سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
"الحياة" تحاور الفكر العربي : أين نحن في العالم؟ متى ينتهي الانحدار؟ أي دور للمثقف؟ علي حرب : العرب لا يتقنون لغة التحول والتداول ومشكلتهم الجوهرية فكرية نؤمن بالأشياء والقضايا والشعارات حتى أضدادها ... ونحسب المشكلة حلا
علي حرب حالة على حدة في الفكر العربي في لبنان، فهو لا يدرّس في الجامعة، ولا ينتمي الى أي من الحلقات الحزبية او المجموعات المؤدلجة. منذ عشرين سنة وهو يعمل على مشروع فكري ينتمي الى الساحة العربية ككل. يخوض من حول مشروعه، السجالات ويشارك في الندوات ويصدر كتباً تجمّع له منها حتى الآن نحو عشرين، بعضها على رغم صعوبة اسلوبه وموضوعه، طبِع مرات، وفي غير مدينة عربية. وهو الآن متقاعد عن أي عمل اكاديمي منتظم، وتفرغ للكتابة والتأليف منذ فترة. لا يكتب عشوائياً او كرد فعل، بل تبعاً لمشروع يحدد نقاطه بنفسه: المساهمة في تشكيل حقل جديد للنقد الفلسفي بالانتقال من نقد العقل الى نقد النص واستخدام استراتيجية جديدة في القراءة، اثارة السجال حول دور المثقف على الساحة العربية، محاولة تحليل عوائق المشروع النهضوي العربي وتفكيك ازمة الحداثة، قراءة المشهد العالمي قراءة تحلل ظاهرة الارهاب وتعيد بناء مفهوم الاصلاح، وصولاً الى محاولات في تجديد العدة الفكرية... الخ. هذا المشروع المتعدد يشكل جوهر الكثير من الكتب التي اصدرها علي حرب، ابن الجنوب اللبناني، المنفتح على التراث وعلى الفكر العالمي في آن، انفتاحاً نقدياً في مطلق الاحوال، حتى اليوم. ومن ابرز هذه الكتب:"التأويل والحقيقة"1995،"لعبة المعنى"1991،"نقد الحقيقة: نقد النص"2005،"أسئلة الحقيقة ورهانات الفكر"1994،"أوهام النخبة"2004،"حديث النهايات، فتوحات العولمة ومآزق الهوية"2004،"العالم ومأزقه: نحو عقل تداولي"2002. والحوار التالي الذي يتناول كثيراً من قضايا تتقاطع بين هموم علي حرب، وبين المواضيع التي تدور من حولها حوارات"الحياة"هذه، يأتي تالياً لحوارات سبق نشرها مع سمير أمين وجورج طرابيشي وبرهان غليون، والطاهر لبيب وعلي أومليل ومحمد الرميحي وعبدالمنعم سعيد وابراهيم البليهي ووجيه كوثراني، وسعدالدين ابراهيم وعبدالله الغذامي وطيب تيزيني وتركي الحمد ومحمود عبدالفضيل. اشتغلتَ على المسائل الفكرية وهوية المثقف، لا سيما المثقف العربي، طويلاً. كيف تحدد هوية هذا المثقف ودوره في عالمنا العربي... وأي علاقة له بالواقع الذي نعيش؟ - أؤثر تقديم نفسي تحت خانات قومية او دينية او نهضوية، كمفكر عربي او اسلامي، همه تجديد مشروع النهضة العربية او مناهضة المشروع الثقافي الغربي، ولا تحت عناوين طليعية تحريرية، كمدافع عن تحرير الشعوب او مصالح الجماهير. فذلك يحيل عملي الى لاهوت كلامي او الى أدلوجة كفاحية، بمقدار ما يحوّلني الى مجرد داعية او ناشط سياسي. بدلاً من ذلك اؤثر التعريف بنفسي، من خلال مهنتي، كعامل في المجال الفلسفي، وأدرج اعمالي في فرع معرفي او تيار فكري او مذهب فلسفي... بحيث اعمل بخصوصيتي كي اهتم بتجديد او تغيير شبكات الفهم وخرائط المعرفة او صيغ العقل وقواعد المداولة... بالطبع، أهتم بالتراث الاسلامي وبقضايا المجتمع العربي، لكنني اهتم ايضاً بالقضايا التي تستأثر باهتمام الانسان المعاصر عموماً، خصوصاً أننا نلج في عصر الاعتماد المتبادل، حيث تتشابك المصائر والمصالح وتتعولم الهويات والمشكلات. كذلك اهتم بالدفاع عن هويتي او عن حريتي، لكن ذلك هو حافز كي اعمل عملي وأتقن مهنتي التي هي الاشتغال في إنتاج الافكار وصناعة المفاهيم. فأنا لست مجرد داعية او مناضل، فما اكثر المناضلين، وما أندر المفكرين المنتجين. وهكذا فأنا أُعنى وأفترض ان المهمة الأساس لكل مفكر عربي هي ان يعنى بأسئلة الفكر العربي، ولكن كي أصل الى طرح اسئلة الفكر عامةً بطابعها العالمي والكوسموبوليتي، كما أهتم بتغيير الواقع، خصوصاً اذا كان بائساً او مرعباً، وفقاً لمثال او معيار او نموذج، كالاعتراف او الشراكة او المساواة. لكن ما يعنيني بالدرجة الاولى هو ما يتصل بالوقائع الفكرية، سواء من حيث علاقتها بالحقيقة والمعرفة او باللغة والعقل او الهوية والثقافة. هذه نقطة محورية تتعلق بسياسة الفكر وطرق ادارة الافكار والاشتغال عليها، نقداً او تفكيكاً او صرفاً وتحويلاً، وذلك بفتحها على ممكناتها والاهتمام بمفاعيلها واصدائها ومجالات تداولها، وكل ما يمكن ان تفتحه من الأبواب والفرص للمعرفة والعمل. هذا هو رهان المثقف وشاغله: فهم المجريات وتناول القضايا على صعيدها الوجودي وفي افقها العالمي وبعدها الكوكبي، بالعمل على صوغ افكار او تركيب مفاهيم تساهم في تشخيص الازمات وصوغ الاشكاليات، او في تفكيك المشكلات وحلّ الثنائيات، بحسب ما تقتضيه الصناعة الفلسفية من اللغات والأدوات، شأني في ذلك شأن اقراني في الدول المنتجة والمصدّرة للأفكار الخارقة التي تنتشر خارج بيئتها الأصلية وتخلق مجالها التداولي على الساحة الثقافية العالمية. وإن لم أفعل ذلك، اي ما لم اكن منتجاً للأفكار التي تخلق مفاعيلها خارج نطاقها المحلي، أتقوقع في خصوصيتي وأترك الفرصة لسواي كي يفكر عني، كما هو حاصل الآن. من هنا جاءت عناوين كتبي عامة، من كتاب التأويل والحقيقة الى الانسان الادنى، ومن نقد النص الى اوهام النخبة، ومن المنطق التحويلي الى العالم ومأزقه، فضلاً عن كتاب الاختام الاصولية والشعائر التقدمية الذي هو تحليل لعوائق المشروع النهضوي العربي. فكر ونضال هل تعتقد بأن هذا التعريف الذي تتخذ نفسك مثالاً له، ينطبق على الأجيال المتعاقبة من المفكرين العرب حتى الآن؟ - أبداً... انه يختلف ويتميز عمن نسميهم"المفكرين العرب"، لأن اكثريتهم الساحقة، خصوصاً اصحاب مشاريع النهوض والتحرير، يخلطون بين الاعتبارات الايديولوجية والنضالية من جهة، وبين الشواغل المعرفية والصناعة المفهومية من جهة اخرى. لذا نجد كثيرين يكررون، منذ عقود، الكلام على العقلانية والاستنارة والحرية والهوية والمواطنة وحقوق الانسان، من غير تجديد او تطوير في عناوينها على سبيل التغذية والاغناء. وهذا ما يؤول بهم الى فقدان الصدقية والمشروعية والفاعلية. فما لم يكن المثقف، والمقصود هنا العالِم او الفيلسوف، منتجاً للأفكار والمفاهيم والنظريات، يفقد فاعليته، كي يتحول الى مناضل فاشل بمقدار ما هو مفكر غير منتج او مبدع. هذا ما يحصل اجمالاً في العالم العربي، حيث المهمات النضالية والمطلقات العقائدية تبتلع المهن المعرفية لدى الفلاسفة والعلماء. لذا لم تنتج الثقافة العربية عالم اجتماع يضارع ابن خلدون او دُركايم، ولا فيلسوفاً يضاهي الفارابي او ماركس، بمقدار ما تحكمت الهواجس الدينية والقومية بالوعي والفكر والخطاب. من هنا لم يخرج المفكرون العرب على العالم، بفكرة خارقة للسقف المحلي والاقليمي نحو الأفق العالمي، كي يشاركوا في صناعة العالم عبر خلق وقائع الفكرية والمعرفية. الامر الذي يحملني على تفسير هذا العجز والاخفاق، ليس برده دوماً الى اسباب سياسية او مجتمعية، ولا بردّه فقط الى الاستبداد السياسي او الى الارهاب الديني من جانب الطاغية او الكاهن، ولا الى التخلف او الى كوننا على الهامش وليس في المركز، بل افسر العلّة على صعيدها المفهومي، كما تقتضي الصناعة الفلسفية التي هي صناعة مفهومية، اي الى كون المفكرين العرب غلّبوا الاعتبارات الأيديولوجية والهموم النضالية التحريرية على مشاغل الكشف والتنوير او الفهم والتدبير. هذا هو الفرق مثلاً بين المفكرين الغربيين والمفكرين العرب، بين حسن حنفي وبول ريكور او بين صادق جلال العظم وجورج لوكاش او بين نصر حامد ابو زيد وجورج اوستن. فالغربيون لا يتعاطون مع افكارهم من خلال هوياتهم وجنسياتهم، بمقدار ما تندرج اعمالهم ضمن حركات فكرية او فروع معرفية او مدارس فلسفية او ثورات منهجية او موجات حداثية. اما المفكرون العرب فإنهم يفكرون قومياً او دينياً، بمقدار ما يحصرون همّهم في تراثهم او ما يعملون لتجنيس العقول والعلوم والمعارف. وهذا عطب اساسي، إذ مقتل الفكر ان ينحصر او يُحشر في خانة او دائرة او قوقعة قومية او ثقافية او دينية او مذهبية، ولو كانت فلسفية. الشاهد على ذلك أن هناك بعض المثقفين العرب يقيمون في باريس او يدرّسون في جامعاتها، لكنهم لم يجددوا في حقول المعرفة، على غرار نظرائهم الأوروبيين، ولم ينتجوا افكاراً تستأثر باهتمام غير العرب ممَن يُعنى بشأن الفكر والمعرفة، لأنهم يفكرون عربياً او اسلامياً او نهضوياً، اي على حساب مهنهم. وما اعتقده أن ما يحتاج اليه"المفكر العربي"أن ينسى، فيما هو ينظر ويتأمل او يفهم ويشخص، هويته وخصوصيته، كي يستعيدها او يمارسها على نحو غني وخلاق وفعال، من خلال الانتاج والابداع الذي هو جوازه الى الفاعلية والعالمية. بل أن ما يجدر به ان يفعله، هو ممارسة نقد الذات، بالتخلي عن استخدام لقب"المفكر"الذي عرقل الانتاج الفكري، لاستخدام الألقاب العائدة تحديداً للاختصاصات، كعالم الاجتماع او الفيلسوف، أو... الأزمة عربياً وعالمياً هل هذا ما يخلق الأزمة التي يعيشها الفكر العربي؟ - الأزمة لا تقتصر، اليوم، على العالم العربي، وإنما هي كونية شاملة تعصف وتضرب في كل الحقول والصعد الامنية والبيئية والصحية والاجتماعية، ربما باستثناء المجال التقني والمعلوماتي الذي ينمو ويتضخم على حساب بقية المجالات والنشاطات كي تزداد الأزمة تعقيداً واستعصاء. تعيش المجتمعات البشرية اليوم في اجواء من التوتر والقلق او في خضمّ من الفوضى والاضطراب، او وسط مسلسل من التراجعات والانهيارات. هذا شأن فرنسا، مثلاً. فهي التي كانت تعدّ في طليعة الدول المتقدمة، تعاني الآن من استنفاد نموذجها الاقتصادي والاجتماعي، كما تشهد الاضطرابات والانتفاضات التي تنفجر بصورة متلاحقة على ساحاتها وفي مدنها، الامر الذي يجعل المراقبين والمحللين يتحدثون عن"الداء الفرنسي"، وكأن فرنسا أصبحت رجل اوروبا المريض. وهذه حال الولاياتالمتحدة التي تقودها استراتيجيتها العالمية، في ادارة الشأن الكوكبي، الى التورط والتخبط. أعلنت الحرب على الارهاب كي يزداد شراسة ويفتح ابواب جهنم في غير مكان، الأمر الذي يخلق حالة طوارئ عالمية او ما يشبه الحرب الأهلية الكونية في العالم اليوم. لعل هذه حال المجتمعات البشرية عموماً، في مواجهة المعضلات والتحديات المتعلقة بالفقر والاستبداد والوباء والتلوّث، حيث المعالجات تولّد من المشكلات أكثر مما تضع من الحلول. هذا ما يجعلني أقول إننا ندخل عصر انصاف الحلول وأشباهها، مع الدخول في عصر يتصف، من حيث حركته ومنتجاته وتبادلاته، بما هو متسارع وموقت وناعم وعابر. أين العالم العربي وسط هذا الاضطراب الكوني؟ - الأزمة في العالم العربي مضاعَفة ومزمنة، وربما مستعصية، كما تشهد المشكلات المتفاقمة والهزائم المتلاحقة. المجتمعات الاخرى، تضع، على الاقل، مشكلاتها على مشرحة الدرس والتحليل او النقد والتشريح، في حين نحن نهرب من مواجهة المشكلات، والأرجح أن ما نحسبه الحلّ والعلاج هو المشكلة والآفة أو الكارثة والطامّة، وبالعكس. لذا نحصد التراجع والتقهقر. وهكذا، نهرب من المحاسبة والمراجعة كي نتستّر على الأخطاء والآفات، فتزداد مفاعيلها السلبية والسيئة او المدمرة... واذا كانت البشرية تدخل اليوم في زمن انصاف الحلول او الحلول الموقتة، فإن العرب يعملون من حيث لا يحتسبون، للإلتفاف على الحلول او لتدمير القضايا والمشاريع، كي يصنعوا المساوئ والمآسي والكوارث. والمثال على ذلك، موقفنا من العولمة التي نفزع منها ونتعاطى معها كبعبع او كشر، فيما هي فرصة وجودية فتحت امام البشر امكانات هائلة للتفكير والعمل. على هذا النحو يتعاطى الصينيون معها. كذلك، نخشى النقد والتشريح، للهوية والتراث والسلف، فيما النقد هو اجتراح امكانات للتفكير او فتح ابواب واختراع وسائل للعمل والتدبير... أو اننا نعتبر الثقافة الحصن الأخير في مواجهة المتغيرات والتحديات، في حين أن الثقافة السائدة بمفرداتها ورموزها وقيمها ومؤسساتها وادواتها هي ما يحتاج الى الخضوع للنقد والتغيير، اذا اردنا المشاركة في ادارة التحولات في صورة بناءة وفعالة. نحن نتباكى على القيم الانسانية، إزاء الانتهاكات المتزايدة لحقوق الانسان والشعوب، في حين ان انسانيتنا، نماذجها واطيافها ورموزها، هي مصدر البربرية التي تفاجئنا. أي دور للخارج هل تنكر أثر العوامل السياسية والصراعات مع الخارج في انتاج مآزق العرب؟ - بالطبع تتعدد المداخل والتأويلات بتعدد الحقول والقطاعات. واذا كان كل واحد يدخل من حقل اختصاصه، أو يستخدم ادوات اختصاصه، فإن ما أراه أن الأزمة لا تُفسّر فقط بردها الى الاستبداد السياسي او الى الاستعمار الخارجي، ولا الى مجرد الصراع العربي - الاسرائيلي، كما يفعل كثيرون. فبوصفي أنتمي الى القطاع الثقافي واعمل في احد حقوله المعرفية، افسر الأزمة بردها الى العقول والأفكار والتصورات، الى نمط التفكير وقوالب المعرفة وشبكات الفهم ونماذج الثقافة. هذا مناط التشخيص في الصناعة الفلسفية التي هي صناعة مفهومية: مشكلة كل شيء تكمن في مفهومه او في فكرته. مشكلتنا الأولى تكمن في فكرنا، إذ لا توجد امة على سطح هذا الكوكب، كالمجتمعات العربية، قرر اهلها الاستقالة من التفكير الحي والخلاق، كي يدافعوا عن اساطيرهم وأوهامهم وثوابتهم ومطلقاتهم الخادعة والحاجبة او المعوقة والعقيمة او المستحيلة والمدمرة. كل الأمم والشعوب لها اصولها وتراثاتها التي تحافظ عليها او تعتز بها، لكنها تعمل عليها وتحسن صرفها الى عملات حضارية تساهم بها في بناء حاضرها في صورة ايجابية ومثمرة، وتساهم في الحضارة العالمية، بالخلق والاختراع، في مجال من المجالات. العرب يسيرون بعكس الاتجاه. نحن استثناء ولكن سلبي، ورجعي، سيئ، عقيم، مدمّر، كما تشهد اسلحتنا. نملك سلاحين: النفط والدم، بل ثلاثة، اذا أضفنا اليهما التراث، لكننا لم نفلح حتى الآن، في تحويل التراث الهائل والموارد الغنية الى ابداعات ثقافية او الى منجزات حضارية، لا الى افكار خارقة ولا الى نماذج ناجحة. اما الدم فيرتد علينا هلاكاً ودماراً، قبل ان يرتد على الغير. فالعلة تكمن في الثقافة ونماذجها، فهي بيت الداء والعلبة السوداء. نحن ازاء ثقافة اصولية، صنمية، متحجرة، احادية، نرجسية، طوباوية، عدوانية، كسولة، تولد كثرة الاخطاء والمساوئ، بمقدار ما تحمل على اقصاء الغير واستئصاله، وتنتج الفقر والعجز والتراجع، بمقدار ما تفضي الى الهامشية والتبعية للغير. إنها ثقافة تبجيلية، تبريرية، تقليدية، لا يهتم اهلها بإنتاج المعرفة، بل همهم الادعاء، على سبيل"التشبيح"بأن ما انتجه الغربيون من المعارف سبقناهم الى معرفته. ولا يهتمون بتشخيص الواقع الحي، المتوتر والمضطرب بل المتلهب بالأحداث والتحولات او بالأزمات والتحديات، بل همهم الاول حراسة الافكار كي يثبتوا أحقية العقيدة أو عصمة الامام المرشد والزعيم الأوحد، او كي يبرهنوا على صدقية النظرية او النموذج او الشعار او الخط او البرنامج، كما هو شأن الجميع، تراثيين وحداثيين. لنتأمل موقف التراثيين من بعض الآثار التراثية، كأعمال الفارابي وابن سينا وابن رشد وابن عربي. إنهم يقيسونها على تأويلاتهم او تهويماتهم حول النص القرآني، كي يستبعدوها، او يكفّروا اصحابها كما يفعل الداعية التراثي، او بالعكس، كي يتعاملوا معها بمنطق التبجيل بوصفها النموذج المحتذى كما يفعل بعض الحداثيين، في حين أن الغربيين، يتعاملون معها كرؤوس اموال رمزية او ذخائر فكرية، يمكن الاشتغال عليها لتحويلها الى معارف حيّة. مثال آخر، يجسده موقف الحداثيين العرب من المنجزات الفكرية لما بعد الحداثة. تعاملوا معها بعقلية اللاهوتي والداعية، فقاسوها على النماذج الحداثية الآفلة او المستهلكة، كي يعملوا لاستبعادها، في حين هي فتحت امكانات خصبة وهائلة للتفكير، بمقدار ما شكّلت ادوات فعالة للفهم والتشخيص. وهذه من فضائح الحداثيين العرب الذين يتهمون غيرهم بأنهم رجعيون، فيما هم يتشبثون بحداثة رجعية تعيدنا الى وراء. هذه الثقافة بنماذجها ورموزها وثوابتها وطوطماتها وأحكامها وآلياتها وعقدها، بوصفها"العلبة السوداء"، هي التي ينبغي فتحها وتفكيكها، اذا اردنا اعادة التشكيل والبناء، اذ هي التي تسمم نظام الحياة وتدمر منابع الحيوية وتعطل القدرة على الخلق كي تساهم في هدر الجهد والوقت واستنزاف الموارد والثروات. لنتوقف عند النرجسية اي كل ما جعل الدعاة والمصلحين من محمد عبده حتى محمد الغزالي، يعتقدون بأن الغرب نجح لأنه قلدنا وسار على نهجنا، فيما نحن تراجعنا لأننا تخلينا عن هذا النهج. ذلك يشكل مقتل المشروع الحضاري العربي ويفسر تعثره او فشله على اختلاف العناوين والنُّسخ: المكابرة، المعاندة، النرجسية، الادعاء بامتلاك مفاتيح الحقيقة، تنزيه الذات وتبخيس الغير... وكلها هواجس وتهويمات ومنازع وعُقد تقودنا الى نفي الوقائع والتحولات، او الى انكار الانجازات التي حققها الغرب، او الى السطو على المعارف التي ينتجها الغربيون ونسبتها الى الذات. هنا مصدر الخلل ومكمن العطب ومصنع العوائق والاعطال، إنه يتجسّم في الجينات الثقافية اذا شئنا الاستعارة من المجال البيولوجي: في عبادة النص وتقديس العقل، في عقلية التكفير ولغة الادانة، كما في ارادة الذوبان في الزعماء واستراتيجية الالغاء للآخر، سواء لدى ديناصورات التراث او مسوخ الحداثة. هذه الجينات الثقافية التي تصنع النماذج المسيطرة على الحياة العربية والمتحكمة بالعقول والافكار والمواقف. ومن هذه النماذج: - حال الساذج الثقافي الذي سلّم اوراقه العقلية لشيخه، بوصفه يمتلك مفاتيح الدخول الى جنة الفردوس، لذا يصبح طوْع امره كي ينفّذ ما يملي عليه في صورة عمياء. - أو الاصولي الارهابي الذي تحوّل الى مخرّب أممي، يزرع الرعب وينشر الدمار في غير مكان من العالم العربي والعالم الاوسع. - أو المفسّر المشعوذ الذي يسطو بغير خجل او يتعدى على النظريات المنتجة في ميادين المعرفة كي ينسبها الى الدين. هذا على الجبهة التراثية، لكن الوضع ليس افضل بكثير على الجبهة الحداثية، كما تشهد النماذج: - المثقف الحداثي الذي يتشبث بحداثة تقليدية ولدت منذ ثلاثة قرون، ويتخيل مستقبل العرب على صورة المجتمعات الأوروبية في القرن الثامن عشر. اصحاب هذا النموذج تعاملوا مع الحداثة كديانة جديدة، فقدسوا العقل وألهوا المقولات والعناوين الحداثية. - داعية التغيير الذي يخشى المتغيرات، كما حال المذعورين من العولمة وفتوحاتها التقنية. فإذا الحصيلة فقدان الفاعلية ومزيد من الهامشية. - داعية التحرر الذي يدافع عن انظمة استبداد بذريعة مقاومة الاستعمار والامبريالية والولاياتالمتحدة، فإذا النتيجة مزيد من الاستبداد وتقييد الحريات. - مدعي المعرفة الذي يخشى على هويته وعقله وثقافته من المناهج والتيارات الفكرية. - المُدافع عن الهوية ضد الغزو الثقافي الغربي، في حين أن ألقابه وازياءه ومفرداته ومعارفه هي ذات مصدر غربي. - حارس الهوية الذي يعلن ان الثقافة هي الحصن الاخير في مواجهة التحديات والمتغيرات، في حين ان الثقافة السائدة بنماذجها وعناوينها وادواتها، هي ما ينبغي اخضاعه للنقد والتشريح، تحويلاً وتجديداً، لمواجهة المتغيرات والمشاركة في ادارة التحولات. المخارج ممكنة انه وضع أسود وقاتم... أين يكمن المخرج؟ - نحن ازاء نماذج وصور ومقولات ومواقف تعيد انتاج الأزمات وتصنع المواقف والمآزق، إذ هي تشهد على اننا لسنا على قدر ما ندعي ونعلن، وعلى اننا اقل شأناً ومعنى بكثير مما نقدم انفسنا. بل تشهد على اننا لا نحسن سوى انتهاك ما ندعيه او ندعو اليه، ذلك أننا نتعلق بالأشياء ونفكر في القضايا في صورة مطلقة، طوباوية، تبسيطية، ثبوتية، حتى تنقلب الى أضدادها. هذا شأننا مع الحرية والحقيقة والعدالة والحق والعقلانية والانسانية، فضلاً عن العروبة والاسلام. نؤمن بها حتى الاستبداد والكذب والمحق والخرافة والبربرية، او حتى الفتن المذهبية والحروب الأهلية. ان الثقافة السائدة برموزها، من فقهاء ومرشدين او دعاة ومناضلين، بتركيباتها القديمة ومنظوماتها الايديولوجية، الحديثة، إنما هي ثقافة تصنع العنف وتنشر الرعب بمقدار ما تولد الفقر والعجز والتخلف. إذ تحول الهوية الى مرض يفتك بالمجتمعات، كما يتجسم ذلك في مجانين اللاهوت، او في حرب الأنظمة والأحزاب والتنظيمات والفصائل لدى القوميين لإنتاج مزيد من الانقسام والتفتت، او لدى الاشتراكيين حيث الاشتراكية ولدت ميتة. لم تعد المشكلة انسلاخنا عن تراثنا، كما يهوّلون، إذ لا احد يريد سلخنا عنه، بل لا يمكن ان ننسلخ عنه، اذ بات جزءاً من تكويننا الثقافي. لكنه يحتاج الى من يعمل عليه لتحويله الى عملة حضارية... كذلك الأمر بالنسبة الى الحداثة. فنحن نقيم في صميم العالم الحديث الذي نفيد من مكتسباته وانجازاته، لكننا نعيش على الهامش، لأننا لسنا خلاّقين او منتجين، لذا لم تعد المسألة مسألة مفاضلة بين حداثة وتراث، بل هي كيف نمارس خصوصيتنا في صورة خلاقة، بناءة، غنية... لا انكر ان هناك قوى في العالم العربي تعمل من اجل البناء والانماء بعقلية سلمية مدنية مفتوحة على العالم، للإفادة من منجزات الغير، واستثمارها، لتطويرها والاضافة عليها. لكن القوى الغالبة هي قوى الانغلاق والتعصب والتشبيح والتهويل والشعوذة، فضلاً عن الاستبداد والفساد والارهاب والخراب، كما تمثلت لدى اصحاب المشاريع الثلاثة القومية والاشتراكية والمسماة اسلامية، بحيث تحوّل الناس كائنات ايديولوجية مستنفرة او مذعورة، لا تحسن التفكير او التحرك او العمل، الا بخلق اعداء تخلع عليهم نعوت الشر المحض، كي تدينهم وتعمل لاستئصالهم الرمزي او المادي والثمرة السيئة هي ما نحصد ونعاني. خلاصة القول، إن العالم العربي لا ينتج الافكار، وإنما يشتغل بحراستها لتحويلها الى عوائق او الى معسكرات او الى آلات للفساد والخراب. يعاني الآفات والامراض المزمنة، ومع ذلك يمانع في تشخيص العلة، كي يزداد عجزاً وتخلفاً وتفككاً. لذا فإن احوج ما يحتاج اليه العالم العربي، هو كسر منطق النرجسية والمماهاة والادعاء والاستبعاد، لإتقان لغة الحياة والعصر والمستقبل التي هي لغات الخلق والتحوّل والتداول والتبادل، بحيث ينخرط في بناء استراتيجية جديدة في التفكير والعمل من خطوطها... 1- ممارسة التقى والتواضع والمراجعة والنقد الذاتي والإنصات الى الغير للتعلّم والاستفادة. 2- إتقان لغة التداول مع المختلف في الداخل والآخر في الخارج، بما يعنيه التداول من تعدّدٍ واعترافٍ وتوسّطٍ وشراكةٍ وتبادل... 3- التعامل مع الهوية بمنطق التحوّل بحيث يعمل الواحد للتغيّر عمّا هو عليه. نحو إعادة النظر كيف يمكن المثقف، أن يؤثر في مجتمعه في صورة ايجابية؟ - الاخفاق في المشاريع والبرامج يشهد على فقدان المثقف الصدقية والمشروعية والفاعلية. هذا شأن المثقف المناضل، عموماً، على الساحة العالمية. المثقفون ينظرون الى مجتمعات هم جاهلون بها، هذا ما يقوله ألان جان بودريار، وما قاله أحدنا قبل عقد، لذا اصبحوا في وادٍ والناس في مكان آخر. ولا يعني ذلك ان المشكلة تكمن في العولمة والليبرالية الجديدة كما يحسب بعض المثقفين الغربيين، وإنما تكمن في أفكارهم وفي كونهم باتوا جزءاً من الأزمة التي تعني أن العالم يسير ويتشكّل بعكس تنظيراتهم وتقديراتهم واقتراحاتهم. أما في العالم العربي، فالمشكلة اكثر تعقيداً، اذ المثقفون، اي المفكرون، هم، بالاجمال، مقلدون غير منتجين للأفكار. فشلوا في المهمة المناطة بهم، فكيف يدعون انهم يمتلكون حلولاً لمجتمعاتهم؟ انهم يقدمون المثال الأبرز على مَن يحسب المشكلة حلاً، اذ هم يرمون المسؤولية على الغرب او على الساسة او على الناس والمجتمع، فيما المشكلة تكمن في عُدّتهم الفكرية المستهلكة. وفي اي حال، ان التعثر والفشل مدعاة لأن يعيد المثقف النظر في صورته ومكانته ودوره وعدته ومجمل علاقاته بذاته وبالناس والمجتمع والعالم، وذلك من غير وجه: - فك وصايته الفاشلة على القيم والحقوق والقضايا، بحيث يتخلى عن ادعائه بوصفه مالكاً للحقيقة، ولا يتحدث الى الناس بوصفه وكيلاً عليهم او أولى بهم من انفسهم. الممكن بعد الادعاء والفشل، الانصات الى الغير والعموم من الناس للتعلّم منهم على سبيل التبادل والتفاعل. - التخلي عن النخبوية والنرجسية، كما يتمثل ذلك في احتكار المعرفة واحتقار الجمهور، كي يتصرّف كمشتغل في حقل من حقول المجتمع، شأنه شأن العامل في أي حقل آخر، من غير امتياز او منّة او افتخار. واذا كانت مهمته الاولى انتاج الافكار والنظريات والمناهج، فإن هذه تحتاج الى أن توضع على طاولة المناقشة والمداولة وتبادل الخبرات مع بقية الحقول والقطاعات كي تُصرف الى واقع حيّ او الى فاعلية مجتمعة او الى اجراء عملي... - كسر نزعات الطوباوية والمثالية، بحيث لا يجرى التعامل مع الافكار كأقانيم او جواهر ثابتة او حقائق مطلقة، على ما هي الحال من أفلاطون الى تشومسكي. فالأخير يتعامل مع الحرية كغريزة اساسية او كنظرة اصلية، تماماً كما يتعامل مع اللغة والعقل، والثمرة كي تراجع فكرة الحرية بعد عقود من طرحها. لأن فعل الحرية هو جهد ومراس وصناعة وبناء وتحويل. فنحن اذ نتحرر لا نستعيد حقوقاً ضائعة او هوية مستلبة، وإنما نتغير، ونعيد تكوين انفسنا ونصنع عالمنا مجدداً، بخلق فناءات ومساحات او مفاهيم ومعايير او توسطات وادوات جديدة. ان التعامل مع الحرية بمنطق فطري او فردوسي او قدسي هو مقتلها. - كسر منطق الادعاء والاحتكار والوصاية، للعمل بعقلية الشراكة ولغة المداولة ومنطق التحول وثقافة التعدد والاعتراف ومنهج التوسط والمساومة. مختصر القول: إن اعادة بناء دور للمثقف، كي يساهم في التنمية البشرية والعمل الحضاري، وكي يكون مشاركاً فعالاً في صناعة الحياة المعاصرة في صورة مدنية وسلمية، وعلى نحو مختلف، بحيث لا نخضع لهيمنة قوة وحيدة او مجال وحيد او بُعد أوحد، هو كَسِواه من الناس، مختص، منتج، وسيط، شريك، فاعل في صناعة الحياة المشتركة. والشراكة تحمل المفكر العربي على التخلي عن لقب المفكر، لاستخدام الألقاب العائدة الى المهن وحقول المعرفة، لأن التفكير هو ميزة الكائن البشري، وكلّ مَن ينجح في عمله او ينتج في مجال اختصاصه، إنما يقيم مع فكره علاقة حيّة وخصبة او فعّالة وراهنة. الثروات والهويات العابرة للقارات "الشعارات الحديثة المتعلقة بالنهضة والتقدم والتنمية او بالعقلانية والاستنارة والديموقراطية، كما يجرى تكرارها ولوكها منذ عقود، دمِّرت على يد دعاتها، بعدما تحولت الى شعارات جوفاء او الى مقولات خاوية تشل طاقة الفكر بمقدار ما تحجب حركة الواقع. فالعلمانية أظهرت هشاشتها ازاء الاصولية الدينية التي تسيطر على الشرائح الواسعة، والاستنارة العقلانية أثبتت تقصيرها في مواجهة مظاهر الفوضى واللامعقول، والمواطنة منعت بلورتها العصبيات والقبليات والفاشيات الطائفية، والحريات الديموقراطية آلت الى مزيد من القهر والاستبداد، والتنمية أخفقت في مقاومة عوامل الفقر والتخلف، والدعوة الانسانية تكذبها البربرية المعاصرة المفاجئة والفاضحة. هذا الاخفاق، عربياً، يتغذى من الأزمة العالمية، كما تتجسم في استهلاك الشعارات على ارضها بالذات. ذلك ان الحداثة التقليدية، في المجتمعات الغربية نفسها، تعاني منذ زمن ازمة بنيوية تطاول الاسس والثوابت، كما تشهد عناوين المؤلفات والدراسات: العجز الديموقراطي بيار روزانفالون، الجهل الجديد توماس دوكوينيك، البربرية الداخلية جان فرانسوا ماتيه، مجتمع المخاطرة أولريك بك، نحو معالجة مستنيرة للكوارث جان بيار دوبوي، ما بعد العلمانية يورغن هابرماس، مدن الرعب بول غيريليو... وهكذا فنحن نتعدى ازمة الديموقراطية والمواطنية والعلمانية والحداثة الى ما بعدها، بمقدار ما ندخل في مجتمع جديد هو مجتمع المخاطرة، وننخرط في موجة جديدة من موجات الحداثة الفائقة. من هنا فإن التعارضات السائدة والمتحكمة بالأذهان، كثنائية الحداثة والأصالة، او العلمانية والاصولية، او الديموقراطية والشورى، أو الاسلام والغرب، باتت من قبيل الكماشات الخانقة التي تطبق على الفكر كي تعيد انتاج المآزق الوجودية والازمات الحضارية ... اننا نلج الى عصر أمست فيه الثوابت والقناعات الراسخة بحاجة الى المساءلة والفحص واعادة النظر، من اجل تجديد اشكال الصدقية والمشروعية، تحت وقع الاخفاقات المتلاحقة والانهيارات المفاجئة، كما في ضوء التحولات المتسارعة والطفرات غير المتوقعة. فالديموقراطية، كما هي نماذجها ونسخها لم تعد حلاً او ترياقاً، بل أمست عجزاً، في عصر الفاعل الميديائي والانسان الرقمي والعمل الافتراضي. كذلك الوطن المستقل، لم يعد كما كان عليه، فيما ندخل عصر الشركات العملاقة والقنوات الفضائية والحاكمية العالمية، حيث الثروات والثقافات والهويات العابرة للقارات". * من كتاب علي حرب "الانسان الأدنى" 2005