الدولة اللبنانية، بجميع مؤسساتها الدستورية الاشتراعية والتنفيذية والعدلية، باتت على شفا الانهيار. عنوان من هذا العيار يتردد في تصريحات لمسؤولين، رؤساء ووزراء ونواباً وسياسيين، كأنه من عاديات الأمور. والأخطر من ذلك، أنه صحيح، وأن المسؤولين هم في طليعة الذين ينبّهون ويحذرون، ولسان حال اللبناني يقول: من يحذر من؟ ومن يدّعي على من؟ وحدها مؤسسة الجيش هي فوق هذا الوضع الهش. وهذا ما يجمع عليه اللبنانيون ورؤساء دول صديقة. وفي الإحاطة التي قدمتها المنسّقة الخاصة للأمم المتحدة في لبنان سيغريد كاغ، أمام مجلس الأمن الدولي في نيويورك في جلسة مغلقة عُقدت يوم 16 آب (أغسطس)، قالت كلمات قليلة تختصر الوضع اللبناني: «إنه هش». وهي أبدت قلقاً من اضمحلال المؤسسات اللبنانية. لكنها أبدت تقديراً عالياً للجيش اللبناني، ثم دعت المجتمع الدولي الى تقديم المزيد من الدعم له. عندما انتُخب الجنرال فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية في 23 أيلول (سبتمبر) 1958، خلفاً للرئيس كميل شمعون، وجّه الشطر الأكبر من اهتمامه الى إصلاح الدولة من الداخل، وبدءاً من الجهاز الإداري. وهو كان يعرف علة الدولة وأسبابها، وأربابها، وكان يعطي مثلاً عنها فيقول: إن المرأة اللبنانية من عامة الشعب تتباهى بابنها عندما يحظى بوظيفة في الدولة. وعندما يسألها الأقارب والجيران عن الراتب الذي يتقاضاه ابنها، تجيب باختصار ووضوح: «إن معاشه قليل لكن المدخول البرّاني (الرشوة) لا بأس به»!. وكان الجنرال الرئيس قد اعتمد في بداية عهده على نخبة من الخبراء اللبنانيين في الإدارة والإصلاح والإنماء، وكان له صديق فرنسي خبير في هذه الشؤون، وهو كاهن يُدعى «الأب لوبريه»، وكان مشهوراً في الإدارة الفرنسية، ويحظى باحترام الرئيس الجنرال شارل ديغول. ولم يتأخر الرئيس شهاب بتوجيه دعوة الى الأب لوبريه، فجاء الى بيروت وقبل المهمة الصعبة التي عرضها عليه الرئيس، ولم يكن في وسعه أن يعتذر لأن ما بينه وبين الجنرال شهاب كان عقداً من الصداقة والود والاحترام المتبادل. وقال الجنرال الرئيس لصديقه الخبير الكاهن ما خلاصته وفحواه: أيها الأب والصديق المحترم، أرجو أن لا يصدمك وضع الإدارة اللبنانية، فأنت ستواجه «جدار المال» المحصّن بأساليب الرشوة والاحتيال على القانون، وإننا على يقين بأنك ستنجح، ونجاحك سينعكس على الدولة التي تحمّلنا مسؤولية إصلاحها. كان الجنرال شهاب قد وافق على انتخابه رئيساً للجمهورية بعد إجماع النواب من جميع الكتل والانتماءات على انتخابه، ونزولاً عند رغبة كبيرين من الرؤساء العرب والأوروبيين: شارل ديغول وجمال عبدالناصر. وهو إذ اعتذر عن عدم قبول دعوة الرئيس ديغول لزيارة فرنسا، ترك الدعوة لخلفه الرئيس شارل حلو الذي بدأ بزيارة القاهرة ثم أكمل الى باريس. وتزامنت رئاسة شهاب مع قيام الوحدة بين مصر وسورية. ويوم جاء عبدالناصر الى دمشق وتقاطرت الوفود الشعبية والرسمية من لبنان الى عاصمة الأمويين للتهنئة، طُرحت تساؤلات: هل يأخذ الجنرال الرئيس اللبناني المبادرة لزيارة الجنرال الرئيس العربي الوحدوي؟ وفي جانب آخر، كان هناك إلحاح عاطفي وقومي من زعماء لبنانيين على أن يأتي عبدالناصر الى بيروت. وهذا ما أثار إشكالات سياسية وأدبية محرجة للرئيسين على السواء. كانت الحكومة اللبنانية في تلك المرحلة «رباعية» برئاسة رشيد كرامي، وعضوية الحاج حسين العويني، وريمون إده، وبيار الجميل. ولجأ الرئيس شهاب الى الحاج حسين الذي كان معروفاً بميله الى التيار اللبناني الناصري طالباً منه أن يدبّر الحل. وذهب الحاج الى سفير الجمهورية العربية المتحدة في بيروت اللواء عبدالحميد غالب وقال له: يا سعادة السفير إذا جاء سيادة الرئيس جمال عبدالناصر الى بيروت فسنقع نحن وأنتم وسيادته في ورطة كبيرة تتحول أزمة لبنانية وعربية ودولية. وإذ أصابت السفير دهشة وحيرة مما سمع من الوزير العويني. سأله عن «الورطة والأزمة» فقال الحاج: إذا جاء سيادة الرئيس جمال عبدالناصر الى بيروت فسيحاصره المسلمون اللبنانيون بمئات الألوف، ولن يسمحوا له بالمغادرة قبل أن يتم إعلان انضمام لبنان الى الجمهورية العربية المتحدة! وتوقف العويني ليسأل السفير: فكيف سنجد مخرجاً من هذا المأزق؟! ويقول الذين نقلوا هذه الرواية أن السفير عبدالحميد غالب أبرق الى مكتب الرئيس عبدالناصر بما سمع من الوزير العويني، وأن عبدالناصر ضحك كثيراً بعد ما قرأ البرقية، ثم اتصل بالرئيس شهاب ليقول له وهو يضحك: أنا أحب بيروت، لكني لا أحب أن أجد نفسي سجيناً فيها! وفي ما بعد، وُجد الحل بنصب خيمة على نقطة الحدود المشتركة بين لبنان وسورية في منطقة «المصنع» سُميّت «قصر الصفيح»، وكان طولها عشرة أمتار وعرضها أربعة أمتار. وقد وُضعت طاولة مستطيلة فوق نقطة الحدود المشتركة. وكان للخيمة بابان. باب مفتوح على سورية وعليه علم الجمهورية العربية المتحدة، وباب مفتوح على لبنان وعليه العلم اللبناني. وفي الداخل، تعانق العلمان على الطاولة، وإذ دخل الرئيس عبدالناصر من الباب السوري، والرئيس شهاب من الباب اللبناني في وقت واحد وتصافحا من فوق الطاولة، عُقد الاجتماع المشترك. وقائع وتفاصيل كثيرة نُشرت عن ذلك اللقاء التاريخي، لكن «الذاكرة الصحافية للأمانات» تقول نقلاً عن الرئيس شهاب، إن الرئيس عبدالناصر هو الذي وجد الحل حرصاً منه على احترام كيان لبنان وسيادته على أرضه. وفي ذلك اللقاء، وضع فؤاد شهاب مع جمال عبدالناصر «أفضل علامة» على الحدود بين دمشقوبيروت ترمز الى تكافؤ الاحترام المتبادل لسيادة كل من البلدين واستقلاله، مع تكافؤ المصالح والتعاون والتنسيق بين الدولتين. لم تصمد «الجمهورية العربية المتحدة» التي دمجت مصر وسورية بقيادة جمال عبدالناصر. ففي خريف 1960، حصلت مؤامرة الانفصال من الجانب السوري. وبعد ثلاثة أشهر، وتحديداً ليلة رأس السنة 1961 – 1962، حصلت محاولة انقلاب فاشلة على الرئيس فؤاد شهاب نظّمها بعض القادة من «الحزب السوري القومي الاجتماعي» بالتعاون مع أحد ضباط الجيش. لكن تلك المحاولة الفاشلة تركت انعكاسات سلبية على نمط الحكم الشهابي. فالضباط الذين تصدّوا للمحاولة اعتبروا أنهم جُرحوا وأهينوا، فأخذوا يعملون لتشكيل «مراكز قوى» لهم في دوائر الدولة وفي مختلف مجالات الحياة السياسية والمدنية، بدءاً من مجلس النواب، مروراً في الهيئات الشعبية والجمعيات والبلديات، والنقابات، ولجان الطلبة، وصار لهم «أعوان» من الإعلاميين ورجال الدين من مختلف الطوائف، ونشأ ما صار يُعرف ب «المكتب الثاني»، وكان كمال جنبلاط أول من واجه تلك الظاهرة، وقد ذهب الى الرئيس شهاب طالباً منه التدخل لوضع حد فاصل بين ما يتعلق بأمن الجيش وعملياته، وما يتعلق بأمور الناس في حياتهم المدنية وحرياتهم ومصالحهم الخاصة والعامة. وفي الوقت نفسه، كان كمال جنبلاط يتابع كل خطوة في مشاريع الدولة العامة، ويتحدث عنها كأنها «مشاريعه الخاصة»، وكان يردّد أمام بعض زائريه من الديبلوماسيين العرب والأجانب، وأمام الصحافيين، أن فرصة الرئيس شهاب يجب أن تنجح، ونحن ملتزمون بها الى أقصى حد. وفي هذا الإطار، تطل من «الذاكرة الصحافية للأمانات» تفاصيل زيارة استثنائية قام بها كمال جنبلاط الى الرئيس شهاب في منزله في جونيه على رأس وفد حزبي وشعبي. انطلق الموكب ذلك اليوم من «دار المختارة» تتقدمه سيارة جنبلاط وعليها علم الأمير فخر الدين المعني الثاني الكبير. كان ذلك العلم مصنوعاً من الحرير الفاخر ومثبتاً على سارية في رأسها حربة نحاسية. وكانت هدية ابن البيت الجنبلاطي ترمز الى معاني حكم المعنيين في تاريخ لبنان القديم حين كان جبل لبنان إمارة درزية، وكان يُسمى «جبل الدروز». كان الرئيس شهاب واقفاً على مطلع الدرج في حديقة منزله في جونيه بانتظار الموكب الزائر. وإذ قدّم إليه جنبلاط علم فخر الدين المعني رفعه عالياً وتأمله بإعجاب، ثم دلفا معاً الى الصالون، ولم يكن واسعاً، وكانت تتصدّر الجدار لوحة كبيرة للأمير بشير الشهابي، وعلى جدار آخر لوحة تمثل الشيخ طالب حبيش. وإذ وضع الرئيس شهاب علم الأمير فخر الدين الى جانب العلم اللبناني، التفت الى ضيفه كمال جنبلاط وقال له: هذا البيت ليس من إرث أجدادي الشهابيين. إنما هو من إرث أجدادي لوالدتي آل حبيش. ثم أضاف: أما ما آل إليّ من إرث أجدادي الشهابيين فإنه منزل قديم في «غزير» يعود الى جد جدي الأمير حسن شهاب والد الأمير عبدالله وشقيق الأمير بشير الثاني، وقد حولناه منزلاً أثرياً ومزاراً. وإذ أعاد الرئيس شهاب الترحيب بجنبلاط ابتسم وهو يقول: «ما تنساش إني فؤاد عبدالله حسن شهاب». (وقد شدّد على كلمة «حسن»). وما كان من كمال جنبلاط إلا أن ابتسم وهو يحرّك رأسه تقديراً واحتراماً. تلك الزيارة الجنبلاطية التي تقدمها علم فخر الدين المعني الكبير الذي وضع الأساس الأول لكيان لبنان المدني الحضاري المقاوم، أثارت الكثير من التساؤلات السياسية ومن التفسيرات، ومنها في «الذاكرة الصحافية للأمانات» أن حفيد الشيخ بشير جنبلاط ذهب ليقول لحفيد الأمير بشير الشهابي: «هذا لبنان لنا ولكم ولكل اللبنانيين». وفي سياق أزمة الرئاسة، ومن «الذاكرة الصحافية للأمانات» ما جرى يوم 20 تموز (يوليو) 1960. في عهد شهاب. كان مجلس الوزراء على موعد جلسته العادية الأسبوعية. وكانت الجلسة مخصّصة لتقديم حكومة أحمد الداعوق استقالتها بعدما أنجزت، بنجاح، وبمعدل مقبول من النزاهة، مراحل انتخاب أول مجلس نيابي في عهد الرئيس الجنرال. وقد وصل الوزراء الى القصر الجمهوري في ذوق مكايل، يتقدمهم الداعوق، حاملاً كتاب استقالة حكومته، ولم يكن على جدول الأعمال أي بند آخر. وما أن افتتحت الجلسة، وقبل الشروع بتلاوة كتاب الاستقالة، حتى فوجئ الوزراء باقتراح من رئيس الجمهورية يدعو الى تعيين قائد الجيش اللواء عادل شهاب وزيراً للدفاع، وتعيين العقيد يوسف شميط رئيس الأركان وكيلاً لوزارة الداخلية لشؤون الأمن. وكان ذلك الاقتراح لغزاً محيّراً للوزراء. فلماذا تبديل وزير الدفاع طالما أن الحكومة برمتها آتية لتقديم استقالتها بعد دقائق؟ ومع ذلك تمت الموافقة على تعيين اللواء عادل شهاب وزيراً للدفاع. ثم، فوراً، جاءت المفاجأة الكبرى عندما فتح الرئيس شهاب الملف الذي أمامه وأخرج منه ورقة، وتوجّه الى رئيس الحكومة والوزراء قائلاً لهم: أنا المستقيل، ولستم أنتم... لم يصدق الوزراء ما يسمعون، وقبل أن يصحوا من ذهولهم فتح الرئيس شهاب ظرفاً وأخرج منه ورقة وراح يقرأ بتأنٍّ: «عطوفة رئيس مجلس النواب المحترم. لمّا كنت قد قررت اعتزال منصب رئيس الجمهورية، فإني أرجو أن تأخذوا علماً بذلك.. وأرفق بهذا الكتاب صورة عن الرسالة التي وجهتها بهذه المناسبة الى المواطنين، راجياً قبول الاحترام». لم يكن فؤاد شهاب قد أمضى من ولايته الرئاسية سوى سنة وعشرة أشهر وقد رفض الوزراء استقالته بأصوات عالية احتجاجاً، لكن ما أن تم الاتصال برئيس مجلس النواب وشاع نبأ استقالة الرئيس حتى تقاطرت وفود النواب الى «قصر الذوق»، وكان أولهم الرئيس صبري حماده الذي حاول عدم تسلّم كتاب الاستقالة، إلا أن الرئيس حمل محفظة أوراقه، وغادر قصر الرئاسة الى منزله في جونيه. وإلى هناك راح النواب يتوافدون، جميعهم، من موالين ومعارضين، وكان العميد ريمون إده الشهير بمعارضته من أوائل الواصلين الى جونيه، وهناك كان كمال جنبلاط، وكان قد رفع صوته في مجلس النواب داعياً الى الاعتصام حتى يعود الرئيس عن استقالته. وإذ خرج شهاب من غرفته لاستقبال النواب، وكان قد ارتدى سترة صيفية، التفوا حوله ورفعوه على الأكتاف، وكان عددهم قد زاد عن ثمانين نائباً من أصل 99، فيما كانت الحشود الشعبية قد ملأت ساحة البرلمان منادية بعودة الرئيس عن استقالته، ولم يغادر النواب جونيه إلا بعد أن تراجع شهاب عن الاستقالة، وزفّت محطة الإذاعة النبأ الى اللبنانيين. بعد العودة عن الاستقالة تحت ضغط مجلس النواب بكامل عدد أعضائه تقريباً، تشكلت حكومة متجانسة جاء فيها كمال جنبلاط وزيراً للتربية بناء على طلبه، فيما جاء نائبه في الحزب نسيم مجدلاني وزيراً للخارجية نائباً لرئيس مجلس الوزراء. ومن «الذاكرة الصحافية للأمانات» ما قاله شهاب لجنبلاط في خلوتهما بعد إعلان تشكيل الحكومة: «أرأيت يا كمال بك؟... نائبك في الحزب نائب لرئيس مجلس الوزراء ووزير للخارجية، وأنت وزير تربية. وعندما قال له جنبلاط أنه اختار وزارة التربية بإرادته نظراً الى أهميتها في تنشئة أجيال الطلاب، قال له شهاب: كم هو ظالم ومتخلّف نظام دولتنا عن فرنسا وغيرها من دول الغرب الديموقراطي؟ ثم أضاف، وهو يحرّك رأسه ببطء: إني أتساءل: كيف يحق لسائق سيارتي «طنوس» أن يكون رئيس جمهورية، وكمال جنبلاط ليس له حق بوزارة من الدرجة الأولى؟ وأضاف الرئيس: لا لبنان يستحق هذا الحكم، ولا أمثال كمال جنبلاط يستحقون هذا الحظ... ثم تابع بصوت خافت: سيأتي يوم لا يجد فيه اللبنانيون ما يوحدهم سوى كسرة الخبز! وساد الصمت فيما كان كمال جنبلاط مطرقاً وهو يحرك رأسه ببطء. تُستعاد هذه الوقائع من «الذاكرة الصحافية للأمانات» وأزمة انتخاب رئيس للجمهورية تدخل سنتها الثالثة في فراغ شامل، ومكابرة بالممانعة، وعدم السماح بعقد جلسة نيابية لانتخاب رئيس إن لم يكن الفائز مسبقاً ومعلناً الجنرال ميشال عون. لقد يئس اللبنانيون من أقطابهم ومن وزرائهم ونوابهم، وسقطت كل الرهانات على حلول مرتجاة من مراجع إقليمية أو دولية يمكن أن تأتي بحل لأزمة الرئاسة. وفيما تتفجر دول بائسة ومتعثرة في المحيط العربي منذ خمس سنوات وتمضي نحو مصيرها المجهول في عالم فاقد القيادة والعقل والرحمة والحكمة، يتابع زعماء السياسة والطوائف في لبنان تهشيم ما بقي من مؤسسات جمهوريتهم، ويمضون في إحباط الآمال التي تتراءى للبنانيين من خلال مبادرات تطلقها مقامات دولية لا تزال تحتفظ بقدر من الاعتبار للكيان اللبناني وتحاول المساهمة في إنقاذه، ثم لا تلبث أن تُصدم بمواقف وقرارات مرجعيات لبنانية مستعدة للمجازفة الى حد التضحية بكيان وطنها لحساب طموحاتها الفجّة. وما يزيد من سوء حظوظ لبنان، ويضعف دوره ومكانته، أنه لم يعد الدولة المميزة في العقد العربي، سواء على مستوى القمم العربية أو على صعيد العلاقات الثنائية. إذ ولا مرة وصلت الجمهورية اللبنانية الى هذه الدرجة من التحفظ والنأي بالنفس عن واجب التضامن معها في التحديات التي تواجهها والأعباء التي تتحملها. فلسان حال الدول الشقيقة والصديقة يقول: لماذا علينا أن نكون غيارى على سلامة لبنان أكثر من بعض كبار زعمائه وأقطابه! لم يعد العالم الدولي والعربي معنياً جدياً بمصير الجمهورية اللبنانية طالما أن القادة السياسيين الفاعلين، في معظمهم، غير عابئين بحال اللبنانيين وبمستقبل جمهوريتهم، وقد تحولت «جمهورية صوتية» تصرخ في برّية الفراغ والشلل والممانعة. حتى الأمس القريب، كان الرئيس تمام سلام قد مثل الجمهورية اللبنانية في ثلاث مناسبات دولية على مستوى الرؤساء. الأولى والثانية كانتا في دورة الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك، والثالثة كانت في القمة العربية التي عقدت في موريتانيا يوم 25 تموز الفائت. وفي القمم الثلاث، جلس تمام سلام في مقعد رؤساء الدول وألقى كلماته بالصفة الرئاسية، وكان على مستوى المناسبة والمهمة. وبالتأكيد، لم تكن أكثرية أعضاء الوفود تعلم أن تمام سلام يملأ فراغ رئاسة الجمهورية اللبنانية، لكن أي دولة مهما بلغت من القوة والمناعة لا تستطيع الصمود من دون رأس، فكيف بدولة صغيرة بحجم لبنان، متعددة الرؤوس ومراجع القرار، والأمر، ومتنازعة على الحصص. والغلبة للأقوى؟ هذا هو واقع الجمهورية اللبنانية منذ ما قبل الفراغ الرئاسي الذي دخل سنته الثالثة. وقد يكون هناك من ينتظر أن يصارح الأقطاب، من هذه الجهة أو تلك، مواطنيهم بأن النظام اللبناني بات على عتبة الانهيار ومعه المؤسسات. وليتدبر كل «شعب» أمره. ولولا مؤسسة الجيش التي لا تزال قادرة على احتضان الوطن وحماية رموز الدولة والكيان، والنظام، لكان لبنان عاد الى حال أسوأ مما كان قبل العامين 1988 و1989، أي قبل انعقاد مؤتمر الطائف وإصدار الميثاق الوطني الذي حمل اسم تلك المدينة في المملكة العربية السعودية. * كاتب وصحافي لبناني