تلمح الطفلة الصغيرة بيرتي نوويل برونو في طريق عودتها من المدرسة عبر الغابة، ثعلباً جميلاً، فتنسى أمام افتتانها به خوفها الفطري وتتجرأ على الاقتراب منه، لكنه ينفلت هارباً بعد أن تبادلا نظرات تنبئ ببداية علاقة مثيرة لن يتمكن طرفاها من بناء ثقة متبادلة قبل مضي بضعة فصول من السنة. ولنصبح أمام قصة صداقة فريدة تختفي فيها الحواجز التي تفصل بطليها، ولندخل مع الطفلة في رحلة اكتشاف مدهشة لطبيعة ساحرة، وعلاقة كان يفترض أن تكون مستحيلة في تبدل نظرتها، أو نظرتنا لما حولنا. يقدّم المخرج الفرنسي لوك جاكيه في فيلمه الروائي الطويل الأول"الثعلب والطفلة"2007 عملاً أشبه بقصة من قصص الأطفال الخيالية نتلمس فيه شكلاً حكائياً يحيلنا بالذاكرة إلى سانت إكزوبيري وپ"الأمير الصغير"وإلى لويس كارول و"أليس في بلاد العجائب"لكن بأسلوب امتزج فيه الروائي والتسجيلي بقالب سردي سلس يقودنا فيه داخل مغامرة الفتاة الصغيرة بصحبة الثعلب الجميل الذي أخذها في رحلة جريئة تعرفت فيها على عالمه، واختبرت وإياه متعته ومخاوفه. وحين حاولت أن تدخله إلى عالمها، يفاجئها برفض حاد لا يهدأ إلا في لحظة تراجيدية مؤلمة كادت أن تفسد ما أسس له لوك جاكيه على امتداد فيلم: ابتعد تماماً عن أية منعطفات حادة في حبكته الدرامية. فلم يشأ جاكيه أن يذهب بفيلمه إلى نهاية ميلودرامية تشوّش على طبيعة أسلوبه الفني المخلص لنزعته التسجيلية، لذا سرّب خطابه في قالب فني استعار فيه من الروائي الإطار العام للسرد والبناء من خلال صوت الطفلة بعد أن أصبحت أماً إيزابيل كاريه تروي لإبنها الصغير توما لاليبيرتيه قصتها مع ثعلب الغابة، لكن ليعود ويؤكد على هاجسه الأساسي المتمثل في التقاط تفاصيل الطبيعة والتناغم والتكامل الكبيرين الذين يحكمان علاقة عناصرها ببعضها وبكائناتها ما يجعل حضور الإنسان داخل هذه اللوحة المنسجمة يشكل نشازاً سيدفع ثمنه أطراف هذه المعادلة المنضبطة للغاية. لم يرحل الثعلب قبل أن يؤكد لصديقته أنه غير نادم على مغامرته معها وأنه سيبقى حاضراً لكن في غابته القريبة. وفهمت الطفلة أنها تستطيع أن تبقى صديقة له ولعالمه الجميل دون أن تتدخل في انسجام تكوينه، فهناك حدود لافتتاننا بالجمال تمنعنا من امتلاكه وترغمنا على تأمله بصمت من بعيد. زخم بصري عرف جمهور ونقاد السينما المخرج الشاب لوك جاكيه إثر الصدى الكبير الذي حققه فيلمه التسجيلي"مسيرة الإمبراطور"، الذي حصل عنه عام 2005 على أوسكار أفضل فيلم تسجيلي، وقدّم فيه عملاً شجاعاً وحنوناً تناول فيه الهجرة السنوية المضنية لطائر البطريق في القطب الشمالي بأسلوب ممتع وبتحكم ملفت بجماليات الصورة وبراعة في التصوير في القارة الأكثر برداً وسكوناً ووحشة. يختزن كادر لوك جاكيه السينمائي زخماً بصرياً يجعله قادراًعلى خلق ألفة كبيرة بين المشاهد والصورة، فكاميرته لا تراقب الطبيعة ومخلوقاتها بحياد موضوعي بل تنسج معها علاقة ذاتية تشير إلى حساسية جمالية مبتكرة نجحت في أن تنسي المشاهد للحظات ما قد يتسرب إليه من إحساس بزخرفة مصطنعة تغلف حكايته وكذلك الفضاء الذي يحتويها. قد خلق جاكيه حكايته الخيالية وصدّقها، وهو ما جعل فيلمه ربما فيلماً يخاطب الأطفال بالدرجة الأولى، مبتعداً عن المقاربة المباشرة لحقيقة قوانين الطبيعة الصارمة القائمة على حلقة مستمرة من العنف والقتل لا تستثني منها أحداً ولا حتى الثعالب بطبيعة الحال. تجنب جاكيه بجرأة غريبة ما من شأنه أن يشير إلى الجانب الشرس في طبيعة الثعلب، ولم يرغب في أن يحيد عن نهجه الجمالي المثالي فأبى أن يطلعنا بوضوح كيف يفترس الثعلب ضحاياه اللطيفة ليضمن بقاءه وبقاء صغاره واكتفى بالإشارة بتحفظ كبير إلى نوعها تاركاً تفاصيل افتراسها بعيدة ًعن عدسة كاميرته التي لم ترغب أن تسجل أي لحظة عنف في فيلم اكتفى في العشر دقائق الأخيرة منه بالتنويه الخجول إلى الطبيعة البريّة للثعلب. عندما يرفض السينمائي قسوة الإنسان وعنفه، ويستنكر جشعه في امتلاك العالم، و قصور رؤيته لجمال الكون ولحدود علاقته به، بمفردات لا تنتمي إلا للجمال بأكمل صوره وأكثرها سطوة، نكون حينها أمام تجربة تطرح رؤيتها الخاصة للفن عموماً وللسينما تحديداً، فالفن في النهاية رؤية وأسلوب بقدر ما هو فكر وعقل. من هنا نرى أصحاب هذه النزعة يميلون إلى طرح جمالي خالص وإلى العودة إلى أصل الحكاية ليروّوا علاقة الإنسان بالعالم والطبيعة بتغليب نبرة مثالية تشير في النهاية إلى الولاء الأولي للتأمل والهدوء في طرح مفاهيم الخير والجمال. رهان صعب من هذا المنطلق الطوباوي يمكننا ربما قراءة"الثعلب والطفلة"الذي نتلمس فيه صعوبة الرهان الذي دخله مخرجه حين مزج بين الواقعية والفانتازية. فواقعيته التي جعلته يتناول بعض الأخطار المحيطة بكائنات الطبيعة والتي أرغمته على تمرير منطق البقاء القائم على ضرورة أن تقتل حتى لا تُقتل، في مشاهد وضع فيها الطفلة وثعلبها في مواجهة حيوانات مفترسة كالدببة والذئاب، قابلها جانب تخيلي في مشاهد بدت أقرب إلى الفانتازية حين جعل بطلته الصغيرة تنام الليل بطمأنينة في غابة معتمة وهي محاطة بخلدان أليفة وديدان مضيئة والى جانبها ثعلبها الأليف. هذا المشهد الجمالي بامتياز، وإن أشار إلى براعة مخرجه في تجسيد عالم أسطوري ساحر، إلا أنه أوقعه في تناقض مع الواقعية التي فرضتها نبرة الفيلم منذ البداية. لقد أريد لهذا الثعلب أن يكون البطل الرومانسي لفيلم أخلص للأسلوب التسجيلي في التقاطه لتفاصيل الطبيعة، لكنه عاد وخانه حين أنجرّ وراء الجانب الروائي المتخيل الذي أرغمه على المواربة والتحايل للوصول إلى مقولته المبتغاة. حين يتقاطع الفيلم الثاني لسينمائي بشكل أو بآخر مع فيلمه الأول الذي كان حقق نجاحاً ملحوظاً، تصبح المقارنة بين الفيلمين أمراً محتماً قد لا تصب في مصلحة الفيلم الثاني الذي تسبقه توقعات كبيرة تظلمه أحياناً، وهذا ما يفسر ربما عجز"الثعلب والطفلة"عن تحقيق قوة تأثير"مسيرة الإمبراطور"على رغم تناوله المبتكر وجرأته في تقديم عمل سينمائي خارج النسق المألوف. ربما أدرك جاكيه افتقاد ثعلبه - رغم جمال ملامحه وذكائها - للبعد الكوميدي المتأصل في البطريق بشكله وطريقة سيره والذي ساهم إلى حد كبير في نجاح فيلمه الأول، فعمد إلى تغليب نبرة عاطفية في أسلوب السرد وإلى موسيقى تصويرية مؤثرة سيطرت على المشاهد الذي لا بد وأن لفته براعة المونتاج الذي عرف كيف يبرز التشابه الكبير بين الثعلب والطفلة في لون الشعر الأحمر وملامح الوجه من خلال تقطيع مونتاجي ذكي للقطاتهما القريبة. جاكيه الذي قابل المغامرة الجريئة لبطلته بأخرى لا تقل عنها جرأة حين مزج بين أسلوبين سينمائيين ومقاربتين أدبيتين لمفهوم قصص الأطفال الخيالية، سمح لبطلته الصغيرة أن تمضي الليل والنهار خارج منزلها فتكتشف الطبيعة ومخلوقاتها في مجتمع غربي صارم في حمايته للأطفال، فبقي متأرجحاً بين التسجيلي والروائي وبين الواقعية والرمزية ما أبقى المشاهد على مسافة من فيلم أدهشه لكنه ظل يبحث فيه عن فرصة تمكنه من الولوج إلى عالمه السحري. رسم جاكيه لوحة سينمائية يغلفها حنين قصصي رومانسي في الصورة واللون واختيار لقطات الطبيعة ومخلوقاتها والطفلة بكل تفاصيل مظهرها وأمكنتها في دعوة حنونة إلى احترام جمال الكون وتحذير هادئ من تجاوزات الإنسان. نشر في العدد: 16695 ت.م: 19-12-2008 ص: 18 ط: الرياض