أول ما أذهلني، وأنا استمتع بقراءة كتاب"في سبيل التحديث والتنمية"، للدكتور حسن مكي، الخبير الاقتصادي ورئيس وزراء اليمن الأسبق، الذي يسرد فيه بعضا من ذكريات حياته ويتناول الأحداث العاصفة التي مرت بها اليمن والمنطقة العربية، حاجة اليمنيين، وأهل الجزيرة العربية، في تلك الفترة، إلى المغامرة والغربة الطويلة بحثا عن المعرفة، والصراع مع قسوة الحياة وطوق العزلة وصعوبة الاتصال، فلا تأتي المعرفة إلا ثمرة معاناة طويلة. إذ يصف المشاق التي واجهها حين أراد الالتحاق بالدراسة في لبنان سنة 1947، وكيف عانى وصحبه حتى الخروج من السجن الكبير من شمال اليمن إلى عدن، ومن هناك بحرا إلى مصر ومنها إلى لبنان، ربما في آخر رحلة على قطار الشرق إلى لبنان عبر فلسطين. وتبدأ مرحلة جديدة من معانقة فضاء المعرفة، أولا في لبنان ثم في مصر ثم في إيطاليا، خلال رحلة استغرقت ثلاثة عشر سنة لم يعد المؤلف خلالها إلى اليمن سوى مرة واحدة حتى عاد في مطلع الستينات إلى يمن ينام منعزلا قبل نحو ألف سنة من زمن المدينة التي تخرج فيها. وهو انتقال صعب بين زمنين، يحتاج المرء إلى أن يبذل جهودا خارقة للتوفيق بين متناقضات جمَّة، ليشق طريقه بقدر أقل من الصعوبات دون يأس ودون فقدان اتزان. وفجأة ينتقل إلى زمن العواصف بعد تفجُّر الأوضاع من حوله ليجد نفسه في ظرف أيام في بؤرة ملتهبة من بؤر الحرب الباردة في القرن العشرين، بعد أن تغير النظام السياسي إلى النقيض وقدِمت قوات عبد الناصر إلى جبال اليمن التي أعيت الأتراك العثمانيين، وأصبح العالم كله يتصارع في بلد كان قبل أسابيع منسيا. وإذا بالنظام الجديد الراغب في إطلاق عملية تنمية دون موارد مالية وبشرية ودون ثروات طبيعية، وقبل كل شيء دون استقرار، يجد نفسه في أمس الحاجة إلى جهود حفنة قليلة من متعلمين قدموا للتو من الخارج قبل أن يراكموا قدرا كافيا من الخبرة. ولم يكن أمامهم سوى اللجوء إلى الخبرة المصرية المجانية، فسعوا لإقناع سلطة جديدة يمسك بها العسكر بحكم الحرب المستعرة، أن لا تقتصر المساعدة المصرية على الجنود والأسلحة، للاستعانة بالمصريين في تأسيس نهضة تعليمية وثقافية وتنموية، في بلد كان يبدأ كل شيء من الصفر. ومن هنا ارتبط المؤلف بالتحديث والتنمية حتى الآن. والكتاب صفحة مهمة من ذاكرة القرن العشرين، يمثل جيل الكبار بالمعنى المعرفي والسياسي، أولئك الذين لم يولدوا وكل شيء متاح، ولكنهم تمردوا على الظروف المستحيلة وشقوا طريقهم بعزم ومثابرة، وعبَروا من زمن غابر إلى العصر الراهن بعنفوان. ونلمس في الكتاب أصداء أحداث كبار مثل نكبة فلسطين سنة 1948، وحريق القاهرة سنة 1951، وثورة يولية في مصر، وجهود الأحرار اليمنيين للتغيير، ومحاولة اغتيال الإمام سنة 1961 في الحديدة وموته متأثرا بهذه المحاولة لتتغير وضاع البلاد فجأة، ويصبح المؤلف من أهم المسؤولين في المجال الاقتصادي والسياسي والديبلوماسي حتى تولى رئاسة الوزارة، ويصبح شاهدا على تقلبات الأوضاع، متمسكا بالدعوة إلى المصالحة لتوفير الاستقرار الضروي لانطلاق التنمية. پ پ * باحث يمني يعمل في اليونسكو.