Michel Leymarie. Les Intellectuels et la Politique en France. المثقفون والسياسة في فرنسا. P.U.F, Paris. 2001. 128 Pages. تعود ولادة "المثقف" في فرنسا الى قضية دريفوس. فصحيح ان الكلمة رأت النور لأول مرة في النصف الأول من القرن التاسع عشر بأقلام كتاب أفراد من أمثال ستندال وبلزاك ورينان، ولكنها لم تدخل في قواميس اللغة الفرنسية قبل نهاية القرن التاسع عشر، أي على اثر انفجار قضية دريفوس. وكما هو معلوم، فإن الفريد دريفوس، الذي كان ضابطاً فرنسياً يهودي الديانة، اتهم بالتجسس عام 1894 وطرد من الجيش وحكم عليه بالنفي المؤبد. لكن إميل زولا، اشهر روائيي فرنسا في نهاية القرن، كان مقتنعاً ببراءة دريفوس، فشرع ابتداء من خريف عام 1897 بكتابة سلسلة من المقالات في الدفاع عن الضابط اليهودي والمطالبة برد اعتباره اليه، وتوّجها في مطلع 1898 برسالة مفتوحة وجهها الى رئيس الجمهورية، فيلكس فور في حينه، تحت عنوان صاخب: "أني أتهم". وقد كان لرسالته وقع هائل، وبيع من الصحيفة التي نشرها فيها 800 ألف نسخة في مدى بضع ساعات. وقد ضمّن زولا رسالته اتهامات مباشرة لهيئة أركان الجيش الفرنسي وللمجلس الحربي وللسلطات العليا في الدولة. وعلى اثر هذه الاتهامات التي سمّى فيها زولا كبار الضباط بأسمائهم، مكرراً في كل مرة صيغة "إني أتهم"، قُدم هو نفسه الى المحاكمة بتهمة القذف والقدح، وصدر عليه حكم بالسجن لمدة سنة وبغرامة 3000 فرنك، فيما كان الجمهور يهتف في القاعة: "الموت لليهود"، "يحيا الجيش"، "يسقط زولا!". لكن في الشارع، وعلى مسرح السياسة، بدت فرنسا كلها وكأنها تنقسم على نفسها الى معسكرين: معسكر الدريفوسيين المناهضين للنزعة العسكرية، وللسلطة الاكليريكية والمتجمعين حول "رابطة حقوق الانسان"، ومعسكر اللادريفوسيين، المناهضين للسامية والمؤيدين للجيش وللكنيسة، والملتفين حول "رابطة الوطن الفرنسي"، أشهر تجمع يميني في حينه. وليس هنا مجال استعادة قصة دريفوس التي انتهت بإعادة محاكمته وتبرئته ورد اعتباره اليه عام 1906. وانما المهم انه منذ ذلك الحين برز "المثقف" في دور جديد: لا دور المستشار لدى السلطة القائمة، ولا دور الكاتب المحترف المحرر لخطابات الملوك والرؤساء ورسائلهم، ولا دور الفقيه الموظف لكل طاقته العقلية في خدمة النصوص الدينية واعادة تأويلها للتوفيق بينها وبين مستجدات العصر، بل دور الممثل لسلطة نقدية مستقلة عن سلطة الدولة وجيشها والكنيسة، والناطق بلسان الحقيقة مهما تكن الحقيقة مؤلمة وجارحة، والمعبر عن "ضمير العصر". وربما كان أهم تغيير استحدثه تدخل زولا في وظيفة المثقف هو تحول هذا الأخير الى "مثقف ملتزم"، يحق له ويتوجب عليه ان يتدخل في الشأن العام ويرفع صوته ويشهر قلمه لممارسة الحق في الاعتراض والاحتجاج في كل مرة يتراءى له فيها ان القيم الاساسية للثقافة وللحقيقة وللحرية مهددة من قبل "مراكز القوة" القائمة من حكومة وجيش وكنيسة ومصالح مالية وكولونيالية. وهذا الحق في التدخل في الشأن العام وتوظيف المثقف للشهرة التي يتمتع بها في محاولة للتأثير على الرأي العام ولتغيير قرارات السلطة القائمة، وجد تعبيره في "العريضة" التي بات من تقليد المثقفين، منذ أيام زولا، ان يمهروها بإمضائهم للتعبير الجماعي عن مواقفهم الاحتجاجية. وعلى هذا النحو نشرت الصحف الفرنسية ابتداء من أواخر القرن التاسع عشر سلسلة من العرائض والرسائل المفتوحة التي تحمل عشرات التواقيع بل مئاتها من قبل مشاهير المثقفين للاحتجاج الجماعي على تشييد برج ايفل مثلاً، أو للمطالبة بوقف الملاحقات القضائية ضد روائي معاد للنزعة العسكرية ومتهم بالنيل من سمعة الجيش، أو للدفاع عن كاتب متهم بممارسة الاباحية في كتاباته. لكن العريضة الأشهر من هذا المنظور تبقى تلك التي أخذ المبادرة الى توقيعها، ودوماً بخصوص قضية دريفوس، كل من أميل زولا واناتول فرانس، والتي ما لبث ان وقعها 2000 من العاملين في حقل الثقافة والتعليم الجامعي ممن سيعمدهم كليمونصو، زعيم اليسار الجذري في حينه قبل ان يشغل لاحقاً منصب رئاسة الوزارة ورئاسة الجمهورية، باسم "المثقفين"، وهذا لأول مرة في تاريخ هذه الكلمة. لكن "العبادة البطولية" التي بات المثقفون موضوعها على إثر بادرة زولا واناتول فرانس لم تعمر طويلاً، فسرعان ما ظهرت نزعة معادية للمثقفين من جانب اليمين واليسار معاً. فمن أبرز من تصدى من المعسكر اليميني للتشنيع على المثقفين، من حيث هم مثقفون، موريس باريس الذي كان يتمتع في حينه بشهرة كبيرة كروائي قومي النزعة وداعية الى "عبادة الأرض والأسلاف". ففي رأي باريس الذي يعرفه القراء العرب من خلال الترجمة المبكرة لروايته "جنة على نهر العاصي" ان "المثقفين هم ارستقراطيو الفكر الذين يتباهون بأنهم لا يفكرون كما يفكر الرعاع". واتهمهم الكاتب المسرحي الرومانسي فريدريك لوميتر بأنهم "مناطقة المطلق والناطقون، المنفصلون عن الواقع، بلسان المجرد". ورماهم الناقد فردينان برونتيير بأنهم "مرضى بالفردية، داء العصر الأكبر". أما الصحافي الذائع الصيت في حينه، ادوار درومون فقد دمغهم بأنهم "طغمة اوليغارشية دعية ومغرورة بما تحمله من ألقاب وشهادات جامعية"، وان المثقف هو "الاسم الحركي" لليهودي وللماسوني، أو في أحسن الاحوال "البروتستانتي المعتاد على الفحص النقدي للكتب المقدسة". ولم يكن النقد الآتي من معسكر اليسار أقل لذعاً وعدائية، وهذا رغم ان اكثر الدريفوسيين كانوا في حينه من اليساريين. وقد جاء النقد اليساري للمثقفين كتعبير واستمرار معاً عن النزعة العمالية الخالصة التي كانت تعتبر ان البروليتاريا الصناعية هي وحدها المرشحة لأن تكون قائدة خلاص البشرية، وانه ما من طبقة أخرى يمكن ان تلعب دورها ولو كانت هي "الانتلجنسيا البروليتارية" كما كان بعض المثقفين المتمركسين يصفون أنفسهم. وعلى هذا النحو، فإن جول غيد، الزعيم النقابي التاريخي ومؤسس "الحزب العمالي الفرنسي"، وصف المثقفين بأنهم "وصوليون" و"مخلّعون طبقيون". وكذلك فعل جورج سوريل، ايديولوجي "النقابة الثورية" الذي اعتبر المثقفين "طبقة طفيلية" تحترف التفكير وتتظاهر بأنها متجردة ومؤتمنة على الحقيقة، مع انها لا تخدم في محصلة الحساب سوى مصالحها الخاصة. والى مثل هذا الرأي ذهب تلميذه ادوار بيرت الذي خص المثقفين بدراسة شاملة أعطاها هذا العنوان الدال: "مساوئ المثقفين"، اتهمهم فيها بالارتباط بآليات المجتمع البورجوازي، على رغم مدعاهم اليساري، مؤكداً انه "ليس من نظام سياسي اسوأ من ذاك الذي يحتل فيه المثقفون مكانة مرموقة". اما الماركسي هوبير لاغارديل، مؤسس "الحركة الاشتراكية"، فقد وصفهم بأنهم "طفيليات تعتاش على هامش الحركة الاجتماعية"، وأعلن بمنتهى الوثوق ان "الماركسية هي بجوهرها فلسفة معادية للمثقفين". وقد حاول سارتر، غداة الحرب العالمية الثانية، ان يتقمص دور اميل زولا وان يضع نظرية متكاملة حول وظيفة المثقفين كعمال في مصنع الحقيقة وكفَعَلة تاريخيين للتغيير الثوري على مستوى الوعي. وعلى هذا النحو صاغ نظريته المشهورة في الالتزام من خلال المقدمة التي صدّر بها مجلته "الأزمنة الحديثة" في نهاية 1945. ولكن عملية "التعبئة الثقافية" التي حاولها سارتر لم تتمخض عن تجديد للهزة الفكرية والسياسية التي أحدثتها "إني أتهم" لزولا. فعلاوة على ان الوجودية نفسها انتهت، كمذهب فلسفي، في مقاهي سان جرمان وكهوفه، فإن خلافات عميقة نشبت بين سارتر وشريكيه الكبيرين في مشروع "المقاومة الثقافية": ألبير كامو وريمون آرون. وفي الوقت الذي اكتفى فيه كامو بالإشارة من طرف خفي في كتابه "الانسان المتمرد" الى سكوت سارتر، كممثل عن المثقفين الثوريين، على ارهاب الدولة بصيغتها التوتاليتارية الستالينية، بادر ريمون آرون الى كتابة أهجية كبيرة ضد التورط الماركسي لسارتر تحت عنوان "أفيون المثقفين". أضف الى ذلك ان مثقفي الحزب الشيوعي الفرنسي، الذي كان في حينه حزباً ستالينياً خالصاً، لم يقبلوا محاولات سارتر التقرب من "حزب الطبقة العاملة" والانضواء تحت لواء الماركسية التي اعتبرها سارتر "الأفق الايديولوجي غير القابل للتجاوز لعصرنا". ورداً منهم على الانتقادات التي وجهها الى الممارسات الستالينية، في مسرحيته "الأيدي القذرة" شنوا عليه في الصحيفة الرسمية للحزب "الاومانيته" وفي مجلته الفكرية "النقد الجديد" حملة شعواء وصفوه فيها بأنه "ابن آوى يحمل قلماً" و"ضبع يتقن الضرب على الآلة الكاتبة". وهكذا، وبدلاً من ان تفلح نظرية الالتزام السارترية في تأسيس المثقفين في "كرامة تاريخية جديدة"، فإنها لم تتأد الا الى نشر "الغسيل الوسخ" لخلافاتهم الداخلية على الملأ. ولقد قدمت حرب الجزائر وحرب فيتنام فرصة أخيرة لالتزام المثقفين الفرنسيين. ولكن مع نهاية هاتين الحربين بدا المثقفون وكأنهم موظفون بلا وظيفة. وبالإضافة الى البلبلة التي عصفت بصفوف المثقفين ولتصورهم لدورهم في التاريخ عقب ثورة الطلبة في ايار مايو 1968، فقد اصاب تصدع خطير آخر جبهة للصمود الثقافي، وهي الجبهة الماركسية. فقد راح عشرات المثقفين ممن سيدعون لاحقاً بالماركسيين السابقين، يغادرون على عجل سفينة الحزب الشيوعي قبل ان تغرق، ومن هؤلاء هنري لوفيفر ولويس ألتوسير وروجيه غارودي. وقد أعلن واحد من أبرز هؤلاء الناجين، وهو ريجيس دوبريه، عن "نهاية عصر المثقفين" بالتواقت مع "نهاية عصر الايديولوجيا". ولكن هذا النعي كان سابقاً لأوانه بعض الشيء. فالمثقف الذي مات بالفعل هو "المثقف الكوني"، اما المثقفون الذين تحولوا الى اختصاصيين في علوم السياسة والمجتمع والانسان، فلم يفقدوا كل دور لهم. بل على العكس. فهذه العلوم التي انجزت طفرة كبيرة الى الامام مع نهاية عصر الايديولوجيا، صارت تشكل جزءاً أساسياً من "بنك المعطيات" الذي لا مناص من ان يرجع اليه صناع القرار السياسي في كل قرار عيني يتخذونه. وبالإضافة الى ذلك، فإن ثورة التكنولوجيا الاعلامية، والدخول الكوني للبشرية في عصر التلفزيون، أتاحا للمثقف ان يؤدي، من خلال الشاشة الصغيرة، الدور الذي كان يؤديه الفقهاء في الحضارات المتمركزة حول نص مقدس. فما من حدث يستجد، وما من قرار مصيري يتخذ أو يمكن ان يتخذ، الا ويطلب منه ان يحلله ويفتي برأيه فيه. وعلى هذا النحو صار المثقفون أكثر من أي وقت مضى، صناعاً للرأي العام. والحال ان الرأي العام، في الأنظمة الديموقراطية، صار شريكاً رئيسياً في... صنع القرار.