على رغم القرب الجغرافي لإيران، لكن الأدب الفارسي لم ينقل إلى العربية على نحو يتناسب مع ذلك القرب. القارئ العربي يعرف أدب أميركا اللاتينية، مثلاً، أكثر من معرفته الأدب الفارسي. بين الحين والآخر تظهر ترجمات للأدب الفارسي، ولعل آخرها رواية"طهران مدينة بلا سماء"للكاتب الإيراني أمير حسن جهل تَنْ الذي ولد في 1956. بعد عدد من المجموعات القصصية، أصدر، مطلع الثمانينات من القرن الماضي، روايته الأولى"روضة القاسم". حصيلة كتاباته بلغت، حتى الآن، خمس مجموعات قصصية، وست روايات، وسيناريو فيلم سينمائي، فضلاً عن عدد من المقالات نشرت في مطبوعات إيرانية وألمانية. في رواية"طهران مدينة بلا سماء"، التي ترجمها سليم عبد الأمير حمدان وأصدرتها دار المدى دمشق - 2008، تتبدى بوضوح سيطرة هاجس الرقيب على قلم الكاتب الذي عاش تجربة مريرة مع الرقابة في بلاده. فروايته الأولى بقيت سجينة 16 عاماً على يد تطلق السلطات سراحها، بل وصل الأمر إلى حد محاولة تصفيته جسدياً من قبل دوائر الأمن على خلفية نشاطه في إعادة تأسيس"مركز كتّاب إيران". وهذه الرواية ذاتها، لم توافق الرقابة على طباعتها إلا بعد أن حذفت الكثير من الفقرات، وحين قرر حمدان ترجمتها طلب من الكاتب نص المخطوط الأصلي، قبل إعمال مقص الرقيب الكريم فيه، واعتمده في ترجمة النسخة العربية. مع ذلك، فإن من الواضح أن لغة الكاتب بدت مشفّرة، خاضعة للمزاج السياسي الذي ساد إيران بعد الثورة الإسلامية نهاية السبعينات. اللغة في صفحات الرواية تلمّح أكثر مما تصرّح، ويلجأ الكاتب إلى الاختزال والتكثيف بدلاً من الاستطراد والإسهاب. وثمة فقرات، وعبارات بدت ناقصة"ومبتورة تفتح الباب واسعاً أمام تأويلات شتى. ما الذي يقصده الكاتب، مثلاً، حين يقول:"إنك لا تزيحين هؤلاء الصيصان ذوي الربطات الفراشية..."، ومثل هذه التعابير الملغزة، المماثلة، تتكرر كثيراً في رواية يجتهد كاتبها لتجاوز موانع الرقيب، وقيوده. ولا شك في أن هذه الرقابة الذاتية الصارمة، والتوجس من"الخطوط الحمر"الكثيرة، قد أحدثا ثغرات في بنية الرواية ومضامينها، وأربكا سلاسة السرد. ولهذا، ربما، اضطر المترجم إلى وضع شروحات كثيرة احتلت تسع صفحات في نهاية الرواية، وهو أمر نادر في فن الرواية الذي لا يحتاج عادة سوى إلى هوامش قليلة. هذه الشروحات الوافية، التي تقدم توضيحاً لأسماء الأماكن والشخصيات، وللتواريخ والمحطات الحاسمة، وفحوى المقولات والأمثلة السائدة، تعين القارئ على فهم طبيعة الأحداث، وتضعه في أجواء الرواية ومناخاتها وسياقاتها، لا سيما أن الرواية نابعة من صميم الثقافة المحلية، ومتكئة على خصوصية مدينة طهران، وعلى فرادتها كمسرح يحتضن الحدث الروائي. عرف جهل تن في كتاباته عموماً، بالدفاع عن قضية المرأة، إذ سخر الكاتب قلمه لهذه القضية كما هي الحال في رواية"طهران مدينة بلا سماء"التي ترصد جوانب من تحولات المجتمع الإيراني في العقود الأخيرة، وترسم صورة للمرأة في مواجهة العقلية الذكورية التي تتعامل معها كجارية أو كأداة للمتعة. يتأرجح السرد الروائي بين حقبتين مفصليتين في تاريخ إيران الحديث، حقبة الشاه، ومرحلة ما بعد الثورة الإسلامية أو"ثورة الملالي". هذا التنقل بين حقبتين يقود الروائي، بالضرورة، إلى الاعتماد على تقنية"الفلاش باك". بطل الرواية، كرامت، يعيش في طهران أو طهرون، بلغة الأوباش، والفتوات. وعبر عيني هذه الشخصية الروائية ينقل لنا جهل تن تفاصيل هذه المدينة التي تتلقى الطعنات من كل الجهات. مدينة منتهكة في أزمنة الخراب. لكن جهل تن يعود، كذلك، مع البطل إلى سنوات بعيدة خلت حين كان كرامت يعيش عنفوان الشباب، وطيشه، وكان معجباً بنفسه كأحد فتوات أو بلطجية العهد الملكي، إذ كان يعيش في قاع المجتمع، بل كان طرفاً رئيساً في تلك الحياة السرية، الصاخبة التي تتشكل في الزوايا الخلفية للمدينة. ومثلما أن الواقع الإيراني قد تبدل برمته بعد الثورة - ليس نحو الأفضل، وإنما تبدل فحسب - فإن بطل الرواية كان مستعداً لتجسيد هذا التبدل في سلوكه وتصرفاته. إنه شخص نكرة، أو"مسخ"بالتعبير الكافكاوي، يسير، مكرهاً، ذليلاً، مع التيار على رغم ادعائه القوة والعزيمة. لقد تحول من"فتوة تحت الطلب"، إلى مسؤول عن تعذيب المعارضين لنظام الثورة، الذين ينتمون في معظمهم إلى الحركات اليسارية، والى منظمة مجاهدين خلق. والواقع أن شخصية كرامت تمثل المكر والانتهازية في أبلغ صورها وتجلياتها، فهو يغير أقنعته وفقاً لمصالحه الشخصية، ولا يعنيه وسط هذه التحولات الدراماتيكية العاصفة، سوى الحفاظ على مكتسباته، وهي لا تتعدى الفتات، على أي حال. الرواية، في سعيها إلى رصد التحولات والانعطافات الحادة التي شهدتها إيران، لا تنتصر لعهد دون آخر، ولا تنتقد عهداً دون آخر. فمن منظور الرواية، ثمة من يستأثر بامتيازات السلطة التي تعيد إنتاج آليات القمع ذاتها، لكن بلبوس وشعارات مختلفة. أما السواد الأعظم من الشعب فمحروم، فهذا الشعب لا قيمة له إلا في توظيفه واستخدامه لتلبية أوامر أقطاب هذا النظام أو ذاك. ولعل هذا هو القاسم المشترك بين العهدين، حتى أن السرد يتداخل، إذ يلتبس الأمر، أحياناً، على القارئ الذي يتساءل عن أي مرحلة يتحدث الكاتب، هنا، فصرخات التعذيب في الزنازين المظلمة تجمع بين العهدين، مع ملاحظة أن الكاتب ينتقد المرحلة السابقة باسترسال، وبلا تحفظ، بيد انه يتوخى الحذر لدى انتقاد"الثورة الوليدة". المرأة التي تعيش على هامش الحياة في طهران تحتل متن السرد. لكنها لا تحضر كشخصية مستقلة لها دور ومكانة، حضورها تابع للرجل. وهي هنا تحضر عبر علاقتها ببطل الرواية الذي يرى ان"المرأة منبع الإثم". تزوج كرامت من غنجة إرضاء لرغبة الأهل، فتحولت إلى"جارية". إن الرؤية الذكورية التقليدية، التي يؤمن بها كرامت، والتي تحيل المرأة إلى وسيلة للمتعة فحسب، سوف لن تكتفي بامرأة واحدة. يجمع كرامت من حوله الكثير من العشيقات عبر علاقة قائمة على الاستلاب، والرضوخ له. بتول المغرمة بكرامت، تسعى جاهدة إلى إرضائه بشتى السبل، وكذلك طلا الثرية التي يبتزها، وينتزع منها المصاغ والحلي... وثمة نساء أخريات لا يظهرن إلا كضحية لعنجهية كرامت. وهذه العنجهية وقع هو نفسه ضحيتها. فهو، في النهاية، ليس سوى أداة طيعة بيد من يملكون زمام الأمور. وسط هذه الأحداث والتحولات، تبقى طهران حاضرة في صفحات الرواية بشوارعها وأزقتها وحاراتها ومعالمها وروائحها وتناقضاتها. مدينة جميلة، دافئة تارة، وقاسية، موحشة تارة أخرى. مدينة ملونة، مخاتلة تتدفق الحياة بين جنباتها. مدينة بلا سماء، وهي كناية عن افتقاد الطمأنينة والأمان. مدينة تضج بالمفارقات، وتتوق إلى الهدوء.