آزار نفيسي كاتبة ايرانية "منشقة"، غادرت طهران في العام 1997 الى واشنطن بعدما أدركت أنها لم تبق قادرة "على العيش هكذا" كما تقول في ختام كتابها "قراءة لوليتا في طهران" وهي وضعته بالانكليزية، لغتها الثانية، وترجم الى لغات عدة ومنها الفرنسية دار بلون، باريس 2004. و"العيش هكذا" عبارة تعني الكثير لها، كامرأة أولاً ثم كأستاذة جامعية ثم كقارئة وكاتبة. فالعيش في إيران بات يعني في نظرها "الامحاء" و"اللاوجود" أو الاختفاء وراء ستار، حقيقي ورمزي في آن واحد، يلغي صفاتها ويجعلها مجرّد امرأة لا وجه لها ولا هوية. وفي ختام كتابها تقول أيضاً: "غادرت إيران لكن إيران لم تغادرني". تُرى أي إيران تقصد الكاتبة التي شاءت كتابها أشبه بالسيرة الشاملة، المفعمة بالفضائح والمآسي، بالخوف والقمع والاذعان؟ ليس كتاب "قراءة لوليتا في طهران" رواية ولا مذكرات ولا سرداً ذاتياً ولا مجموعة قصص أو نصوص، بل هو كل هذه الأنواع مؤتلفة ومتداخلة في نص طويل قسّمته الكاتبة أجزاء لتخفف من وطأة التفاصيل ا لكثيرة التي تشغل صفحاته وهي كادت تقارب الأربعمئة. وتضمّن الكتاب أيضاً قراءات نقدية عدة في روايات اجنبية - أميركية في معظمها - وبدا ورودها في الكتاب "ظاهرة" لافتة جداً حتى لمن الممكن القول ان هذا الكتاب هو مجموعة روايات فككتها الكاتبة وأعادت تركيبها في طريقة مختلفة عن الأصل، من خلال نقدها واستعراض شخصياتها وبعض المواقف المهمة فيها. إلا أن الكتاب يظل أقرب الى التحية الموجهة الى القراءة والى القراءة الحذرة والخطرة تحديداً، أي قراءة رواية "لوليتا" الجريئة جداً والسافرة جداً في بيئة منغلقة على نفسها ومحاصرة بالممنوعات والمحظورات والمحرمات. ثمة صفحات في الكتاب تمتدح القراءة التي أضحت في طهران أمراً شائكاً وصعباً خصوصاً إذا كانت خارج الإطار "الايديولوجي" المرسوم مسبقاً. يدور الكتاب حول "محترف" أو منتدى للقراءة - وليس للكتابة - أنشأته الكاتبة التي تتولى فعل السرد مستخدمة ضمير المتكلم. هذا المحترف أرادته متنفساً لها ولسبع من طالباتها بعدما استقالت من الجامعة عام 1995 منذ أن أصبحت "جامعة إسلامية" بحسب تعبيرها، وبعدما شعرت بأنها غير قادرة على الخضوع للشروط المفروضة وهي معروفة في الجمهورية الإسلامية. كان هذا "المحترف" حلمها واستطاعت أن تحققه طوال سنتين، متحدية الظروف التي كانت تحيط ب"المحترف" من خارج. جمعت الكاتبة سبعاً من طالباتها في الأدب الانكليزي من فئات مختلفة وراحت تحيي معهن لقاء اسبوعياً - نهار كل خميس - يقرأن فيه روايات أجنبية ويناقشنها متوقفات عند المحطات المهمة فيها والأحداث والشخصيات. مانا، مهشيد، نسرين، ياشي، آزين، ميترا وساناز... هؤلاء الطالبات السبع كن "بطلات" هذا المحترف، اضافة الى الكاتبة التي تختار الروايات وتوجه فعل القراءة. يتحول "المختبر أو المنتدى "فضاء لنا" كما تقول مانا. انه في معنى ما صيغة أخرى ل"الغرفة" الخاصة التي تتحدث عنها فيرجينيا وولف، لكنها "غرفة" لثماني نسوة وفتيات يمارسن فيها القراءة بحرية تامة وبعيداً من أعين "السلطة" وحراس الثورة. وفيها أيضاً يخلعن الحجاب والثياب الطويلة السود ويظهرن في ملابس حديثة وملوّنة، ك"الجينز"، وبوجوه متبرّجة قليلاً. تكتب ازار نفيسي كتابها في الولاياتالمتحدةواشنطن بعدما أصبحت استاذة في جامعة جون هوبكنز. وهي كانت درست سابقاً في الغرب بين انكلترا وسويسرا والولاياتالمتحدة الأميركية وعادت الى ايران بعد سبعة عشر عاماً من "الهجرة" لتجد أن "كل شيء تغير" غداة الثورة الخيمينية. وإن كانت تكتب بحرية مستعيدة "المشهد" الايراني الطويل والمتقطع فهي أدركت ان عليها ان تحرّف أسماء الطالبات والأشخاص الآخرين وكذلك بعض الأحداث لئلا يتعرض هؤلاء لأي ملاحقة داخلية. انها تكتب متحررة مما تسميه "الكابوس" الذي طالما قضّ حياتها وحياة الفتيات والنسوة الايرانيات كما تقول. بين يديها الآن صور التقطت في "المحترف" تمثُل فيها الطالبات بأوضاعهن "المختلقة"، منزوعات الحجاب، متألقات ولكن ببراءة بيّنة. فهنّ في حال من الخشية على رغم غياب الرجل عن لقائهن والعين المراقبة. في منزل الكاتبة الذي كنّ يلتقين فيه تمثّل النافذة إطلالتهن الوحيدة على الخارج. إنها الفاصل بين عالم وآخر، عالم داخلي خاص وآخر خارجي عام. في الداخل يحضرن جميعاً ويعشن جزءاً من حلم، وفي الخارج يغبن في مكان يبدو "الغياب فيه أشد واقعية من الحضور". أصبحت القراءة طريقة في العيش والوجود: "لم نكن لنوجد في طريقة أخرى" تقول ازار، وبات الأدب "حاجة أساسية وضرورة وليس مجرّد ترف". وكانت الروايات تسمح لهن بمواجهة الواقع والهروب منه "لأننا كنا نُفتن بجمال تلك الروايات المتقنة"، تقول الكاتبة أيضاً. وأخذاً بقول نابوكوف الذي تخصصت الكاتبة بأدبه ومفاده: "القراء يولدون أحراراً ويجب أن يظلوا هكذا" سعت النسوة الى ممارسة أجمل حرياتهن وهي قراءة الكتب الممنوعة في الجامعة أجل الجامعة والمتهمة بالإباحية والنزعة الغربية والتحرر والإفساد... وكان أحد المقاييس المعتمدة في القراءة "النسوية" إيمان هؤلاء الكتّاب ب"القدرة النقدية وشبه السحرية للأدب". وفي تلك "الغرفة" الخاصة، "خلال تلك الساعات" كانت النسوة يتكلمن عن أحزانهن وأفراحن وعن الصعوبات التي تعترض حياتهن والمشكلات و"الضعف الشخصي". فبعضهن سجن وتعرض للاهانة والجلد وبعضهن خضع لسطوة الأب والأخ... وتسأل الكاتبة: "لماذا تملأنا بالبهجة قراءة كتب مثل "لوليتا" و"مدام بوفاري"؟ هل في مثل هذه الروايات أمر غير سويّ أم تراه فينا نحن؟". لا يقتصر الكتاب على "منتدى" القراءة هذا بل يشمل، من كونه سيرة شاملة، الحياة في طهران من وجهة نظر الكاتبة التي تمثل نموذج المرأة المثقفة جداً والمتمردة على واقعها السلبي. ويتناول الكتاب جوانب عدة من الحياة الثقافية والجامعية والسياسية والانسانية في إيران الثورة، وايران النظام الجديد، وايران التي خاضت أعنف المعارك مع العراق، وإيران التحولات وحركات الاحتجاج والمؤامرات الداخلية... وكل هذه النواحي تدور من حول تلك الغرفة والقراءات و"التخيلات". فالكاتبة لا تعتمد بنية تصاعدية أو روائية بل هي تنتقل من قضية الى أخرى ومن زمن الى آخر، عبر تقطيع فعل السرد. هكذا تتحدث مثلاً عن جامعة العلاّمة طباطبي التي درّست فيها الأدب الانكليزي بدءاً من 1987 عام عودتها الى إيران، وتصف الجو السلبي الذي راح يهيمن على الجامعة، وتتحدث عن منع تدريس الكثير من الكتّاب الغربيين وفي مقدمهم إرنست همنغواي والأختان برونتي... وعندما تغادر هذه الجامعة إبان صعود الحركة الإسلامية تسأل نفسها: "لماذا توقفت فجأة عن التعليم: هل من جراء انخفاض مستوى الجامعة؟ أم إزاء اللامبالاة التي يبديها الأساتذة والطلاب معاً؟ أم انها المعركة اليومية مع الممنوعات والقوانين الاعتباطية؟" وكان يؤلمها كثيراً تدخّل "الحرس الثوري" في حياة الأساتذة والطلاب بدءاً من بوابة الجامعة حيث تخضع الطالبات للتفتيش على أيدي "الحارسات" علّ في حقائبهن الصغيرة أدوات تزيين كأحمر الشفتين وسواه... وانتهاء بالآراء التي كان يبديها طلاب "ملتزمون" في قاعة الدرس، ناهيك بما يدور حول الجامعة من أحداث. وتتحدث كذلك عن اغلاق النظام الجديد المكتبات الاجنبية أو تلك التي تعنى بالكتاب الأجنبي. ترسم آزار نفيسي صورة قاتمة عن إيران وعن عاصمتها، صورة شاءتها واقعية وحقيقية ومحفوفة بقدرمن السخرية المرّة، على رغم سَوْقها بعض الوقائع والشخصيات الطريفة جداً. ومنها شخصية رئيس الرقابة على السينما الذي عيّنته "الثورة" وهو يكاد يكون ضريراً وكان في السابق في عهد "الثورة" أيضاً رئيس الرقابة على المسرح، وكان يمارس الرقابة وإلى جانبه شاب يفسر له ما يحصل على الخشبة، فيأمر بحذف مشهد أو آخر. ثم انتقل بنظارتيه السميكتين الى الرقابة التلفزيونية وكان يطلب من كتّاب السيناريو ان يسجلوا أعمالهم على أشرطة كاسيت فيراقبها سمعياً. وتقول الكاتبة ان الرقيب الذي أعقبه كان يعتمد الاسلوب نفسه من غير أن يكون أعمى. وإغراقاً في المزيد من السخرية الأليمة والعبثية تقول الكاتبة: "هكذا كان "المنتدى" محاولة للهرب من نظر الرقيب الأعمى ولو خلال ساعات في الاسبوع". تتحدث آزار نفيسي عن "المظهر الغربي" الذي قاد ستّ فتيات الى السجن مع 25 جلدة، علماً أنهن كنّ محتشمات في ملابسهن وحجابهن. أما خطيئتهن فهي جلوسهن مع خطيب إحداهن في حديقة منزل الخطيب. وعندما داهم حرّاس الثورة المنزل وفتّشوه ولم يجدوا شراباً منكراً ولا اسطوانات غربية وسواها من المحظورات اقتدن الفتيات الى أحد المستشفيات للتأكد من عذريتهن. وعندما كن عذراوات اختلق الحرس لهن تهمة "التصرّف الغربي" أو "المظهر" الغربي، فاقتادوهن الى السجن وكان نصيبهن 25 جلدة. وتسرد نفيسي أيضاً قصة صديقتها الرسامة التي منعت من رسم المشاهد البشرية والمناظر الواقعية فوجدت في الفن التجريدي ملاذاً لتتمكن من مواصلة الرسم. وهكذا انتقلت قسراً الى التجريد، وباتت ترسم "ألوان أحلامها" كما قالت لصديقتها الكاتبة. وفن "الأحلام" مهنة أضحت تحترفها الكثيرات من الفتيات والنسوة الايرانيات، وخصوصاً بعد منع المرأة من الرقص الكلاسيكي والحديث ثم من الغناء والسبب أن "صوت المرأة مثير مثل شعرها ويجب أن يُخبّأ". إنها صورة قاتمة عن ايران التي تنظر اليها الكاتبة وأولادها كما لو أنها بلاد أناس آخرين. ولعل البادرة الايجابية التي تسجلها لمصلحة النظام هي دعوته، خلال ما سمي ب"الانفتاح على أوروبا"، المفكر الفرنسي بول ريكور الى طهران وكذلك نايبول حائز نوبل، وسماحه بترجمة ميلان كونديرا الى الفارسية... لكن هذه البادرة لم تتم مجاناً، كما تشير الكاتبة، فلم تمضِ أشهر حتى قتل أحمد مير علي مترجم نايبول وكونديرا وناشرهما. مثلما قتل أيضاً أحد المتخصصين بالأدب والتاريخ الفارسيين القديمين. لا يدري القارئ ان كانت الكاتبة تغالي في تشاؤمها ونظرتها السلبية الى نظام لم تعد قادرة على العيش في ظلّه وجعلت من كتابتها وسيلة للانتقام منه، فضحاً وتشريحاً. ولم توفّر في نقدها الحرب التي وقعت بين إيرانوالعراق والتي دامت ثماني سنوات رعباً وفتكاً وضحايا بلغوا قرابة المليون، قتيلاً وجريحاً. كانت "الغرفة" إذاً حيّزاً شبه منفصل عن طهران وقائماً في قلبها في الحين عينه. إنها الغرفة التي تمت فيها قراءة "لوليتا" وسواها لنابوكوف وروايات أخرى لجين أوستن "كبرياء وأحكام مسبقة"، "إيّما" وفيتزغرالد "غاتسبي الرائع"، وهنري جيمس وصويل بيلو وفولكنر وكونراد والأختين برونتي... وهنا في هذه الغرفة قرئت أجزاء من "ألف ليلة وليلة" التي منعت الثورة ترجمتها الفارسية وجرى الكلام عن "مدام بوفاري" للفرنسي فلوبير والأدب الفارسي القديم وتولستوي وإليوت وسواهما. وبدت الكاتبة منحازة الى نابوكوف والى عالمه الروائي ولا سيما رائعته "لوليتا" التي تمعن فيها شرحاً ونقداً. وتقول نفيسي: "سأكتب عن "لوليتا"، ولكن الآن لا يسعني أن أكتب عن "لوليتا" من دون الكلام عن طهران. هذه إذاً حكاية "لوليتا" في طهران، حكاية اللون المختلف الذي منحته "لوليتا" لطهران وحكاية الضوء الذي أضفته طهران على كتاب نابوكوف والذي جعل من لوليتا هذه، لوليتا - نحن". على أن البطلة "لوليتا" لن تحتل مخيلة الكاتبة فحسب بل ستحلم بها القارئات السبع ويعشن "قصتها" أو مغامرتها السافرة التي عاشتها مع البطل همبرت. وهذا البطل تصفه الكاتبة ب"المجرم" وتخصص صفحات لتحليل علاقته بالفتاة. وترى أن الرواية هي "حكاية فتاة في الثانية عشرة لا مكان لها لتذهب اليه. حاول همبرت ان يجسد عبرها حلمه الشخصي، وأن يحيي حبّه الميت، فدمّرها. الحقيقة الرهيبة في هذه الرواية لا تكمن في اغتصاب رجل كريه فتاةً في الثانية عشرة، بل في مصادرة فرد حياة فرد آخر". وتتوجه الكاتبة الى قارئها: "أطلب منك أن تتخيلنا ونحن نقرأ "لوليتا" في طهران: رواية يسعى فيها رجل، بغية اغراء أو امتلاك فتاة، الى التسبب في موت امها شارلوت، مواربة، ويأسر الفتاة طوال سنتين. هل يدهشك هذا؟ ولماذا "لوليتا"؟ لماذا "لوليتا" في طهران؟". حاولت الكاتبة ان تجعل من النسوة والفتيات السبع شخصيات ولكن غير روائية طبعاً، مركزة على ملامحهن الحقيقية المتوارية خلف الحجاب وعلى سيرهن العابرة والحافلة ب"المآسي" الشخصية الصغيرة واليومية. وإذا لكل واحدة منهن حياتها وزمنها وقضيتها وخوفها وحلمها... وما يقربهن من الشخصيات المبتدعة كونهن يملكن حكايتين: واحدة واقعية وأخرى مختلقة. ف"النظام حاول أن يمحو هوياتهن وسيرهن الخاصة. كان يصفهن بالنسوة المسلمات ويأسرهن في هذه الصفة". ونظراً الى عدم امتلاكهن صورة محددة عن نفسهن، فهن يرين نفسهن عبر عيون "الآخرين" الذين هم أناس حقيقيون حيناً وشخصيات روائية حيناً آخر. وليس من المستغرب أن تضيف "تلك الغرفة" أو ذلك المنتدى الى حياتهن المصادرة والمغلقة فسحة ملؤها الحرية والتخيل والحلم. "قراءة لوليتا في طهران" كتاب بديع حقاً على رغم قتامته. كتاب واقعي ولكن بجو عبثي وروح ساخرة - بمرارة -، كتاب جريء جداً لا في فضحه نواحي مجهولة من الحياة الايرانية ومن مأساة المرأة الايرانية ولكن في نكئه الجرح الذي لم يندمل في روح صاحبته عندما كانت امرأة ايرانية. واللافت ان الكاتبة لم تعمد الى "تغريب" مادتها السردية ولا الى التركيز على الجانب "الاكزوتيكي" من الواقع الايراني بل هي كانت أمينة على مغامرتها التي لا تخلو من المخاطرة. لكنّ السؤال الذي لا بد من طرحه: أليس من جانب ايجابي للثورة في ايران؟ ولماذا الاصرار على قتامة هذه الصورة عن الجمهورية الايرانية الاسلامية؟ طبعاً أهل النظام الإيراني الراهن لن يرضوا عن الكتاب حتى وإن وجدوا فيه وقائع عدة.