة العسكرية الإسرائيلية وشُعَبُ معلوماتها الأشد باطنية من باطنيي الشرق الأوسط، التي قرأت خطف جندييها بوصفه تجاوزا دراماتيكيا للقواعد من جهة، والقيادة المسؤولة في حزب الله من الجهة الأخرى، تعرفان ما جرى، وتدركان لماذا جرى، ولقد هضمتا الحدث، وتموضعتا في خندقين جديدين، واستأنفتا اللعب. المشهد نفسه كان يتكرر على الجبهة الفلسطينية الإسرائيلية، فلم تفض التلويحات المتكررة بالحسم وبفرض الأمن ذي الأبجدية الإسرائيلية، إلا إلى هجومات وخروقات، فتبريد للمحاور، انسجاما مع سياسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وكانت القوة العسكرية ذات القدرة التهديدية واللوجستية العالية تتوقّف ببراعة كلّ مرّة قبيل الحسم، لتتسمّر - في ظلال ذرائع اعتادها الجمهور الإسرائيليّ - عند تخوم أحلام مواطنيها، عقب كلّ تهديد وتوغل واجتياح. قوى الممانعة بدورها لم تتعدّ خانة الصخب الذي يحشد النفوس الظمأى، وعلى الرغم من أنّ إسرائيل كانت تكيل لها ضربات مؤلمة غير مرة، وفي غير موقع من ترابها الذي دأبت على شحن النفوس بقداسته، فإنّ هذه القوى كانت تعي ومازالت، أنّ الشحن والوعود بالردّ شيء، والانطلاق إلى التنفيذ شيء آخر تماما، وواظبت على إثبات أنّها الأقدر على ضبط الفصائل المقاومة، ولجمها عند حدود ما يسميه حزب الله"بالعمليات التذكيرية"، وما تستقبله حماس بوصفه"ردود فعل بطولية". غير بعيد عن ذلك، فإنّ العبث الإسرائيلي المتواصل بفترات التهدئة، واقتحام السكون السياسي المتفق عليه، باغتيالات منظّمة، وتوغلات مدروسة، وتفجير منازل، واعتقالات مصمّمَة مسبقا، لم يظهر يوما - على تنوّع شراساته - على هيئة خرق استراتيجيّ لما يظهر أنه تفاهم منضبط بين طرفين"عاقلين"! وإذا كان الإسرائيليون بدَوا غير قادرين على احتمال هدنة حماس ذات الأشهر الإثني عشر يوما إضافيا، فإنّ حماس بدورها كانت ستعجز عن مواصلة تفهّم التأدب الإسرائيلي يوما آخر، وإن لم يُقابَل النشاط التفاوضي الاستثنائي الذي ظهر في العام 2000، بعمليات تفجيرية استشهادية متوالية على مدى أسبوعين دمويين في قلب إسرائيل، فإنّ اللاعبين الإسرائيليين كانوا سيفغرون أفواههم دهشة، وسيحركون أعداءهم بكل الوسائل واللغات لدفع قوى المقاومة الفلسطينية للتحرك، وإفساد ما تمّ الاتفاق عليه فوق الطاولة! ولقد دأبت السياسات الحكومية الإسرائيلية - على اختلاف مكونات الحكومات، وعبر السنوات التي تلت الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس الراحل أنور السادات إلى إسرائيل- على التعامل مع الصراع العربي الإسرائيلي، بوصفه مضمارا للتنافس مع القوى التي تناوئها في الداخل الإسرائيلي خصوصا، وميدانا لإظهار المظلومية عالميا عموما، ولم يفعل النظام الانتخابي الإسرائيلي الذي يفرض على القوى السياسية عقد تحالفات معقولة أو غير معقولة، للتمكن من تشكيل حكومة تحظى بثقة برلمانية شاقّة بالغة الحذر، أكثر من إبقاء هذا المضمار لاهبا، وكأنّ اللغة التشريعية الإسرائيلية لم تُصمَّم لتوقّع اتفاقات شاملة، وإنما وُضعت على هيكلية خوف وحذر نهائيين، الأمر الذي عنى وما زال يعني أنّ إسرائيل المفرطة في تسلحها والمتفوّقة تقنيا واقتصاديا، ليست إلاّ كيانا يسبق الدولة، وتجمّعا يقاوم ذاتيا عمليات التطوّر الطبيعية فيه. ولا يحتاج المرء إلى أرشيف الفظاظة الإسرائيلية في التعامل مع الأوراق الموقعة، والاتفاقات المرحلية، ومقاومته الأفراد الذين كان بمقدورهم مهر وثائقهم بتوقيعات جريئة، ليثبت أنّ إسرائيل لم تظهر لحظة شجاعة حقيقية في التقدم نحو صفقات نهائية حيوية، فقد كانت تستدرك بالانقضاض عليها قبل أن تستحيل فرصة وأفقا، ولعل مقتل رابين، وحصارات عرفات، ثم تغييبه، يشكّلان مثلين لا بدّ من استحضارهما للتلويح للإسرائيليين أن عليهم بحق أن لا يعلّقوا إخفاقاتهم باستمرار على المشجب الفلسطينيّ والصدور العربية. ولأنّ اللعبة الخانقة هذه، الواقفة حجر عثرة في وجه مريدي الحرية ومناهضي الاستبداد، والقادرة على إعاقة هدنة يمكنها تسهيل الانضمام إلى مسيرة تنموية تلحق هذه الأوطان البائسة بالعالم، لا تتسامح مع إرادة فريق واحد - ولاعبو حماس وحزب الله اليوم، يدركون ربما بأفضل الصور أن تجاوز الخطوط الحمراء أمر لا علاقة له بالحلم والرغبة، وأنّه يندرج في سياق لعبة يجلس إلى مائدتها طرفان ? فإنّ صعود"الأسلمة"إلى سطح العمل العربيّ المقاوم، لبنانيا وفلسطينيا على وجه الخصوص، يستطيع على نحو مرعب ومدهش في الآن نفسه، أن يفسر ذلك التصادف اللافت بين بروز القوة الإقليمية الإيرانية في ثمانينات القرن الماضي، والتمكن الساحق من الإجهاز على التنوع المقاوم لبنانيا لصالح حزب أُنشئ للتوّ وعلى عجل من جهة، وتأسيس حركة حماس في فلسطين التي استطاعت أن تفصم عرى اللغة المقاومة الواحدة، بعدما أعيتها محاولات الإقصاء والاستئصال من جهة أخرى. تقارب لافت بين تاريخي التأسيسين، وتناغم جليّ بين ذهنيتين لم تفعلا في تاريخهما الصغير ما يضاهي أفعالهما على جبهة احتكار العمل المقاوم وتوحيد البندقية!! أكان مجرّد تبديل للاعبين على جبهة ارتهق لاعبوها الأصليون، أم أنّه النتاج البارع للتململ الإسرائيلي من مقاومة يعدّ التنوّع أهمّ وأخطر فضائلها؟ هل كان تنوّعا مقلقا لإسرائيل وهاجسا لمن يفهمها، ويتلذّذ بالاندساس في فراشها والاحتماء بحكايا جبروتها وسطوتها؟ أكانت فصائل ذات بنى متمرّدة شقّ على منتصري العمائم، وعلى الممانعين القابضين على جمر كراسيهم أن يواصلوا الإمساك برقابها، وكان لابدّ من الإطاحة بجيل مزعج من اللاعبين بدا لوهلة للإسرائيليين، ولسلطات التمنّع والممانعة، وللعمائم التي تستعدّ لقلب التاريخ وحقائق الديموغرافيا، أنّه أخذ يشمئزّ من اللعبة ويحاول تغيير بوصلتها والعبث بأمنها وأمانها؟؟ * كاتب سوري