القوة حلم الأفراد والجماعات والدول، ذلك أن بها تنال الحقوق وتصان العروض، وبها يسلم الشرف، هي هيبة لمن يملكها، وركن مكين يحمي السيادة والاستقلال، وحصن حصين من اعتداء المعتدين وجور المتكبرين، وصاحبها موفور الكرامة، لا يتجرأ عليه سفيه، مهاب الجانب، لا يتطاول عليه متطاول، مسموع الكلمة، إذا قال أجاب الناس، وقالوا ذلك هو الحق نافذ الأمر، إذا أمر قال الناس سمعاً وطاعة. والقوة ضدها الضعف، والضعف منكور ممتهن فالضعيف ذليل محتقر، حقه مسلوب وكرامته مهانة وشرفه مبذول، لا تسمع له كلمة ولا تصان له كرامة، تجده دائماً حسيراً، كسيراً كاسف البال. والقوي من أسماء الله الحسنى بها أثنى على نفسه في كتابه العزيز فقال إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ، وقال أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، وأثنى الله بالقوة على أحد ملائكته وهو جبريل حيث قال في كتابه العزيز ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى، ودعا القرآن المسلمين إلى امتلاك القوة فقال وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ. وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المؤمن القوي أقرب وأحب إلى الله فقال المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف فالقوة ليست ترفاً، بل هي حاجة حقيقية للفرد والمجتمع والدول. وإذا كانت الحاجة إلى القوة ليست جديدة ولم تطرأ في العصر الحديث، فإنه مما لا شك فيه أن أهميتها زادت في هذا العصر، لأن بعض الذين يمتلكون القوة فيه لا أخلاق لهم ولا يردعهم عن استخدام قوتهم ضد الضعفاء دين ولا مثل ولا إنسانية. والقوة إن كانت في يد من لا يحكمه عقل ولا دين أصبحت يد بطش ووسيلة قهر وأداة ظلم، فمالك القوة التي لا يردعها رادع ولا يكبحها وازع تصبح مثل الكلب المصاب بالسعار يعض بلا تمييز كل من يقدر على عضه، ولكن الحمد لله أن نهاية السعار تكون دائماً الموت، وكذلك نهاية كل صاحب قوة مغتر فرداً كان أو دولة هو الهلاك. وإن أردنا استقراء هذه الحقيقة، فلنرجع إلى التاريخ فإن كثيراً من الدول والإمبراطوريات كانت نهايتها حين غرتها قوتها فاستخدمتها في القهر والبطش، فمثلاً قضت الحرب الكونية الثانية التي تعد أبشع وأعنف حرب عرفها التاريخ الإنساني، على امبراطوريتين كانتا تعملان على نشر قيمهما خارج حدودهما ألمانيا النازية وامبراطورية اليابان وتلاشى دور الامبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس بريطانيا العظمى وبرز نجم إمبراطوريتين جديدتين ركزتا على نشر فلسفتيهما وقيمهما على العالم الولاياتالمتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي السابق الذي انهار عام 1991 بعد انهيار جدار برلين 1989، فسجل التاريخ إعلان موت امبراطورية عظمى كانت تغطي سدس اليابسة، لتصبح امبراطورية أميركا قطباً أوحد باعتبارها تملك كل أدوات القوة في النواحي كافة. والقوة ليست كلها شر، بل أن الخير لا يمكن أن ينمو ويترعرع ويسود إلا إذا كان له من القوة حارس، فالعواصف والأعاصير ما إن تهب عليها الرياح، حتى تتمايل معها الرياح ثم لا تلبث أن تنكسر ثم تتهاوى فتسقط وتتحول مع مرور الأيام هباء منثورا. ولعل الآية التي ذكرناها وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ، تدل على عبقرية القرآن في طرح الحقائق فهي تشير بل توضح صراحة ما ذهبنا إليه. إن الحق والخير بحاجة لقوة تحفظهما وتحميهما وتدافع عنهما، فأمرت الآية المسلمين أن يعدوا من أسباب القوة ما يستطيعون به أن يرهبوا عدوهم ويردعوه فهم على حق وعلى خير، والحق أعداؤه كثيرون، وسيعملون جهدهم لمحاربة الخير. والحق الذي عليه المسلمون، وإذا لم يعد المسلمون من أسباب القوة ما يجعل الحق الذي يدعون إليه في منعة فعلى ذلك الحق السلام، مهما كان يملك من أسباب الإقناع، فان كنت على حق فأنت بحاجة إلى خيزوم قوي مثل خيزوم السفينة تشق به عباب البحر المتلاطم والأمواج العاتية لتستطيع التقدم والبقاء. إن الشعور بالاحتياج إلى القوة ليس جديداً فالإنسان منذ أن نزل إلى هذه الأرض في حاجة إلى القوة وعرف أنها سر بقائه، بل هي وسيلة من وسائل سعادته، فأخذ في صنع الأسلحة من الحجارة أو ما توفر له من مواد، وبدأ يميل إلى خلق مجتمعات حيث شعر أن الجماعة أقوى من الفرد في مواجهة عناصر الطبيعة القاسية، ووحوشها المفترسة، وأصبحت في ما بعد هذه الأسلحة وسيلة تحمي بها كل مجموعة نفسها من المجموعات الأخرى، وتصد بها عنها هجماتها، ثم أصبحت التجمعات الأكبر عدداً والأفتك سلاحاً تستخدم قوتها العددية وعدتها لبسط سيطرتها على المجموعات الأخرى. ولعل الأمر لم يتغير كثيراً فالإنسان هو الإنسان إن كان في العصر الحجري أو في عصر حرب النجوم، فهذه هي الدول الأكبر تفرض وتمارس قهرها على الدول الأضعف، وتحقق مصالحها بالقوة والسطوة، وتنتزع ما تريد بيد من حديد، لتطبيقها مبدأ القوة هو الحكم الأخير في العلاقات الدولية، وليس على الضعيف إلا أن يرضخ، وإلا ضُرب بأحدث الأسلحة وأفتكها، أو حوصر وجوِّع. فعالم اليوم عالم مادي شرس، لا يعرف رحمة ولا عدل، بل يعرف القوة، وبقدرتها على التأثير غير المحدود على الغير وإرغامه على الإذعان، لأنه الأضعف فأصبح الضعيف في هذا الزمن ممتهناً ذليلاً مسلوب الإرادة ضائع الحق، يؤمر فيطيع وينفذ ما يريده الأقوياء حتى لو كان في ذلك ضرره بل هلاكه، فبأي شيء يدافع عن نفسه وبأي شيء يرد كيد من أراد به كيداً؟ إن عالم اليوم أسوأ من عالم القرون الوسطى، على رغم اشتهار القرون الوسطى بوحشيتها وبطش الأقوياء فيها، ذلك أن تلك العصور على رغم وحشيتها كان ما يسمى بأخلاق الفارس ما يزال موجوداً فيها، وقد يجد الضعيف فيها شيئاً من العناية، وقد يجد المحتاج فيها شيئاً من الرعاية، أما عالم اليوم فإنه مجرد من كل القيم الإنسانية فلا حماية لضعيف ولا رعاية لمحتاج. هذا هو عالمنا عالم تحكمه القوة ويسوده قانون الغاب، بل إن وحوش الغابة أرحم وأعدل، فوحش الغابة إذا شبع توقف عن الفتك بالضعفاء والفرائس، أما دول الاستكبار، وفي مقدمها بالطبع العم سام فهي اليوم كلما زادت شبعاً زادت فتكاً وقهراً وظلماً، فهاهي القوة الأعظم أميركا عندما أصبحت قطباً أوحد احتلت بالقوة دولاً وأنهت سيادتها وقهرت شعوبها وانتهكت حرماتها، ومن الأمثلة القريبة في وطننا العربي والإسلامي احتلال أفغانستان والعراق والصومال. أما القدس وفلسطين والجولان ومزارع شبعا فهي جروح نازفة في قلب الأمة، يبدو أن نزيفها سيطول أمده مع غطرسة القوة الأميركية والعبرية، وحروب إسرائيل بدعم أميركي صارخ على العرب تأتي ضمن فترة الحرب الباردة التي اندلعت خلالها 146 حرباً في قارات العالم، فقضت على حوالى 30 مليون من البشر وقودها أسلحة الدول العظمى! وكلما اعتقد العرب بحسن نيتهم المعهودة بهم أن السلام قاب قوسين أو أدنى، ابتعد السلام كثيراً بسبب صلف القوة الإسرائيلية الذي تزيد شراسته، يوماً بعد آخر بدعم لا حدود له من حبيبتنا أميركا، وآخر الدعم الذي لن يكون أخيراً إعلان وزارة الدفاع الأميركية البنتاجون الثلثاء 30 كانون الأول ديسمبر تزويد إسرائيل ب 75 طائرة مقاتلة من طراز F-35 بقيمة بلغت 15.2 بليون دولار! وهذه الطائرات التي تعد من الناحية الاستراتيجية العسكرية أحدث وأسرع مقاتلات في العالم، بل والأغلى وتصنيعها مبني على تكنولوجيا طائرة الشبح التي لها قدرة فائقة على المناورة ويصعب على الرادارات اكتشافها، وبذا فإن الدولة العبرية هي أول دولة في عالم الطيران العسكري ستحصل على هذه الطائرات المتطورة التي ستدخل الخدمة في أميركا في عام 2010 وفي إسرائيل في عام 2014. وعلى النهج الأمريكي نفسه جاء البيان الذي أعلنته وكالة التعاون الأمني الأميركية إن الصفقة ستساعد إسرائيل على تطوير وامتلاك قدرات قوية للدفاع عن نفسها، وعلى الجانب الآخر أكّدت الإدارة الأميركية لأصدقائها العرب بأن الصفقة لن تضر بالتوازن العسكري في المنطقة! المهم أن إسرائيل التي جاء تأسيسها على أرض العرب العام 1948 شنت سبعة حروب على العرب بسلاح القوة، والتهمت أراضي عربية إضافة إلى القدس والأراضي الفلسطينية، وأصبحت أكبر ترسانة عسكرية في الشرق الأوسط، وعلى مستوى القوة العسكرية تعد خامس دولة في القوة النووية والبيولوجية والكيماوية وكل أسلحة الدمار الشامل، وعلى مستوى القوة التقليدية فإن العرب مقارنة بقوتها التقليدية بالكاد يتعادلون معها، إذن هذه الدولة التي ولدت على أرضهم قبل ستين عاماً ويعدد سكانها الذي لا يتجاوز خمسة ملايين أصبحت قوة كبرى تهدد كيان 22 دولة عربية بسكانها البالغ 300 مليون نسمة! المعادلة واضحة إسرائيل تدعم ترسانتها بأحدث الأسلحة في العالم وما تقدمه لها صديقتنا أميركا من عتاد عسكري متطور لا تقدمه للعرب والحجة جاهزة عند العم سام إسرائيل تدافع عن نفسها، أما العرب الذين سلب من أيديهم قدسهم وأرضهم معتدون وهذه هي لغة القوة، وسيبقى العرب الذين حددت إسرائيل 37 هدفاً هي المدن الكبرى في دولهم لتدميرها إذا دعا الداعي سيبقون ضعفاء أمام القوة العبرية لأنهم لا يملكون القوة! وعليهم أن يعرفوا- إذا أرادوا أن يعرفوا - أنه إذا أرادت دولة أية دولة أن تعيش في هذا الزمن فلن تستطيع ذلك إلا بالقوة، وامتلاك المعرفة التي تصنع القوة، قوة تدافع بها عن نفسها وتحمي بها شعبها وتصون بها أملاكها، وتثبت بها وجودها بين الأمم، تكون كلمتها بها مسموعة ورايتها بها مرفوعة، أما إن أرادت غير ذلك وأبت إلا الضعف فخير والله، لها الزوال فهو خير من حياة بلا عزة ولا كرامة. * مفكر سعودي - رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية. نشر في العدد: 16689 ت.م: 13-12-2008 ص: 15 ط: الرياض