غالباً ما يغدو المشهد الأدبي اللبناني مرتبكاً عندما تسعى الى إبرازه "عين" أجنبية. هناك حال من سوء الفهم تسود نظرة الأجانب أو الغربيين الى هذا المشهد المعقد الذي يحتاج الى قراءة خاصة جداً، دقيقة وحذرة. وغالباً ما تعتري الأنطولوجيات أو المختارات الشعرية والروائية، وكذلك التظاهرات الأدبية التي تعدّها دور أو مؤسسات أجنبية، أخطاء فادحة في أحيان، علاوة على الهنات التي تسيء الى الأدب نفسه. ولا يخلو الأمر من بعض الظلم الذي يشمل الأسماء التي تغيب أو تغيّب قصداً أو عن غير قصد. لعل هذه طبيعة الحال الأدبية في لبنان، التي لا تخلو من المتناقضات والمفارقات مثلها مثل الحال السياسية. تظاهرة أدبية جديدة تفتح السجال الذي لم ينته يوماً حول كيفية تمثيل المشهد الأدبي اللبناني في احتفال عالمي. إنها تظاهرة"الآداب الأجنبية الجميلة"التي اختارت"لبنان الأدب"هذه السنة لتقدّمه الى القراء الفرنسيين انطلاقاً من باريس وانتهاء في مدن فرنسية عدة. البادرة الفرنسية هذه مهمة جداً، فپ"المركز الوطني للكتاب"يختار كل سنة إ ثني عشر أديباً من بلد أجنبي ويحتفي بهم وبأدبهم الذي يمثل المشهد الأدبي في بلدهم. وهكذا يقيم هؤلاء الأدباء حواراً مفتوحاً مع القراء الفرنسيين، الذين يفترض بهم أن يكونوا إطَّلعوا على أعمالهم المترجمة الى الفرنسية. والمناسبة تفيد الأدباء أنفسهم بقدر ما تفيد أدب بلدهم إن كان اختيارهم صحيحاً وحقيقياً وغير خاضع لأي علاقات خاصة. اختارت لجنة"الآداب الأجنبية الجميلة"إثني عشر أديباً لبنانياً: ثلاثة شعراء وتسعة روائيين باللغتين العربية والفرنسية. ولكن لم تعلن اللجنة الطريقة التي اختارت بها هذه الأسماء، ومنها بضعة أسماء مهمة وبضعة أخرى غير مهمة ولا تمثل واقع الأدب اللبناني في شقيه العربي والفرنكوفوني. والمفاجئ أن اللجنة التي درجت على اختيار الأدباء بلغتهم الأم بدّلت هنا عادتها وأدرجت أدباء يكتبون بالفرنسية. وإذا كان شريف مجدلاني من الأسماء الشابة البارزة في الرواية اللبنانية الفرنكوفونية على رغم قلة انتاجه، فإن ياسمينا طرابلسي لا تزال مبتدئة وهي تعدّ نفسها برازيلية من أصل لبناني ولا تعرف لبنان جيداً، وكان ممكناً استبدالها بكاتب لبناني كندي مهم جداً هو وجدي معوّض أو بكاتب آخر هو غسان فواز كتب رواية بديعة بالفرنسية عن الحرب اللبنانية. أما تاميراس فاخوري فهي شاعرة مبتدئة بالفرنسية ولا يمكنها أن تمثل حقيقة الشعر الفرنكوفوني اللبناني على رغم موهبتها الفتية. عباس بيضون وجمانة حداد هما الوحيدان اللذان يمثلان الشعر اللبناني الحديث في التظاهرة وهما قمينان جداً في تمثيل هذا الشعر. لكن السؤال الأليم هو: لماذا لم يُدرج معهما اسم أنسي الحاج أو شوقي أبي شقرا، هذين الشاعرين اللذين وسما الحركة الشعرية بأثر عميق؟ ثم لماذا تغييب بول شاوول وبسام وحجار وسواهما من شعراء قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة؟ لماذا هيمنت أسماء الروائيين على أسماء الشعراء مع أن الشعر اللبناني هو السبّاق وهو الذي يمنح الحداثة شرعيتها، فيما الرواية الجديدة ما برحت تبحث عن هويتها متعثرة حيناً ومقتدرة حيناً؟ لن أذكر أسماء شعراء آخرين لئلا اتّهم بأنني أذكر بعض الأصدقاء. أما الروائيون فبعضهم يستحق أن يكون في عداد المحتفى بهم وبعضهم لا. إلياس خوري أعماله مترجمة الى الفرنسية والقارئ الفرنسي بات يعرف اسمه. رشيد الضعيف ترجمت أعماله أيضاً وصدرت في السلسلة العربية لدى دار"أكت سود"والقراء الفرنسيون المهتمون بالأدب العربي الحديث يعرفون اسمه. حسن داود، علوية صبح ومحمد أبي سمرا... كلهم يستحقون أن يُكرّموا. ولكن هل يمكن تجاهل روائي مهم مثل ربيع جابر الذي يُعدّ ضمن قلّة الروائيين اللبنانيين الذين نجحوا في بناء عالم روائي وليس فقط في كتابة رواية؟ وكذلك جبور الدويهي هل يمكن تناسيه هو صاحب التجربة الروائية اللافتة جداً؟ ثم ماذا عن نجوى بركات وهدى بركات، هل يمكن حذف اسميهما لأنهما تقيمان في فرنسا، منفاهما الاختياري؟ ولا أدري إن كان أحد سمع بپ"كاتبة القصص المصورة"الشابة الفتية زينة أبي راشد؟ هل تدخل عمّها الناقد المعتبر في فرنسا روبير أبي راشد لإقحام اسمها في اللائحة؟ أما المفاجئ في هذه التظاهرة فهو اختيار الكاتب المسرحي الجزائري محمد قاسمي مستشاراً أدبياً لها. فهو أولاً لا يعرف الأدب اللبناني مثل دارسين كثيرين موجودين في باريس على رغم انبهاره بأعمال رشيد الضعيف الذي مسرح له بالفرنسية إحدى رواياته، وكان عملاً فاشلاً، ثم انه غير ملمّ بقدر كاف بمفهوم الأجيال في الأدب اللبناني وعلاقتها بعضها ببعض. وبدا جهله للأدب هذا واضحاً في العدد الذي خصصته مجلة"لا بانسيه دوميدي"فكر الجنوب الفرنسية للأدب اللبناني الجديد. وقد أنجزه القاسمي وأشرف عليه، وكان بمثابة"الفضيحة"الأدبية نظراً الى ضعف النصوص التي اختارها لأقلام فرنكوفونية مجهولة وشبه مجهولة. وهذا الكاتب الذي فشل في الشعر وتحوّل الى المسرح لا يزال مجهولاً بدوره، ولم تعره الصحافة الفرنسية أي التفاتة. ويظن أنه في زيارته لبنان مرتين أو ثلاثاً وفي اشتراكه في محترف الكتابة المسرحية الفرنكوفونية الذي أقيم في لبنان قبل سنوات، أصبح عارفاً في شؤون الأدب اللبناني ومتضلّعاً منه. ولا أحد يدري كيف أقحم نفسه في اللجنة وكيف أقنعها في اختياره مستشاراً لها. وكان في إمكان اللجنة أن تختار سواه ممن يلمّون بالأدب اللبناني، وما أكثرهم في فرنسا. ولعل السؤال الذي سيطرح خلال إحياء التظاهرة في الخريف المقبل، في باريس وبعض المدن الفرنسية هو: هل سيشكل القراء الفرنسيون الذين سيلتقيهم الكتّاب الاثنا عشر صورة مهمة عن المشهد الأدبي اللبناني الراهن أم أنهم سيكتشفون أن بضعة من هؤلاء هم من المواهب الفتية التي يجب الاعتناء بها؟ هذه فرصة للأدب اللبناني يجب ألا تضيع.