يعود نقولا ناصيف إلى الشهابية، فيكتب"جمهورية فؤاد شهاب"عن دار النهار للنشر، تحدوه مقارنة بين ماضٍ، يحسبه زاهياً، وحاضر ينضح بالقلق وعوامل التوتر، ومستقبل لا تنبئ مقدماته بخواتيم واعدة، لكن الأمر يستحق الضنك، وفي التجربة الشهابية ما يغري بولوج"عوالمها"، من مداخل السياسة والإرادة ومحاولات الإصلاح، أي من بوابات المعضلات اللبنانية المزمنة، التي لم تستطع"الطبقة السياسية اللبنانية، الاهتداء إلى مفاتيح أقفالها، الناجعة، حتى الآن. عليه، يستأنف نقولا ناصيف الجدل، حول الظاهرة اللبنانية، اليتيمة، التي حاولها النظام اللبناني من داخله، فلم يفلح في إيصالها إلى نهايتها، السياسية والاجتماعية، السعيدة. السؤال الذي يُطرح، لمناسبة استعادة هذا الجدل هو: هل كانت الشهابية واحدة من تعبيرات النظام عن حاجاته المستجدة، في الداخل وفي المحيط؟ أم جاءت إلى البنية اللبنانية من خارج سياقها الموروث، فكانت متجاوزة لها وشكلت خروجاً عليها؟ نوع الجواب، يعيد رسم حدود الشهابية الواقعية، ويبرز قدراتها الفعلية، ويفك"أحجية"عجزها عن تجاوز ما كان مقدراً لها أن تبلغه، فتقف عنده ولا تنقلب عليه مؤدى ذلك، إعطاء الشهابية صفة"التدبير الداخلي"المتاح، والابتعاد بها عن سمات"التغيير التقدمي"المأمول... حتى لا نقول"الثوري"المستحيل. الحاجة ملحة، إذن، إلى استعادة الشهابية، منظوراً إليها ضمن سياقها التاريخي، وقراءتها في كتاب الوقائع والتطورات السياسية التي مهدت لها، وسبقت نشأتها، وواكبت حراكها... هكذا تنصف"الشهابية"، عندما تنزل، مجدداً، في المكان الحقيقي، غير المتخيل، الذي كان لها، في مسيرة الكيانية اللبنانية، وفي مسار بناء وطنية اللبنانيين، ومواطنيتهم. كحكم إجمالي، نذهب إلى القول، أن إجراءات الإصلاح التي نفذتها المرحلة الشهابية، تقدم الدليل على أن"الظاهرة"كانت بنت نظامها، وأن"المراجعة الإدارية العامة"التي أقدمت عليها، شكلت حاجة لطرف من أطراف الطبقة الحاكمة، عنينا بها البورجوازية اللبنانية"الناشئة"، فهذه الأخيرة كانت في حاجة إلى تدابير تنظيمية، وإلى شيء من العقلنة السياسية، التي تتيح لها ترجمة وزنها في الحكم، في مقابل شريكها الآخر، المتمثل في الزعامات التقليدية وأصحاب البيوت السياسية، مما كان يطلق عليه إسم"الإقطاع السياسي"، في أدبيات تلك المرحلة السياسية. لم يكن مقدراً"للإصلاح الإداري"أن يذهب إلى منتهاه، لأنه يصير قيداً على الشريحة البورجوازية التي أرادته، في سبيل زيادة حصتها من"الجبنة المحلية"، في مقابل تقليم لطيف"لأظافر"الفريق السياسي، العائلي - الطائفي، شريكها الآخر، إلى مائدة"الثروة الوطنية". لكن إذا كانت الشهابية، إبنة بيئتها بالجملة، فإن هذا لا يلغي ضرورة النظر إلى التفاصيل، التي كان لها مغزاها، والتي كانت موضع صراع، بين أطراف التشكيلة السياسية الحاكمة، لتغليب خيار"إصلاحي استدراكي"على آخر، لأن الحصيلة السياسية، مهما كان حجمها، إنما تقررها موازين قوى، وتساهم في الوصول إليها إجراءات وتدابير، ظاهرها قانوني، ومضمونها اشتباك مصالح اجتماعية، واصطراع رؤى سياسية متباينة. من المجدي، على سبيل التفصيل، تتبع سير الشهابية، من الخارج إلى الداخل، وسلوك الاتجاه المعاكس في الوقت نفسه، لأن حشداً من المعطيات الخارجية يمكن فهمه من خلال استعراض الوقائع الداخلية، وهذه الأخيرة، قد تظل ملتبسة، إذا لم يستعن، في مقاربتها، بدلالات الأحداث الخارجية. على صعيد العلاقة مع البيئة الأقرب، أي المحيط العربي، كان للشهابية طابعها الذي سيرافقها طيلة عهد"قائدها". العنوان الأبرز، في سيرة الشهابية العربية،"مصالحته"مع الناصرية، والحرص على إقامة علاقة وضوح وتواصل مع الرئيس المصري جمال عبدالناصر. كان من شأن ذلك أن يمهد السبيل أمام إزالة آثار سياسة الانحياز الإقليمي والدولي، التي عمل بها الرئيس كميل شمعون، فأفضت إلى اهتزاز الشارع اللبناني، فانفجاره في اقتتال أهلي، في عام 1958. نظر فؤاد شهاب إلى علاقته بالناصرية نظرة توازن، تمليها المصلحة الوطنية اللبنانية العليا، ذلك أن النفوذ الناصري في لبنان كان يرتكز إلى شرائح أهلية داخلية، وتتمسك به زعامات نافذة لبنانية. إقفال التوتر مع مصر، ومع الجمهورية العربية المتحدة، حيّد أيضاً سوريا، الطرف الآخر في الجمهورية، مع ما يعنيه ذلك من انعكاسات تهدئة ضرورية، كان الوضع اللبناني في أمسّ الحاجة إليها، كي يلملم ما تركته الحرب الأهلية من جراح وندوب، هددت الكيان اللبناني، وإمكانية استمرار صيغة العيش المشترك. لم تتجاوز العلاقة المنوّه عنها، عتبة الاستقلالية اللبنانية، ولم تُفرض على اللبنانيين صيغة وصاية أو استتباع. كان اجتماع"الخيمة"بين فؤاد شهاب وجمال عبد الناصر، على الحدود اللبنانية ? السورية، دليلاً واضحاً على ذلك. مجدداً، يجب أن يقرأ المسلك الشهابي في سياقه، وأن تستحضر الوقائع التي سهلت له السبيل. من الوقائع الدالة، أن الوضع اللبناني الداخلي، كان قد استقر على توازن بين قواه، فلم يعرف غلبة لطرف على آخر، مما وفّر بعضاً من الحصانة الداخلية في وجه ضغوط الخارج... ومن الحقائق أيضاً، أن الزعامة الناصرية، لم تكن صاحبة"إدعاءات تاريخية"في لبنان، تشبه الإدعاءات السورية فيه، لذلك اكتفى عبد الناصر، بالخطوط العامة لسياسة لبنان العربية، ولم ينصرف إلى إدارة التفاصيل. تلاقت بذلك إرادتان: واحدة استقلالية لبنانية، تدرك مغزى الاستقلال وتوازناته وحدوده، وثانية عروبية مصرية، تعرف"سر الصيغة اللبنانية"، وتتفهم أحكامها، وتحرص على استقرارها. جنى الطرفان، اللبناني والمصري، جراء التفاهم المتبادل، استقراراً في العلاقة، مثلما"فاز"فؤاد شهاب، بثقة جمال عبدالناصر، وباستعداده لتلبية طلباته، وبقبوله لما يراه من سياسات داخلية، لا تتجاوز على القدرات اللبنانية المعروفة، وعلى الأعراف الموروثة، المعمول بها. في مضمار العلاقة بالسياسة الدولية، لم تواجه الشهابية خيارات حادة، بل هي ورثت، في الحكم، المفاعيل المتلاشية، للأحداث التي واكبها فؤاد شهاب، من موقعه كقائد للجيش اللبناني. كان اللبنانيون قد تجاوزوا، بالحرب، تحديات حلف بغداد، ومبدأ إيزنهاور، اللذين إنحاز الرئيس شمعون إلى"مفهومهما"ونفذ في مرحلة الاقتتال بعضاً من بنودهما، عندما استنجد بالأسطول السادس الأميركي، وغطى نزوله على السواحل اللبنانية. كان فؤاد شهاب"حيادياً"، لم ينسق إلى رغبة رئيسه، بإنزال الجيش، لأنه لا يريده طرفاً يوجه النار إلى أهله، لكنه لم يكن"حيادياً تماماً"عندما حاول اعتراض التحرك الأميركي، وعندما لم يوافق على تغلغله في الداخل اللبناني، ليبلغ المرتفعات... كرست الشهابية مقدار عدم انحيازها، ومقادير وطنيتها، ضمن ما تسمح به الإمكانات الذاتية، الشعبية والرسمية والعسكرية... لكن كل ذلك لم يكن بلا مغزى، بل إنه، في الظروف اللبنانية والعربية، كان موقفاً"شهابياً دولياً"، يستحق أن يؤخذ في الاعتبار. في امتداد"عدم الانحياز الشهابي"، كانت التتمة المنطقية، إقامة أفضل العلاقات مع المجتمع الدولي، والتحصن بالأمم المتحدة، والحرص على التوازن في العلاقة مع الدول الكبرى النافذة في لبنان، لا سيما مع"الأم الحنون"فرنسا. ما خلا ذلك، لم تدخل الشهابية نادياً دولياً، ولم تعتنق مبدأً سياسياً عابراً للحدود، ولم تنضم إلى جهود احتواء النفوذ السوفياتي، ولم تجعل لبنان منصة مناوأة إقليمية، يستخدمها أحد الجبارين الدوليين ضد خصومه في المنطقة، القريب منهم من الحدود اللبنانية، والبعيد منها. عمل شهاب على تأمين الغلاف الخارجي، الإقليمي والدولي، لسياسته، كي يستطيع الإنصراف إلى ورشة الداخل، الذي كان في حاجة إلى كل شيء، من تعريف الهوية والاتفاق عليها، إلى إجراء المصالحة الوطنية والالتفاف من حولها، إلى إزالة الحرمان لملامسة جوانب من العدالة الاجتماعية، الضرورية لكل إصلاح سياسي، إلى تحديث الإدارة، واستيلاد نخبة مثقفة تكون نواة"طبقة سياسية جديدة"تؤمن بالتغيير، وتجدّ في سبيله. لكن ما اجتنبه فؤاد شهاب مع الخارج، كان عليه أن يواجهه في الداخل. فالعراقيل البنيوية حالت في نهاية المطاف دون استمرار"إصلاحاته"، وسمحت لخصومها بمعاودة الانقلاب عليها، بواسطة بعض أبنائها، ودائماً بمبادرة من القوى التي جاءت الشهابية لتسحب مساحة يسيرة من"البساط المفروش"تحت أقدامها. يفتح ذلك الباب واسعاً للقول أن الشهابية وفدت حاملة معضلاتها الخاصة، وعوامل قصورها الذاتي. لقد حجب"القائد"بشخصه، وبمسلكه، وبتاريخه ونفوذه، وبإجراءاته الموضوعية، تجليات المعضلات البنيوية للشهابية، إلى فترة، لكنه لم يكن من الممكن، سياسياً واجتماعياً، حجز أحكام التشكيلة اللبنانية التقليدية، طيلة الوقت. لم تكن الشهابية حزباً، وقد رفض"أبوها"الحزبية، ولم تتحول إلى تيار سياسي محدد المعالم، وواضح الأهداف، كان البرنامج هو الرجل، والنظرية ما ينقل عنه، وما يدلي به من خطب، وما يصدره من توجيهات على هذا المعنى، لم تدق الشهابية باب السياسة كمدخل تأسيسٍ لخط آخر، ولم تلج الإصلاح الداخلي، مرتبطاً برؤية اجتماعية وسياسية وثقافية مغايرة للسائد. هذا لم يكن ليضع الشهابية في خانة"الثورية الإنقلابية"، التي عاندها فؤاد شهاب، ورفضها بحزم، لكن الأمر كان ليكون استجابة"للتدرج"الذي نادى به"صاحب الشهابية"، لكنه قصره على الجانب الإداري، الذي لا يمكن أن يفوز ويترسخ، إلا في مضمار التدرج السياسي أولاً، انطلاقاً من فهم"الصيغة اللبنانية"، التي كانت مفهومة جيداً من قبل فؤاد شهاب، لكن بالتأسيس لوقائع تتجاوزها على طول الخط. لقد غيب"السياسي"، وطغى الإداري، فعاد الأول لاستئناف مسيرته، مبتلعاً ما صار من الماضي، الذي ينذر تجذره، بالانقلاب على شبكة المصالح الداخلية، الموزعة بين اقتسام الثروة، وتوزع الحكم، وتناهب الإدارة، واستتباع الجمهور، واستنفار الغرائز، واستثارة العصبيات الطائفية. يورد الكاتب، أن الرئيس شهاب لم يكن شعبياً، بمعنى إدامة اتصاله بالجمهور، ونضيف أنه لم يتصل بالشعب، بمعنى غياب خطته ورؤيته وبرنامجه، أي غياب كل ما يساهم في تشكيل وعي آخر، يجاور منوعات الوعي اللبنانية، ليعود فيتفوق عليها، من خلال عملية يطلق عليها اليوم إسم: التسويات المتوالية. لقد تدخل الجيش، من خلال جهاز المكتب الثاني، ليعوض شعبية مفقودة، فطبع المرحلة الشهابية بأمرين: الأول، استحالة تحويل"الظاهرة الفوقية"، إلى ممارسة جماهيرية، والثاني، ملء فراغ الولاء الشعبي للظاهرة، بممارسات استخبارية هي مزيج من الترغيب والترهيب، أي بواسطة مسلك لم يجد تربته الملائمة في البيئة اللبنانية. تفتح الخلاصة هذه، على خلاصة أخرى، هي أن الانقلابية متعذرة في لبنان، بسبب من تشكيلته الأهلية، وعليه، فإن الأمر لا يعود فقط إلى موقف"الرئيس"من الانقلاب، فقط، على أهمية هذا الموقف. يمكن الزعم، أن"الشعبة الثانية"الاستخبارات، في عهد شهاب، نفذت"انقلاباً ناقصاً"، أو جزئياً، عندما أمسكت بجزء من الحياة السياسية، ولم تستطع الصمود الدائم، في مواقع تعليقها. ومن المعلوم، أنها عجزت عن إلغائها. ولأن الشهابية بنت ظروفها وبيئتها، ولأنها لصيقة بشخص مطلقها، كان من غير الطبيعي، سياسياً، أن تستمر في الحياة السياسية. لقد اضمحلت الشهابية، بفعل غياب فؤاد شهاب، طوعياً، عن مراكز الحكم، فانكفأ بعدها المحبذون إلى مواقعهم الأولى، وعاودوا بعد فترة، ما كانوا قد ألفوه من ممارسات. ساعد على الاضمحلال، عدد من التطورات العاصفة، التي حلت بالمنطقة، وكان أهمها، حرب عام 1967، التي انتهت بهزيمة عربية مدوية، فأعادت وضع لبنان في"عين العاصفة". ثقل الحضور الشهابي، في السيرة اللبنانية، جعل كثيرين من اللبنانيين ينساقون، مراراً، إلى التعسف في استحضار المرحلة، وإلى المبالغة في القدرة على إعادة إحيائها على أيدي عسكريين آخرين. من البديهي القول، أن الحقيقة تعاند مسار الحنين اللبناني هذا، ومن الأجدى العودة إلى معاينة الجدي الذي طبع تجربة شهاب، ذلك الذي يقوم"الخلف"بتبديده يومياً. لعل أهم ما في الشهابية اعترافها بالمتغيرات التي طرأت على الوضع اللبناني، وسعيها إلى إدراج التوازنات الجديدة، ضمن أروقة الحكم، ليكون الصراع في مؤسساته وليس في الشوارع المشدودة إلى عصبياتها. رافق الاعتراف بالواقع الوطني الداخلي، مسار اجتماعي ? اقتصادي تنموي، حاول نزع فتائل التفجير، وإنهاء القطيعة بين الدولة وابنائها، كما جهد في سبيل أن تكون للمواطن وجهة وحيدة: الدولة، على أمل أن تكون المسؤوليات مشتركة بين"الوطن والمواطن"، وعلى رجاء أن يؤسس للفرد المتحرر من واسطة الماسكين بزمام حياته ومماته. أين يقف لبنان من كل ذلك؟ افتقد اللبنانيون سابقاً إلى الحكمة الشهابية في إدارة التوازن، وها هم يفعلون ذلك اليوم. تسبب الانغلاق المتبادل بحرب أهلية طاحنة عام 1975، وما زال الانغلاق إياه، يشرّع البلد على احتمالات نزاعات مدمرة مقبلة. عاش فؤاد شهاب نظيف الكف، نزيهاً، قاصداً محاربة الفساد، وها هي الصفات المضادة تعود لتلازم السيرة اللبنانية. من الحقيقة القول لا شهابية من دون فؤاد شهاب. واذا كان من الواقع أيضاً أن السياسة مدخل كل إصلاح، السياسة المدنية الديموقراطية العلمانية، الكفيلة وحدها بإطلاق تيار سياسي ? اجتماعي، يستطيع نقل البنية اللبنانية من حال إلى حال. * كاتب لبناني