في نهاية عام 2006، اختار القيّمون على مكتبة مركز بومبيدو لبنان كضيفٍ لسلسلة الندوات التي تُعقد سنوياً في أرجاء هذه المؤسسة المرموقة تحت عنوان"من حبرٍ ومن منفى". وفي هذا السياق، دُعي للمشاركة في هذه الندوات كتّاب لبنانيون يعيش معظمهم بين فرنساولبنان، هم: صلاح ستيتيه، هدى بركات، الياس خوري، فينوس خوري غاتا، سليم نصيب، إيفلين عقّاد، نجوى بركات، غبريال بستاني، رشيد الضعيف، جيرار خوري، شريف مجدلاني، وجدي معوّض، ألكسندر نجار، ياسمين خلاط، ريتا باسيل الرامي، تاميراس فاخوي وريجينا صنيفر، إلى جانب المخرجَين السينمائيين خليل جرَيج وجوانا حجّي توما. وما يُبرِّر توقّفنا اليوم عند هذه التظاهرة التي حملت آنذاك عنوان"لبنان، بين الحلم والكابوس"لوقوعها مباشرة بعد حرب تموز، إصدار مركز بومبيدو حديثاً نصوص نقاشات دارت أثناء التظاهرة، في كتابٍ يقع في نحو مئتي صفحة ويتجلى فيه ليس فقط غنى المشهد الأدبي اللبناني وخصوصياته، ولكن أيضاً مواقف المثقفين اللبنانيين المتقاربة من نتائج الحرب المذكورة وملاحظاتهم الثاقبة حول الوضع اللبناني العام الذي يراوح مكانه، على رغم مرور أكثر من سنة على هذه التظاهرة. يلاحظ القارئ احتلال الأحداث حيّزاً كبيراً في مداخلات المشاركين، بسبب خطورة الحال التي كان يتخبّط فيها لبنان ولا يزال!، ولكن أيضاً بسبب طبيعة التظاهرة التي تهدف قبل أي شيء إلى استكشاف العلاقات بين تجربة المنفى والكتابة، وللنفي بمعنى الرحيل أسباب سياسية وأمنية لا يمكن تجنّبها. لكن ذلك لم يلغ البُعد الأدبي لهذه اللقاءات الذي تجلّى بقوة في الشهادات الدقيقة والقيمّة لبعض الكتّاب. ففي الحوار الذي أجراه الباحث والجامعي الفرنسي بيار برونِل مع الشاعر صلاح ستيتية، قدّم هذا الأخير لمحة سريعة وشاملة لخصوصيات لبنان التاريخية والثقافية والسياسية، وتحدث عن عمق العلاقات بين الشعبَين الفرنسي واللبناني التي تعود إلى عهد الصليبيين، متوقّفاً عند حماية فرنسا مسيحيي لبنان منذ القرن السادس عشر، وعند نشاط الإرساليات الدينية ثم العلمانية الفرنسية على المستويين التعليمي والتربوي في جبل لبنان منذ القرن الثامن عشر، الأمر الذي سمح للبنانيين خلال القرن العشرين بالتقدّم بسرعة نحو الحداثة وباحتلال موقعهم الرائد في مُحيطَي لبنان العربي والفرنكوفوني. ولم ينس ستيتية طبعاً تجذّر لبنان الخاص في محيطه العربي ونظامه الذي يبقى ديموقراطياً، على رغم عاهاته. لكن أبرز ما في الحوار تلك المقارنة التي أشار الشاعر إليها، من دون الخوض في تفاصيلها الجليّة في خطابه، بين نتائج الوجود الفرنسي في لبنان الذي دام خمسة وعشرين سنة ونتائج الوجود السوري في لبنان الذي دام ثلاثين سنة، ثم مهاجمته من دون مواربة النظام السوري الذي لم يقبل يوماً استقلال لبنان مع العلم أن هذا الأخير لم يُشكّل أبداً في الماضي جزءاً من سورية، مذكّراً باستقلالية الأمراء الدروز والموارنة الكبيرة على مدى قرون. بعد ستيتية، نقرأ في الكتاب العرض المثير الذي قدّمه المؤرِّخ والكاتب جيرار خوري لبعض المحطات الرئيسية في تاريخ لبنان الحديث، وسجّل فيه ملاحظاتٍ تلقي ضوءاً على الصعوبات والمشاكل التي يعبرها هذا البلد حالياً، قبل أن ننتقل إلى نص النقاش الذي أداره خوري نفسه وشارك به الياس خوري، سليم نصيب ونجوى بركات. نقاشٌ طغى عليه التشخيص السياسي للأزمة اللبنانية، واستوقفنا فيه إلحاح الياس خوري على ضرورة إيجاد تسوية بين"حزب الله"وتيار 14 آذار لإنقاذ لبنان من ثنائية مميتة وخطيرة، لأنها تأتي بعدما برهن الشعب اللبناني قدرته على النزول إلى الشارع وتغيير التاريخ، وتشكيكه في الانتصار على إسرائيل خلال الحرب الأخيرة بتساؤله الآتي:"ماذا كانت ستُشبه الخسارة، إذا كان الوضع المأسوي اليوم يرمز إلى النصر؟"، كما استوقفنا تناغُم رأي سليم نصيب مع خوري في ما يتعلق بانتفاضة 14 آذار كأملٍ كبير قضت عليه حرب تموز يوليو 2006 وعودة سورية الى الساحة اللبنانية من خلال حلفائها المحليين. وحول تجربة المنفى، يقول نصيب:"لا أشعر بأنني في المنفى. أكتب دائماً عن الشرق، وإن كان في ذلك نوع من الانفصام الشخصي، فأنا أتبع نمط حياة الفرنسيين الذين أعيش بينهم"، بينما يُذكّر خوري بالتجربة الفلسطينية، وبالتحديد بكارثة 1948 التي لم يتطرّق إليها الأدب الفلسطيني كما تستحق، ليقول:"بالكتابة، نعترف بالحقيقة. والاعتراف بالحقيقة هو خطوة في اتجاه تغييرها. بهذا المعنى، أن نكتب المنفى ضروريٌ، ليس فقط لتكون لنا ذاكرة، ولكن أيضاً ليكون لنا مستقبل. ولا مستقبل لمن لا ذاكرة له". أما نجوى بركات فتشير إلى أن كلمة"منفى"، بخلاف حال البُعد والمسافة التي توحي بها، تستحضر لديها شعوراً بالسجن، من دون أن تدري لماذا. والكتابة عن هذا الشعور أو انطلاقاً منه تعني، بالتالي، إعادة التفكير في علاقتها بالزمن والأمكنة. ومن نص الحوار الشامل الذي أجراه بيار برونِل مع فينوس خوري غاتا في شكل رحلةٍ ممتعة داخل عالمها الشعري والروائي، يشدّنا وصف فينوس الدقيق والماهر لكتابتها:"كتابتي ثمرة لغتَين. العربية، لغتي الأم، والفرنسية التي تعلّمتها في الكتب. من هنا تلك النبرة الحرّة والفريدة. نبرة باروكية. في البداية، كنتُ أجد صعوبة في التوفيق بين هاتين اللغتين. كان ضجيجُ معادنٍ يجتاح رأسي كلّما أمسكتُ بالقلم. كنتُ أجد صعوبة في تمرير جملتي العربية الفضفاضة، الغنيّة بالنعوت والاستعارات، بين الحواجز الرزينة للغة الفرنسية. كان عليّ أن أدفع بهذه الحواجز بعيداً مني للتعبير عن جميع الصوَر التي كانت تتدافع في رأسي. أردتُ نقل صِيَغ وأصوات الجملة العربية إلى اللغة الفرنسية. كانت كلمات مثل"حجر، شجرة، ساقية"باللغة العربية تلبس الحجر والشجرة والساقية بشكلٍ أفضل من اللغة الفرنسية، في داخلي. كنتُ أعيش مع اللغة الفرنسية، لكن نظري كان يشطح دوماً نحو العربية. كنتُ مصابة بحَوَل ثقافي ولغوي. كنتُ في علاقة زوجية مع اللغة الفرنسية، وفي علاقة مخفية مع اللغة العربية التي كانت تنساب داخل جُملي وتفرض شكلها ونكهتها ورائحتها. ثمّة ضريبة علينا أن ندفعها لتمرير أفكارنا من لغة إلى أخرى، كالحذف والإضافة اللذين لا مفر منهما. بعبارةٍ أخرى، أجبر نفسي على التشذيب والتبديل ورمي ما هو برّاق خلف ظهري. إكراهٌ كان يعذّبني قبل ثلاثين سنة، لكني اقتنعتُ به في النهاية. اللغة الفرنسية تحميني من الانزلاق ومن الإفراط في العاطفة والوصف". وبعد هذا الحوار نقرأ نص النقاش الذي أداره إيف شملا حول"الكتابة وخيار الرحيل أو البقاء"وشارك فيه شريف مجدلاني وهدى بركات وإيفلين عقّاد ورشيد الضعيف ووجدي معوّض. تحدّثت عقّاد عن ثقافة التهجين التي عاشتها منذ طفولتها كقيمة أكيدة: تهجين في مستوى الولادة من أب لبناني وأم سويسرية، وفي مستوى المذهب من أب أرثوذكسي وأم بروتستانتية، وبالتالي في مستوى الكتابة نظراً إلى مزجها الأنواع والأساليب الأدبية، وإلى مفهومها الدائري للزمن في تشييد رواياتها وقصصها. وتعتبر عقّاد أن الانتماء إلى الهجين يسمح بالابتعاد عن التقاليد الطاغية وبالانفتاح على الآخر، ويؤمّن بالتالي غنى أكبر ونوافذ لبلوغ آفاقٍ فسيحة. وفي الوقت الذي تسمح الكتابة في المنفى بشقّ طرقاتٍ جديدة وبتحمّل شعور النفي، يُغذي المنفى، كصدمة ناتجة من مواجهة ثقافاتٍ أخرى وعن ألم الفراق والرغبة في العودة، نفَس الكتابة ويسمح باكتشاف أشكالٍ كتابية وإيقاعاتٍ وأفكارٍ جديدة عبر احتكاك اللغات والثقافات ببعضها البعض. هدى بركات، من جهتها، اعتبرت أن الموقع الجغرافي الذي يُحدِّد مكان إقامتها بقي مبهماً:"لقد رحلتُ منذ 17 سنة لكني لم أصل إلى أي مكان. لا أشعر بتلك الوطنية الحادّة التي تميّز معظم اللبنانيين ولا بإعجابٍ واقتناعٍ مغر للانسجام في ذلك المكان الغريب الذي قصدته. ... منذ رحيلي - ولم أندم على ذلك إطلاقاً - أكتب رواياتٍ تحدث وقائعها في لبنان مع شخصيات لبنانية تتكلم العربية. إعجابي باللغة العربية يزداد أكثر فأكثر. ومع أنه تم نقل ثلاث روايات لي إلى اللغة الفرنسية، وقريباً رواية رابعة، ونيلي وساماً فرنسياً مهماً نالت لاحقاً وساماً ثانياً، ما زلتُ هامشية في المشهد الفكري والثقافي الفرنسي والفرنكوفوني. من دون أسف. هل رحلتُ فعلاً؟ هل رحلتُ لأبقى هناك في لبنان بشكلٍ أفضل؟ هل أنا في مدارٍ فارغٍ، يحدّه هنا وهناك؟ السؤال غير مهم لأن الجغرافيا غير موجودة". وجدي معوّض أشار إلى رحيله من لبنان في السابعة من عمره، أي بقرارٍ لم يتخذه شخصياً، الأمر الذي أيقظ في داخله هاجساً على شكل سؤال: ماذا كنتُ قد أصبحتُ لو بقيتُ في لبنان؟ وسيدفعه هذا السؤال الملح في ما بعد إلى إيجاد أخٍ توأم له، داخل مسرحياته، يبقى في لبنان ويعيش في بيروت ويتكلم اللغة العربية التي فقدها معوّض في المنفى. أما شريف مجدلاني الذي عاش 13 سنة في فرنسا قبل أن يعود ليعيش في لبنان، فيقول:"سنواتي الفرنسية كانت سنوات تعليم جوهرية تشكّل خلالها"متاعي"الفكري الذي استخدمه اليوم حين أتأمل بالعالم، بالثقافة، بمهنتي، وبالوضع السياسي في لبنان، وحين أكتب. لكن، طوال تلك المرحلة، لم يساورني الشك إطلاقاً في حتمية عودتي إلى لبنان. أولاً لأنني متعلّق جداً بنسيج الهواء والعطور والسموات التي عشتُ فيها سنوات طفولتي ومراهقتي السعيدة وعرفتُ أن في داخلها ينطفئ أي شكل من الألم الناتج من حنينٍ أو ندم أو عدم رضا. لكن، ثمة سببٌ آخر جعل من عودتي أمراً طبيعياً، إنه الشعور بالوفاء والتعلّق شبه الجمالي بالشرق، بتاريخه، بمناظره، بناسه، وخصوصاً بما استطاع الشرق إنتاجه كتوليفاتٍ ثقافية بفضل تلاقي كمٍّ من التقاليد والأديان والحضارات داخله على مر العصور. أنا نتاج هذه التوليفات، على الأقل بفعل كوني مسيحياً عربياً. فهاتان الوحدتان الثقافيتان، بتعايشهما على رغم تناقضهما الظاهر، أفرزتا نماذج فريدة من الكينونة والحياة في قلب الشرق، شيئاً نادراً وثميناً كبرتُ فيه ولطالما رغبتُ في تشجيع استمراره". لا ينتهي الكتاب هنا بل يشمل نص الحوار الذي أجراه إيف شملا مع ياسمين خلاط وتاميراس فاخوري واستكشف فيه رؤية كل منهما للبنان انطلاقاً من تجلّياتها في الكتابة، ونص النقاش الذي أداره نبيل الأظن وشارك فيه ألكسندر نجّار وغبريال بستاني وريتا باسيل الرامي وجوانا حجّي توما وخليل جرَيج، حول بيروت، ليس كفكرة مبتذلة كليشيه أو كأسطورة، بل كمدينة حيوية تصلح أن تكون مادّة عملٍ كتابي أو فني أو فكري.