لا تكاد تمر سنة على هوليود دون أن تنتج فيلماً يتحدث عن كارثة رهيبة تجتاح الكرة الأرضية وتفتك بالجنس البشري بلا هوادة، وقد تصدى خيال صناع السينما لمختلف أنواع الكوارث الطبيعية والعلمية والخيالية لكن بأسلوب واحد تقريباً هو نفسه الذي رسمه الروائي الإنجليزي هربرت ج ويلز في قصته الشهيرة (حرب العوالم) التي تصور الكرة الأرضية وهي تتعرض لغزو المخلوقات الفضائية، فمنذ أن نشرت هذه القصة في العام 1898والأدباء والسينمائيون ينسجون قصصهم وأفلامهم بنفس الأسلوب وبنفس الحبكة وبنفس الأهداف أيضاً حتى أصبح إطار أفلام الكوارث ثابتاً ومحدداً بصرامة. إلا أن هذه السنة 2008شهدت محاولة سينمائية جريئة ومختلفة لكسر هذا الأسلوب تمثلت في فيلم الإثارة Cloverfield أو حقل البرسيم بحسب الترجمة الحرفية للعنوان. يقدم الفيلم نفس الفكرة القديمة؛ مخلوق فضائي يغزو نيويورك ويعيث فيها فساداً، والبشر من حوله يتقافزون هلعاً ولا يعلمون وسيلة لمقاومته، ومع أن جوهر الحبكة ظل بنفس التركيب القديم أيضاً، إلا أن المختلف هنا هو الشكل الذي غلف هذه الحبكة، حيث اعتمد صناع الفيلم أسلوباً فريداً يمزج بين الواقعية والفانتازيا وبين البساطة والفخامة بطريقة جعلت الإحساس بالحقيقة يتضخم في نفس المشاهد كما لو أن ما يراه في الشاشة حقيقياً فعلاً. ويتمثل هذا الأسلوب في تصوير الحدث بكاميرا منزلية يحملها أحد أبطال الفيلم على كتفه بغرض توثيق اللحظات الرهيبة التي تمر بها نيويورك؛ تماماً بنفس الطريقة التي ظهرت في فيلم الرعب الناجح (مشروع الساحرة بلير-The Blair Witch Project). أحداث الفيلم مصورة بكاملها بعدسة كاميرا فيديو منزلية تحملها إحدى شخصيات الفيلم، وهي تبدأ مع مجموعة من الشباب يخططون لإقامة حفلة لصديقهم "روب" الذي يقضي آخر ليلة له في أمريكا قبل أن يسافر إلى اليابان، والحفلة يفترض أنها لن تختلف عن أي حفلة شبابية أخرى، فيها يجتمع الأصدقاء في شقة صغيرة ليودعوا صديقهم ويوثقوا كلماتهم ومشاعرهم في شريط كاميرا محمولة تجوب الشقة على كتفي أحد المدعوين. اللقطات الأولى من الحفلة تظهر انسجاماً بين الأصدقاء وأجواء مفعمة بالحب لكن المصور الساذج المكلف بحمل الكاميرا يلتقط تفاصيل صغيرة تكشف عن تدهور علاقة "روب" بحبيبته "بيث" التي جاءت إلى الحفلة مع شاب آخر. ومع هذا الخلاف يستمر المشهد الأول في داخل الشقة حتى تأتي الهزة الأرضية الأولى التي أرعبت الحضور وأخرجتهم من عوالمهم الرومانسية. بعد الهزة الأرضية ينطلق الفيلم في أجواء جديدة ملؤها الرعب من مخلوق عملاق سقط على نيويورك لينطلق في شوارعها مدمراً مبانيها وقاتلاً سكانها الهلوعين، والكاميرا البسيطة المتواضعة ذاتها لا تزال تصور كل شيء، الدمار المذهل وسقوط المباني وتناثر الجثث في شوارع المدينة المنكوبة، وفي هذا جمع بين النقيضين، بين تواضع آلة التصوير وبين ضخامة الحدث المصوّر، وهو ما لم يظهر من قبل في أي من أفلام هذا النوع، وكل ذلك من أجل منح إحساس أقوى بواقعية الحدث، وهي رغبة اتضحت منذ البداية مع الحفلة التي صورت بأسلوب واقعي عفوي جعلت الشخصيات قريبة من المشاهد وبشكل يقود للتفاعل مع ما يجري لهذه الشخصيات كما لو أنه يحدث الآن فعلاً على أرض الواقع الحقيقي. طريقة تصوير الفيلم بكامله من خلال هذه الكاميرا الصغيرة عززت أيضاً من إمكانية موت أبطال الفيلم إذ أن ما يراه المشاهد ليس سوى شريط مسجل لهؤلاء الأصدقاء العاديين الذين لا نعلم هل سيبقون على قيد الحياة أم لا، فهم ليسوا أبطالاً خارقين، والفضل في وجودهم في هذا الفيلم كان فقط لأنهم يحملون هذه الكاميرا وعدا ذلك فليس من سبب استثنائي يميزهم عن غيرهم من سكان نيويورك، بعكس الأفلام الأخرى التي يظهر فيها البطل بطلاً منذ البداية. أمر آخر يتعلق بمشهد البداية الذي أسس لدوافع أبطال الفيلم ولرغبتهم في الدخول في عمق نيويورك رغم أن الناس يهربون منها فهذه البداية ترسم الخيط العاطفي الذي يربط بين الحبيبين "روب" و"بيث" وبتأثير من هذا الخيط يجد "روب" دافعاً لاقتياد زملائه إلى المحرقة رغبة في إنقاذ حبيبته التي كانت قد تركت موقع الحفلة قبل الهزة الأرضية ويبدو أنها عالقة في مكان ما وسط نيويورك ومهددة بالموت، وعلى أكتاف رحلة الإنقاذ هذه تبنى بقية مشاهد الفيلم. من كل الزوايا نجد أن الفيلم لم ينشغل فقط بتصوير الكارثة ولا بلعبة المؤثرات البصرية كما فعلت بقية أفلام الكوارث الأخرى بل اتجه نحو ممارسة فنية لافتة سواء فيما يتعلق بتأسيس الحدث أو بخلقه لوهم الحقيقة أو بلعبه على وتر التناقض اللذيذ، وإذا استثنينا المبالغة التي شهدتها النهاية والمتمثلة في حرص الممثلين على حمل الكاميرا بلا مبرر مقنع، فإن كل هذه العناصر الفنية كافية لوصف الفيلم المثير بالاستثنائي وبأنه إنجاز كبير لمخرج بلا إنجازات سينمائية هو الأمريكي مات ريفيز الذي يستعد من الآن لإخراج الجزء الثاني من هذا الفيلم.