ريجيس دوبريه من أبرز المثقفين الذين يتصدّرون المشهد الفكري في فرنسا. وهو كاتب وفيلسوف كما تقدمه الصحافة، وكما هو يؤثر أن يعرّف بنفسه وعمله. لذا عندما سأله محاوره، ذات مرة، عن اللقب العلمي الذي يختاره، أعرب عن نفوره من لقب «الباحث»، قائلاً له: أنا لا أرتدي البرنس. أعجبني هذا التعليق، أنا الذي أقاتل أحياناً لاستبعاد صفة «الباحث» التي يحاول البعض إلصاقها بي. أولاً، لأنني لا أعمل في مركز للأبحاث. ثانياً، لأن مفردة الباحث تتعارض مع مفهومي للحقيقة، كما بات معروفاً عني، عند من يتابع أعمالي أو يقرأ حواراتي، حيث أذهب إلى أن المشتغل في حقل معرفي ليس مجرد باحثٍ محقق، وإنما هو خالق مبتكر. كانت لدوبريه، في مطلع شبابه، تجربة نضالية، إلى جانب تشي غيفارا، مسرحها أميركا اللاتينية التي شهدت ذروة حراكها الثوري في الستينات من القرن المنصرم. وغيفارا الذي كان رفيق فيديل كاسترو، غدا رمز الثورة العالمية، بعد نجاح الثورة في كوبا عام 1959. والنتيجة كانت مقتل غيفارا ودخول دوبريه السجن الذي أمضى بين جدرانه ما يقارب الثلاث سنوات. بعد هذه التجربة الفاشلة، يعود دوبريه إلى فرنسا، فيقلع عن مهمته النضالية، وينصرف إلى عمله ككاتب ومؤلف يشتغل في حقل من حقول المعرفة، هو الذي افتتحه وسمّاه، علم الوسائط، (médiologie)، وقد آثرت ترجمته بكلمة «ميدياء». وترك المهمة النضالية من أجل تغيير الواقع، دفع غير مثقف يساري إلى الانقلاب على مقولة ماركس، بحيث تصبح المهمة هي فهم العالم، بدلاً من تغييره. وأنا لم أكن أنتظر دوبريه وسواه، لأقول إن المهمة الأولى المنوطة بالفلاسفة والعاملين في ميادين المعرفة، هي إنتاج معارف حول الواقع، لأني أعتبر أن ما ننتجه من أفكار خصبة وفعّالة، يغدو هو نفسه وقائع تساهم في تغيير الواقع، بما تفتحه من الإمكانات لتجديد لغات الفهم وأُطر النظر أو شبكات القراءة واستراتيجيات العمل وتطويرها. دوبريه كاتب غزير الإنتاج، يصدر له كتاب كل عام، وربما في الأقل من العام. ففي العام الماضي، صدر له كتابان: الأول هو «سيدي التاريخ»، وأنا أوثر ترجمته بعبارة «حضرة التاريخ»، والثاني هو «لنذهب إلى الوقائع: العقائد التاريخية والحقائق الدينية». وقد صدر له أخيراً كتاب جديد هو «الحضارة»، مع عنوان فرعي: كيف أصبحنا أميركيين. والأمركة تعني، بالنسبة إلى دوبريه، السيطرة لعالم العقود والشركات والتسويق، بقدر ما تعني غلبة الاقتصاد على السياسة والصور على الأفكار والرقمي على المكتوب. ودوبريه يحذر من هذا التحول الذي يسميه «أمركة»، والذي جعل الأرقام تصبح «ألفباء» المجتمعات المعاصرة. أتوقف عند الحوار الذي أجرته معه مجلة (لوبس L'OBS/18-05-2017)، بعد صدور كتابه حول الحضارة، وفيه يتطرّق إلى الانتخابات الرئاسية التي أوصلت إيمانويل ماكرون إلى تسلُّم مقاليد السلطة في فرنسا. 1- يذهب دوبريه إلى أن ماكرون يجسّد أبلغ تجسيد غزو الأمركة لفرنسا، بإتقانه لغة العصر ومفرداته، عصر الصورة والشبكة والرقم والتسويق الإعلامي... يتجلى ذلك عنده فكراً ومسلكاً، رأياً وموقفاً. حتى طريقة وقوف ماكرون يراها دوبريه أثراً من آثار الأمركة، ومن غير أن يكون على وعي بذلك، لأن الأمركة ليست وليدة تفكير، بل هي ردة فعل عفوية. فكل واحد يعيش في النهاية عصره ويندرج في واقعه. والعصر هو الآن عصر أميركا بشاشاتها وشبكاتها ونمط حياتها. لذا يرى دوبريه أن ماكرون هو نموذج لجيل جديد من الشباب الفرنسي المتأمرك، وبما أن أميركا هي بروتستانتية، فإن البرنامج الوراثي الفرنسي بات مطعماً بمكوّن بروتستانتي. هل ذهب الفيلسوف بول ريكور لأميركا لأنه بروتستانتي؟ وهل أعجب ماكرون بريكور بسبب ميوله الأميركية؟ لا أعتقد. والأحرى أن أترك ذلك للمنجمين، لأن أكثر فلاسفة فرنسا المشهورين، قد تمّت استضافتهم تباعاً في الجامعات الأميركية. ما أراه في ما يخص الأمركة، أن كل خصوصية مبدعة تصبح عالمية وخارقة للحدود، بما تبتكره مما هو مفيد وثمين أو مثير وجذاب، في هذا الحقل أو في ذلك المجال. 2- مع أن دوبريه لا يتوقف عن إطلاق الصيحة ضد الأمركة بوصفها سيطرة الأرقام على مختلف جوانب الحياة، فإنه يُعرب، على سبيل الاستدراك، عن ابتهاجه بأن يأتي رئيس جديد، هو قارئ للكتب وزوجته أستاذة للأدب، علّه بذلك يعيد الى فرنسا بعض كرامتها، ويخرجها من «الصحراء الثقافية» التي تردّت إليها في عهدي سلفيه الرئيسين ساركوزي وهولاند. لكن هذا الاستدراك هو مجرد فلتة لا تصدر عن قناعة حقيقية. فسرعان ما يعود دوبريه إلى قواعده كمثقف يساري معادٍ للأمركة والليبرالية والرأسمالية. ولهذا فهو يعتبر أن فوز ماكرون بالرئاسة هو تتويج للبروتستانتية الجديدة، بقدر ما يعتبر بأنه مدين بنجاحه في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية لفرنسيي أميركا. وفي الإجمال، فهو يرى أن ماكرون أتى لا ليغير النظام القائم، بل لينقذه، لأن هذا النظام، ولكي يحافظ على بقائه، يتخفى بنوعٍ من الخديعة، لكي يظهر في شكل نظامٍ جديد مضاد. هذه الأقوال وردت في مقالة نُشرت في مجلة (لوبس نفسها/01-06-2017). وفيها عرضت هذه المجلة، ذات المنشأ اليساري، آراء بعض كبار المثقفين الفرنسيين، من الذين أجروا محاكمة أيديولوجية لماكرون، بتهمة أنه يمثل الرأسمالية العالمية، وكان أبرزهم الفيلسوف آلان باديو، الذي، وإن تخلّى عن الدعوة إلى ممارسة العُنف، كما دعا إلى ذلك في شبابه، فإنه على المستوى الفكري يتصدر اليوم لائحة اليسار الراديكالي، إذ هو ما زال يعتقد أن لا حلّ إلا بتطبيق الشيوعية. بذلك، يشكل باديو الوجه الآخر للأصولي الإسلامي الذي يؤمن بأن لا خلاص إلا بتطبيق الشريعة. ومن المعلوم أن التعامل في هذا الزمن، مع المشاريع والعناوين، بمثل هذا العقل الأحادي، القطعي والديكتاتوري، كلف البشرية ولا يزال يكلفها ما تحصده من الفظائع والكوارث، فساداً وإرهاباً، دماءً ودماراً. 3- من الطبيعي أن يهاجم المثقفون اليساريون ماكرون الذي فاجأهم، بصعوده وفوزه، ربما لأن الرجل أتى من مطرحٍ آخر أو من طرحٍ آخر، بعيد من مسرح المثقفين وكواليس المحللين. هناك شخصيتان ساهمتا في تحقيق الرئيس الجديد معجزته، زوجته التي كانت معلمته والتي هي في عمر والدته. والفيلسوف بول ريكور الذي كان في طور شيخوخته عندما اتصل به ماكرون. وهذه واحدة من المفارقات: عقول الكبار هي التي ساهمت في صنع الرئيس الشاب. وهكذا لم يأتِ ماكرون من الفلاسفة والمفكرين الذين يتصدرون المشهد الفكري في فرنسا، كريجيس دوبريه ومارسيل غوشيه وميشال أونفراي ونظرائهم، ما يعني أن الأفكار المسيطرة لا تساهم في صنع الرؤساء، كما يعني نهاية المثقف الذي يمارس الوصاية على العقول باسم العقلانية والتقدم أو الديموقراطية والعدالة. والخلاصة لذلك هي تجاوز ثنائية اليمين واليسار التي لم تعد تفي بالتوصيف والتشخيص. ثمة ثنائيات جديدة آخذة في التشكل، كما حفلت بها الخطابات التي تشكلت حول الانتخابات الرئاسية سواء في فرنسا أو في الدول الغربية عموماً. وأنا أؤثر استخدام ثنائيات الأصولي والليبرالي، أو الراديكالي والوسطي، أو العنصري والعالمي. من هذا المنطلق، يمكن وضع مارين لوبن وجاك لوك ميلانشون في خانة أصولية واحدة، كما يمكن وضع آلان جوبيه وإيمانويل ماكرون في خانة وسطية واحدة. 4- يطلق دوبريه صفة «ما بعد الحداثة» على الحضارة الأميركية في معرض شرحه مزاياها التي يحذر منها. هذا مع أن ما يتحدث منه دوبريه ويصفه، يتعدى «ما بعد الحداثة»، لأنه يتعلق بموجات جديدة، من الحداثة، تطلق عليها تسميات الحداثة الرقمية أو الفائقة أو السيّالة... أما ما بعد الحداثة، على المستوى الفكري والفلسفي، فإنها إنجاز فرنسي بامتياز، كما مثلها أعلام كليفي ستروس وفوكو ودريدا وسواهم، من الذين غزوا أميركا والعالم بنصوصهم وأفكارهم الخارقة لحواجز اللغات والثقافات، من فرط جِدّتها وأصالتها. وأخشى أن يقع دوبريه في مطب الانغلاق والتعصّب. فحديثه عن أمركة فرنسا يشبه حديث الأميركي الذي تعامل مع الفتوحات الفكرية لما بعد الحداثة، بشكل سلبي لكونها ذات مصدر فرنسي. 5- هل الحضارة السائدة هي أميركية؟ أتفق مع دوبريه في التمييز بين الحضارة والثقافة، وكما ذهبت إلى ذلك في محاضرة لي في مدينة الرياض عام 1997 كان عنوانها «حضارة واحدة وثقافات متعددة». والحضارة واحدة لأنها تتعلق بأنماط الإنتاج ووسائل الاتصال وقوانين السوق وأشكال التبادل، فيما الثقافات هي متعددة، لكونها تتعلق بالإنتاج الفكري والرمزي، كما يتجلى في العقائد والمذاهب، في منظومات القيم وأنظمة المعنى. لهذا، فإن الحضارة توحّد فيما الثقافة تُفرّق. وهكذا فالهاتف الجوال يجمع الناس، اليوم، في القرية الكونية، بقدر ما يتيح للواحد أن يتصل ساعة يشاء بمن يشاء في أي مكان يشاء. وفي المقابل، فإن التراثات والتقاليد والخصوصيات الثقافية هي عامل فرقةٍ واختلافٍ بين الجماعات البشرية، بقدر ما هي محل تفاوتٍ وتفاضل أو نزاعٍ وتوتر. وهكذا، فنحن نعيش اليوم في فضاء حضارة عالمية واحدة، يمكن إدراجها تحت خانة العصر الرقمي. صحيح أن الغلبة في هذه الحضارة هي للغة الإنكليزية وللأيديولوجية الأميركية كمذهب ليبرالي ونظام رأسمالي. لكن كل الشعوب تساهم في هذه الحضارة القائمة بإغنائها والإضافة إلى رصيدها، وفقاً للبيئات المحلية والخصوصيات الثقافية لكل بلد أو مجتمع أو منطقة. وللمثال، هكذا كان الوضع في العصر الإسلامي، حيث كانت هناك حضارة واحدة سائدة الغلبة فيها للغة العربية والعقيدة الإسلامية. لكن الكل ساهموا فيها من فرس وهنود ويونان وصينيين وأفارقة، تماماً كما تساهم اليوم في الحضارة الراهنة كل المجتمعات. هذا ما يفعله الفرنسي والروسي والصيني والماليزي والبرازيلي والأفريقي الجنوبي، كل بأسلوبه وانطلاقاً من خصوصيته. إن الحديث عن أمركة فرنسا أو العالم فيه قدر من الاختزال للواقع، بقدر ما فيه إقصاء لبقية المجتمعات، لا سيما أن أميركا هي بلد استقطاب العقول من كل أنحاء الكرة. بهذا المعنى تعد الحضارة الأميركية حضارة الإنسان في هذا العصر، تماماً كما كانت الحضارة في العصر العباسي حضارة الإنسان في ذلك الزمن. وليس صدفةً أن ستيف جوبز، مؤسس شركة آبل، إنما هو ثمرة تزاوج بين أبيه السوري وأمه الأميركية، أي ثمرة تفاعلٍ بين الوافد والمُقيم، بين الأنا والآخر. وهذا شأن الخصوصية الغنية والعابرة. إنها ثمرة خرق وانتهاك وتجاوز على سبيل التهجين والتحويل والتبادل. 6- أنهي بنقطة أخيرة هي تقليل دوبريه من شأن المكتوب في عصر المرئي، لذا فهو يشكو من قنوات الإعلام ووسائله، لأن كرامته، ككاتب مشهور، تأبى عليه الذهاب إلى قناة إعلامية للترويج لأحد كتبه. لذا يؤثر الاكتفاء بزاويته حيث يعتزل ويكتب، كما يفعل «الباحث العلمي»، الذي يهتم بإنتاج النظريات وإثبات الوقائع، على العكس من المثقف الذي يهتم بالظهور واستمالة الجمهور، بذلك يتراجع دوبريه عن رأيه في الباحث. فهجومه على مجتمع الصورة جعل الباحث الذي كان عنده محل رفض، فإذا به بعد الهجوم على مجتمع الصورة يصبح محلّ مديحٍ وتقدير. ولكن دوبريه يبالغ في هذه النقطة. فما زال للصحيفة أو للمجلة أو للكتاب الورقي دوره الفاعل في صناعة الرأي العام، بخاصة في بلد كفرنسا. ودوبريه يمارس حضوره وسط المشهد الثقافي والإعلامي، سواء عبر كتبه المتلاحقة، أو عبر حواراته المتواصلة إلى هذه الصحيفة أو تلك المجلة، فضلاً عن محاضراته حول القضايا الراهنة التي تستأثر باهتمام الفرنسي وغير الفرنسي. والكاتب الغزير، الذي ينتج دائماً الجديد والمثير من الكتب والآراء، يحضر عبر المكتوب، أكثر بكثير من الذي يحضر على الشاشة، بآرائه السطحية أو أفكاره الهشّة. هذه حال دوبريه الذي هو أحد نجوم الثقافة في فرنسا. ولن أتهمه بما اتهم به ماكرون، بأنه منخرط في العصر الأميركي من غير أن يعلم ذلك. فهو يستثمر أحسن استثمار الوسائط التي حاول تأسيس علم لدرسها وفهمها. والشاهد أن صوره لا تغيب عن أغلفة المجلات وصفحاتها. وأياً يكن، لكل شيء وجهه الآخر، سواء اختصّ الأمر بالشاشة والمعلومة أو بالرقم والعولمة أو بالأمركة أو الفرنسة، بخاصة عندما يستخدم في شكل سيئ أو أحادي إقصائي، عندها ينقلب إلى ضده. وإذا كانت الحضارة تنتج التوحد والتجانس، فإن الثقافة تخلق الغنى والتنوع والفرادة. ولذا لا مجال لأن يتوحد العالم بكليته، بل سيبقى مجمعاً للثقافات المتباينة أو المتنازعة، وليس المطلوب أصلاً أن يتوحد بطغيان اسم واحد أو مركز واحد أو نموذج واحد. والدرس هو إقامة الموازنة بين الوسائط والأفكار، بين الأداة والقيمة، بين النشاط المفهوم والفعل التواصلي، وبما يتيح للإنسان أن يمارس حيويته الوجودية بكل أبعادها، بخلق مساحات ومجالات للتواصل والتبادل، سواء على مستوى الداخل أو على مستوى الخارج.