الأزمة العالمية المتفاقمة والمتعددة الرؤوس، التي تعصف وتضرب في غير مكان وعلى غير صعيد، تشهد أن النمو البشري الوحيد الجانب، المدار بعقلية أصولية أو لاهوتية أو أحادية أو حتمية أو فردوسية، أثبت فشله وإخفاقه، سواء تعلق الأمر بتنمية الثروات واستغلال المقدرات، أو بإدارة الدول وتداول السلطات، أو بالدفاع عن الحقوق والحريات. من هنا الحاجة، في ضوء كل هذه الانهيارات، الى تخطي الثنائيات الخانقة والحتميات الصارمة التي تقسم العالم، بين أصالة وحداثة، أو مركز وهامش، أو رأسمالية واشتراكية، أو إسلام وغرب... للتفكير والعمل بمنظور نسبي، تعددي، تركيبي، إبداعي، تحوّلي، مهجّن، وذلك يقتضي معالجات جديدة ومختلفة من غير وجه: 1 - لا وجود لنماذج صافية في التنمية، لأن لا وجود في الأصل لهويات صافية أو ثابتة، لا ماضياً ولا حاضراً، إلا في أوهام أصحابها، لأن الأمر هو تركيب وتهجين، بقدر ما هو تخطّ وتجاوز، على سبيل التبدّل والتغيّر، سلباً أو ايجاباً، تراجعاً أو تقدما. فكيف والبشرية تدخل اليوم في عصر الاعتماد المتبادل والتشابك في المصالح والمصائر، بقدر ما تنخرط في عالم الجنسيات المتعددة والثقافات العابرة والحداثات المهجنة. تشهد على ذلك النماذج المعاصرة والمعولمة، من فوكوياما الى أوباما، مروراً بالرئيس الفرنسي ساركوزي وقسم من وزرائه، إذ الكل أصحاب هويات هجينة ومركبة وعابرة لحدود اللغات والأعراق والألوان والأديان... وهذا ما حصل أخيراً أثناء الاحتفالات بافتتاح فندق اتلنتس في دبي، والمتحف الإسلامي في الدوحة، حيث اجتمع نجوم عالميون، وتزاوجت فنون أو تماهت لغات من مختلف العصور والثقافات. وهذه هي مفاعيل التهجين، الذي هو نقيض الاصطفاء والانغلاق والتنميط: انه ينقذ العالم من براثن التعصب القومي والديني، بقدر ما يشكّل، بما هو مصدر تنوعٍ وثراء، طريقاً للنموّ البشري. 2 - لا تدار أعمال التنمية بالعقد والهواجس التي تحكمت في عقول الذين تعاملوا مع آفاق الحداثة وفتوحات العولمة والتقنية، بمفردات الغزو الثقافي والاختراق الفكري، بحجة الدفاع عن الهوية والثوابت والتقاليد في مواجهة الثقافة الغربية التي يصفونها بكونها ثقافة غريبة أو معادية أو مدمرة... على ما هو عندنا دأب الذين يختصون بشنّ الهجوم على الغربنة والأمركة والعولمة. مثل هذه التوصيفات والمفردات تنطوي على قدر من التهويم والتهويل والتبسيط. لذا فهي تعيق أعمال التنمية بدل أن تفتح أمامها الأبواب والسبل، فضلاً عن كونها تشهد على ممارسة أصحابها الزيف الوجودي، لأن أكثر العناوين التي نقرأ من خلالها مفردات وجودنا، أو ندافع بها عن مصالحنا، هي من ثمار الفكر الغربي، كالديموقراطية والحرية والهوية، فضلاً عن التنمية ومجتمع المعلومة واقتصاد المعرفة. ولا غرابة فالثقافة الغنية والخلاقة بلغاتها المفهومية وانجازاتها المعرفية وأبعادها الجمالية وأنساقها القيمية، فضلاً عن اختراعاتها التقنية، هي ثقافة خارقة للحدود والعقول، بقدر ما هي عالمية كوكبية. 3 - الذين يشهرون سيف الدفاع عن الهويات بعقلية القوقعة والمحافظة، انما يدافعون في الحقيقة عن أسوأ التقاليد ويشتغلون بتبرير المساوئ والأخطاء، لكي تفعل فعلها بصورة مضاعفة. لذا فهم لا يحققون تنمية ولا يصنعون تقدماً، بل هم لا يحسنون سوى التراجع وانتهاك ما يدعون اليه، والمآل هو تدمير الحاضر وافتراس المستقبل. والأمثلة بليغة وفاضحة في هذا الخصوص. فحيث سيطرت المواقف السلبية والعدائية من الحقائق والمتغيرات العالمية، فشلت مشاريع التنمية بقدر ما شُلَّت الطاقة على الخَلْق والابتكار والتحوّل. هذا ما ينشغل به معظم العرب الذين ما زالوا، منذ عصر النهضة، يكابرون ويعاندون من فرط النرجسية الثقافية، كما ينشغل به أيضاً غيرهم من أفغان وايرانيين وصوماليين وأندونيسيين... والحصيلة هي تحويل العلاقة بالثوابت الى عوائق ومآزق. حتى في فرنسا، عندما واجهوا التحولات الحضارية، بمنطق المقاومة ضد غزو العولمة والأمركة، تخلفوا عن الركب الأوروبي، عقداً من السنين، وبالعكس، فالتجارب الناجحة في مجال التنمية، هي التي لا يتحدث أهلها عن الغزو الثقافي أو عن الطابع التدميري للعولمة الثقافية والاقتصادية، وانما يقرأون الطفرات الحضارية والانعطافات التاريخية، بوصفها فرصاً وتحديات أو استحقاقات، لكي يتعاملوا معها بلغة الإمكان والإبداع والتغيّر، كما حصل في اليابانوماليزيا، ثم في الصين وبعض دول الخليج، وأخيراً في تركيا. هذا شأن صاحب الهوية الغنية. انه يحسن أن يتغير في ضوء المستجدات والتحولات، لكي يساهم في ورشة الحضارة وإغناء رأس المال البشري بوجه من وجوهه. ان أفضل دفاع عن الهوية الثقافية والمجتمعية، هو ممارسة المرء خصوصيته بصورة خلاقة وخارقة، وعلى نحو يتيح له المشاركة في صناعة العالم وقيادة المصائر. 4 - مع اعتقادي بأن النمو ذو طابع ليبرالي رأسمالي، لأنه يقوم على فتح الآفاق والحدود والأسواق أمام حرية المبادرة والاختيار والعمل والابتكار، فلا أقول ان هناك طريقاً واحداً للتنمية تحتكره مدرسة أو يستأثر به مذهب. فالذين تعاملوا مع القضايا بمنطق أحادي مغلق، من خلال ثنائية الجحيم والفردوس أو الشر المحض والخير الأقصى، انقلبت أفكارهم ضدهم بقدر ما تواطأوا مع أضدادهم. الأجدى، في ضوء الاخفاقات، العمل بفكر تركيبي يستبعد سيئات كل مذهب، لكي يحتفظ بالحسنات والمكاسب، سواء اختص الأمر بالرأسمالية والليبرالية والعولمة، أو بالتدخل والضبط والرقابة والحماية... إذ كلها مذاهب وقواعد وإجراءات لها وزنها في اجتراح الحلول وتركيب الصيغ. من جهة أخرى، لا وجود لنموذج أوحد، داخل المدرسة الواحدة، وانما تتعدد النماذج بتعدد السياقات التاريخية والبيئات الجغرافية والهويات الثقافية والمجتمعية. فالنموذج الأميركي ليس كالنموذج الفرنسي، ولا الفرنسي كالألماني، ولا الألماني كالياباني أو الماليزي... وهكذا كل بلد يجترح في النهاية نموذجه ويركب معادلته. لذا، لا يجري النمو بعقلية النسخ والتقليد، بل بلغة الخلق والابتكار. 5 - لا تنجح النماذج التي تُقحم على المجتمعات من خارجها، أو تُفرض على الناس بعقلية نخبوية مركزية فوقية. فالنخبوية النرجسية لا تصنع اليوم تنمية، بل أمست ضرباً من البربرية المجتمعية، كما تشهد الألقاب التي يسبغها المثقفون على رموزهم وأعلامهم. ان النموذج الفعّال والناجح، أياً كان مصدره أو مطلقه، هو الذي يُسهم الفاعلون والمنتجون، كل في حقل عمله، في تحويله وإعادة بنائه، أو في إغنائه وتعديله. لذا، فالعمل التنموي هو عملية مركبة وسيرورة متواصلة من الحراك الهائل، الذي يتم على كل الأصعدة، والذي ينخرط فيه جميع الفاعلين في مختلف دوائرهم وقطاعاتهم وحقولهم، وعلى النحو الذي يتحول معه المجتمع الى ورشة حية من التفكير الخصب والعمل البنّاء، وذلك وفقاً لاستراتيجية تخترق وتجوب الفضاء الاجتماعي بكليته، طولاً وعرضاً، أفقياً وعامودياً، ويطرق مسالك وآليات لا تنفك تختلف وتتنوع وتتجدد، لكي تُسهم في تجديد المفاهيم والنظريات أو تطوير المناهج والنماذج. 6 - لا وجود لمعايير ثابتة أو لحلول حتمية ونهائية. كل نموذج يشكل تجربة حية تبقى قيد الدرس والبناء والاستكمال، على سبيل التعديل والتحسين. ولذا لا وجود لحلول فردوسية أو لأزمنة ذهبية تملأ فيها الأرض عدلاً وسلاماً. الأجدى أن نفكر بمفردات النسبية والتوسط، كما نعمل بمنطق الإبداع والتحول. ولذا لا ننتظرن المعجزة ممن نُطلق عليهم ألقاب الزعيم الأوحد والقائد الملهم والبطل المنقذ الذي يملك مفاتيح الحلول السحرية لكل المشكلات. لأن مآل ذلك هو انتهاك الشعارات وحصد الإخفاق على أرض الواقع. الأجدى أن يحمل كل فرد المسؤولية عن نفسه كذات تتمتع بالاستقلالية والحيوية الفكرية، بحيث يتصرف كفرد مختص ومنتج بقدر ما هو فاعل ومشارك، مع سواه، في صناعة نفسه وبناء مجتمعه وقود مصيره. 7 - لا تجري أعمال التنمية على مستوى واحد اقتصادي أو مالي. لأن النمو الوحيد الجانب هو اختزال للشخصية وفقر في المعنى، بل هو حجب للوجود تحت إرادة القبض والتحكم والتملك. ان الإنسان ليس مجرد حساب مصرفي غايته تكديس الأموال، وانما هو كائن اجتماعي له مشاعره وميوله ونزواته وعلاقاته مع من لا ينفك عن التعايش معهم بصورة أو بأخرى. كذلك، فجمع المال ليس الغاية القصوى، وانما أن يعيش المرء حياة مريحة أو لائقة أو آمنة. لذا فالنمو هو متعدد الأبعاد، بقدر ما يقوم على التوازن بين القوى والميول والنزعات. انه علاقة بالثروة أو السلطة، كما هو علاقة بالقيمة والحرية والكرامة. ومن ينخرط اليوم في أعمال التنمية، هو الذي يسعى الى تحصيل معاشه وادارة شؤونه وسوس علاقاته مع سواه، بعقلية الاعتراف والتهجين والتضامن، فضلاً عن قيم الاختصاص والجدارة والاستحقاق. 8 - لا حلول تنموية تجري على حساب الطبيعة والحياة. وهذا جانب باتت له الأولوية القصوى، في ضوء الأخطار التي تهدد بتلويث البيئة وانقراض الكائنات الحية. من هنا تحتاج التنمية الى إنشاء فرع معرفي جديد يسميه البعض البيئيات ايكولوجيا الثقافية أو السياسية... هدفه الحفاظ على الثراء الحيوي والتوازنات الطبيعية. وفي أي حال يزداد الربط يوماً بعد يوم بين الأزمة البيئية والأزمة الاقتصادية ووسائل معالجتهما، كما تشهد على ذلك دراسات وندوات، وآخرها المؤتمر الإسلامي الثالث لوزراء البيئة، في الرباط تشرين الثاني/ نوفمبر 2008. من هنا فإن النمو البشري اليوم يحتاج الى كسر منطق التأله الذي يتصرف بموجبه الإنسان بوصفه سيد الطبيعة ومالكها، والذي يتصرّف في ملكه كما يشاء ومن غير حساب، فالاجدى والأسلم والأكثر ديمومة للواحد من البشر أن يفكّر ويعمل كمدبّر يقدر كل شيء قدره، ويعترف بأن لكل كائن حقه وقسطه، بحيث يتصرف كراعٍ وحارس وأمين على نفسه وبني جنسه، كما على الطبيعة والأرض وبقية الكائنات. 9 - لكل نمو بُعده العالمي وطابعه الكوكبي، فما عاد في وسع أحد أن يحل الأزمات الطاحنة بمفرده، بل عبر التباحث والتشاور والتعاون، سواء اختص الأمر بأزمات مالية أو أمنية أو تنموية. من هنا فالشعار الآن لدى الأوروبيين: إما النجاة معاً أو الغرق معاً. والوجه الآخر للبعد العالمي أن لا تنمية على أي مستوى كان، اقتصادي أو سياسي أو حضاري، تنجح بالعنف والقوة المسلحة، بل تنجز بعقل سلمي، مدني، تداولي، تبادلي. أي بالقوة الهادئة والناعمة كما يقال اليوم. من هنا تحتاج التنمية الى أن تدار مشاريعها وبرامجها بعقلية التضامن والشراكة، لا بعقلية الانفراد والاستئثار أو الهيمنة والاحتكار. مما يعني انكسار منطق القطب الأحادي الذي يتحكم بالعالم ويدير شؤونه. وخلاصة القول ان بعد كل هذه الانهيارات والكوارث، لن تصلح صناعة الحياة أو ادارة العالم وقيادة المصائر، بما هو سائد من العقليات الأصولية أو الإمبراطورية، الاستبدادية أو الشمولية، الجهادية أو الانجيلية، التلمودية أو الكربلائية، اللاهوتية أو الناسوتية. ولذا لن يكون القرن الواحد والعشرون دينياً، على ما يتوقع مثقفون كبار، ذوو عقل أحادي ايديولوجي، أو على ما يحلم دعاة يزرعون الخراب والفساد في أرجاء العالم. الأرجح أن هذا القرن سيكون متعدد الأنماط والنماذج أو المذاهب والمشارب، إلا إذا شئنا أن يعود بصورةٍ مضحكة أو مرعبة، كما يعود الدين الآن عبر الفتاوى لتي يصدرها الدعاة الجدد والأصوليون الجهاديون، وكما هو شأن كل أصولية عائدة، أياً كانت الأسماء والشعارات. ختاماً، ان الأسرة الدولية بكل مجموعاتها اللغوية والعرقية والطائفية والإقليمية... تجد نفسها الآن أمام مفترق كبير وتحدٍّ خطير، فيما هي تواجه الكارثة والبربرية والعدمية، كما يتجسّد ذلك في التلوث والإرهاب والفقر وتمزق المجتمعات وتدهور القيم... نحن جميعاً ازاء مطالب ملحة لا تحتمل التأجيل، بل ترتقي الى مرتبة الأمر الجازم من أجل تحقيق الأمن بأركانه الثلاثة، البيئي والغذائي والمجتمعي. الأمر الذي يضع الكل أمام المسؤولية الجسيمة لحمل"الأمانة"التي يتهرّب من حملها الإنسان، بحيث يعمل على تغيير نفسه وعلى نحوٍ يطاول التوجّه الوجودي والنمط الثقافي والنشاط الحضاري والعمل السياسي، كما يطاول أنظمة تداول السلطة وتوزيع الثروة وتأمين الخدمة، بقدر ما يطاول أشكال ووسائل وأساليب العمل والإنتاج والإبداع والاتصال والانتقال والاستثمار، لئلا تقودنا غريزة التكاثر والاستهلاك أو إرادة التحكّم والتسلّط الى الهلاك والخراب. * كاتب لبناني.