في حال اعتذاره.. من يعوض الهلال في كأس السوبر    بالمر يقود تشيلسي للفوز بكأس العالم على حساب سان جيرمان    الاتحاد يضم عدنان البشرى من الأهلي    "البيئة" تطلق المرحلة الثانية من "تحدي الابتكار للاستدامة"    11 لاعباً سعودياً في تحدي عالمي على أرض جدة ضمن بطولة البلياردو    جدة تستضيف الجولة الرابعة من بطولة العالم لسباقات الزوارق السريعة F1H2O    رصد اقتران كوكب الزهرة ب"كوكبة التويبع"    موسم جدة 2025.. فعاليات مستمرة وتجارب مبتكرة تعزز مكانة المدينة العالمية    عندما تُذكر "الإبادة" كنتيجة "منطقية" للحرب    تسلسل أحداث فتنة احتلال الكويت 9    البيت الأبيض: رسوم ترامب "ستُطبق" إذا لم يحصل على اتفاقات جيدة    قصر علياء.. شاهدٌ تاريخيٌّ على طرق الحج    سُلَّم الكعبة.. مشاهد العناية الفائقة بأقدس البقاع    خير المملكة يعم لبنان والسودان وأفغانستان وسوريا    ثلاث ألعاب جديدة في كأس العالم للرياضات الإلكترونية    «جدارية الباحة».. بصمة فنية تعكس هويتها التراثية    القدرات البشرية 2024.. الركيزة الاستراتيجية لبناء الإنسان السعودي    يدور الوقت وابن ادم يعيش بوقته المحسوب    73 ألف وثيقة صلح في 6 أشهر    سورية تسيطر على معظم حرائق الغابات    إيران: «شكل جديد» للتعاون مع الوكالة الدولية    "الشؤون الإسلامية" تطلق الدورة العلمية لتأهيل الدعاة في بنجلاديش    فرنسا تعتمد برامج جامعة نايف    مستشفى الأفلاج العام يقدّم أكثر من 100 ألف خدمة صحية في 6 أشهر    رئيس بلدية الخفجي يُدشن مركز اختبار وتقييم العاملين في منشآت الغذاء والصحة العامة    القبض على (13) مخالفًا لنظام الحدود لتهريبهم (169) كيلوجرامًا من "القات"    أمير منطقة جازان يقلد عددًا من القيادات الأمنية رتبهم الجديدة    أمير منطقة جازان يستقبل رئيس المحكمة الإدارية بالمنطقة    أمير القصيم يستقبل محافظ ضرية ويتسلّم تقريري مزادات الإبل وفعاليات يوم التأسيس    أمير الشرقية يستقبل سفير جمهورية جورجيا لدى المملكة    ورشة عمل وصالون ثقافي في مكتبة الملك عبدالعزيز احتفاء ب"عام الحرف 2025"    استشهاد 10 فلسطينيين في قصف الاحتلال الإسرائيلي لنقطة توزيع مياه    موعد مباراة سان جيرمان وتشيلسي في نهائي كأس العالم للأندية    القيادة تهنئ رئيس الجبل الأسود بذكرى اليوم الوطني لبلاده    صندوق الاستثمارات يطلق شركة تسامى لتعزيز منظومة خدمات الأعمال بالسعودية    الضمان الصحي يوضح معايير صرف الأجهزة الطبية    الأرصاد: رياح على 5 مناطق و طقس حار في الشرقية    السعودية تؤكد التزامها الكامل باتفاق «أوبك+»    الأمن العام يوضح خطوات الإبلاغ عن الاحتيال المالي    نائب أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على الشثري    دمج «قسد» ضمن الدولة قيد البحث.. لا" تخطيط أمريكي" لبقاء القوات في سوريا    صورة مميزة لمونرو تباع بمزاد    568 مبتعثا ثقافيا للخارج والأولوية للبكالوريوس    فيلمي القادم سيصور بالرياض.. الفنان أحمد السقا ل"البلاد": الهلال شرف العرب في كأس العالم    مبعوث ترمب في طريقه إلى كييف.. أوكرانيا تؤكد استئناف الإمدادات العسكرية من واشنطن وأوروبا    وسط تصاعد التحذيرات الدولية.. إدانة أممية لعرقلة الحوثي جهود إنقاذ البحارة المفقودين    نيابة عن خادم الحرمين الشريفين.. نائب أمير مكة يتشرف بغسل الكعبة المشرفة    «الشؤون الإسلامية» تعزز نشر المنهج الوسطي بالمالديف    ضبط 21058 مخالفًا لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود في مناطق المملكة    تعديل جيني بديلا لأبر التنحيف    قطة تكتشف سلالة فيروسية نادرة    الدماغ لا يتوقف عن النمو    الإفراط في تناول دواء شائع يسرع شيخوخة كبار السن    الكتاب العظيم يستحق مشروعا عظيما    إطلاق مشروع "صيف زهر" للفتيات في مدينة أبها بنسخته الرابعة    هنا السعودية حيث تصاغ الأحلام وتروى الإنجازات    رئيس هيئة الأركان العامة يتفقد منظومة الدفاع الجوي «ثاد»    أمر ملكي: تعيين الفياض مستشاراً بالديوان الملكي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بيان نقاط الانحناء في مسار الامبراطورية الأميركية

لعل افضل من كتب عن تاريخ الولايات المتحدة وكيفية تحولها الى امبراطورية عالمية، هو الروائي الأميركي قور فيدال، ففي روايته التاريخية الشهيرة "الامبراطورية"، يشير الى ان التحول الى العقلية الامبراطورية بدأ مع الحرب الأميركية - الإسبانية 1898 - 1899، التي ادت الى انتصار اميركا واستيلائها على بورتوريكو والفيليبين. اي انها مع تلك الحرب تحولت من قوة اقليمية الى قوة دولية، تسعى الى بسط نفوذها ومصالحها عالمياً. ومنذ ذلك الوقت، فإن كل حرب او صراع تدخله اميركا يؤثر في قوتها وفي نفوذها الدولي، أو بمعنى آخر يؤثر في وضع الامبراطورية الأميركية سلباً او ايجاباً.
دخلت الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى 1914- 1918 بعد بدايتها بثلاث سنوات، وخرجت منها الرابح الأول والساعي الى ايجاد نظام عالمي جديد انشاء "عصبة الأمم". وعلى رغم فشل الولايات المتحدة في هذا المسعى، إلا ان اهم نتائج تلك الحرب زوال القوة المالية لبريطانيا، فمع ان هذه الأخيرة استولت على مناطق جديدة وبالذات بعض المناطق التابعة للدولة العثمانية، إلا انها اصبحت ضعيفة مالياً، فلم تبق لندن المركز المالي الذي يسيطر على بقية العالم وتتجه اليه الأنظار ببنوكه، وبورصاته، وشركات التأمين، وجذبه الاستثمارات العالمية وغيرها، ولم يعد الجنيه البريطاني العملة العالمية "الجيد كجودة الذهب" كما كانوا يقولون، اضافة الى ذلك، فإن عالم العلم والاختراعات بدأ يترك اوروبا ويلجأ الى الولايات المتحدة، وأصبحت نيويورك مركزاً مالياً عالمياً مهماً.
ولم تأخذ الحكومة الأميركية مسؤولياتها المالية بعد نهاية الحرب الأولى جدياً - من ناحية الدفاع والاعتراف بالدولار كعملة عالمية جديدة بدلاً من الجنية الاسترليني، وأدت سياسة اللامبالاة هذه الى حصول الكساد الكبير في اميركا في العام 1929، والذي نتجت منه ازمات اقتصادية حادة في انحاء العالم. وكان من نتائج الأزمة العالمية، بروز الحزب النازي وفوزه في الانتخابات وحكمه ألمانيا، وهو بدوره قاد الى الحرب العالمية الثانية.
واستمرت الحرب العالمية الثانية ست سنوات 1939 - 1945، ولم تدخلها اميركا إلا في منتصفها، إلا انها خرجت منها المنتصر الأعظم أقل الخسائر وأكثر الفوائد، وبدأت الولايات المتحدة في رسم نظام عالمي جديد وقيادته. وكان اساس هذا النظام الأمم المتحدة، كنظام سياسي، واتفاقية برتون وود كنظام مالي، واتفاقية "الغات" كنظام اقتصادي، وحلف الناتو كنظام عسكري. وانضم الاتحاد السوفياتي الذي كان يسعى الى تكوين امبراطوريته المنافسة والمبنية على النظرية الشيوعية الى النظام السياسي الجديد الأمم المتحدة لكونه يملك حقاً مساوياً لأميركا في هذا النظام، إلا انه عارض الأنظمة الجديدة المالية والتجارية والعسكرية، والأخير، اي الناتو، كان اساساً موجهاً ضد السوفيات، فأنشأت موسكو منظومتها الخاصة بها من خلال حلف وارسو العسكري، ونظام الكوميكون الاقتصادي. وخلال الخمسينات والستينات والسبعينات حاول الاتحاد السوفياتي منافسة النفوذ الأميركي فنجح نوعاً ما في النواحي العسكرية والسياسية، وربما التكنولوجية في الخمسينات والستينات فقط، اما من الناحية المالية والتجارية، فقد كان ضعيفاً لا يستطيع الصمود امام القوة الكبيرة المالية والتجارية لأميركا، والتي كانت تقود اوروبا الغربية واليابان.
وواجهت القوة المالية الأميركية مشكلة كبيرة في اواخر الستينات واوائل السبعينات، ما ادى الى تخلي واشنطن عن ركيزة نظام "برتون وود" من حيث ربط الدولار الأميركي بالذهب، وتحديد سعر شبه ثابت له مقارنة بالعملات الأوروبية الرئيسية والين الياباني. وكانت هذه الأزمة المالية ناتجة من حرب اميركا في فيتنام بتكاليفها المالية الباهظة، وبروز بعض دول اوروبا الغربية كقوة اقتصادية ومالية لها اهميتها العالمية.
واضافة الى هذه الأزمة المالية الكبيرة، واجهت اميركا في اوائل السبعينات ازمتين كبيرتين، الأولى ازمة "ووترغيت" عام 1973 التي هزّت النظام السياسي الأميركي، والثانية هزيمتها العسكرية في فيتنام 1975 التي هزت سياستها الخارجية، وبالذات في الجانب العسكري. كما ان ازمة رهائن السفارة الأميركية في ايران 1979- 1980 مثّلت اهانة كبيرة للقوة الأميركية. ولا بد من الملاحظة هنا ان المحافظين الجدد الذين يوجهون السياسة الأميركية في الوقت الحاضر، بدأوا في الظهور كقوة سياسية في تلك الفترة.
إلا ان التحدي الكبير لمركز اميركا الاقتصادي ظهر خلال الثمانينات. وقد اتى هذا التحدي من جنوب شرق آسيا "او من النمور الآسيوية"، كما كانت تسمى، والتي تشمل اليابان وكوريا والصين، وتايلاند وماليزيا وسنغافورة، وغيرها، وكانت هذه الدول تشهد نمواً اقتصادياً كبيراً في حدود 8 في المئة او اكثر بينما الولايات المتحدة كانت تنمو نمواً بطيئاً وتواجه الكساد في بعض الأحيان. وجذبت عملات هذه الدول وأسواقها المالية الاستثمارات العالمية بعيداً من نيويورك والدولار الأميركي. ومع اواخر الثمانينات كان الجميع يتكلم عن نجاح النظام والتجربة الاقتصادية الآسيوية وفشل التجربة الأميركية. إلا ان الولايات المتحدة سرعان ما عادت خلال التسعينات الميلادية الى المقدمة، حيث شهدت نمواً اقتصادياً عالياً، وعادت اميركا الى جذب الاستثمارات العالمية، وشهد سوق الأسهم الأميركية نمواً عالياً لم تشهده اي سوق عالمية أخرى. وفي المقابل، كانت أوروبا تنمو ببطء، واليابان في حال اغماء اقتصادي. اضافة الى ذلك، فقد سقط الاتحاد السوفياتي العدو العسكري والسياسي الرئيسي لأميركا، كما ان اميركا انتصرت في حرب الخليج الثانية تحرير الكويت من دون كلفة مالية حيث تحملتها دول الخليج وبعض الدول الحليفة الأخرى مثل اليابان وألمانيا، اضافة الى ذلك خرجت اميركا من الحرب عالية الهيبة والمقدرة، ثم قادت واشنطن "تعاوناً" دولياً لاعادة الاستقرار الى منطقة البلقان، التي كانت تمر في مرحلة انفجار قد يؤثر سلباً في أوروبا وربما أبعد.
ويبدو ان النجاح الأميركي الباهر خلال التسعينات يعود الى اسباب من أهمها، بروز تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والتي تسيطر عليها الولايات المتحدة، كأساس رئيس وهام للنمو الاقتصادي، عالمياً ومحلياً. وثانياً، وجود ادارة اميركية ذكية ادارة كلينتون ركّزت على الوضع الاقتصادي المحلي مع تخفيض موازنة الدفاع، وقضت على العجز في الموازنة الفيديرالية، بل حققت فائضاً في سنوات عدة من العقد. وتعاملت مع القضايا العالمية بحنكة بالغة، وبتعاون وتفاهم مع الآخرين، وبعقلانية. وهذا واضح من طريقة تعاملها مع الحرب في يوغوسلافيا، والعلاقة مع كوريا الشمالية، وسعيها الجاد لإنهاء الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، وغير ذلك.
وعندما تولى الرئيس جورج دبليو بوش رئاسة الولايات المتحدة، كان الرخاء الاقتصادي الأميركي الأطول في تاريخها الحديث شارف على نهايته، وبدأت بوادر ركود اقتصادي، لذلك سعى بوش الى الاهتمام بالشأن الاقتصادي المحلي مع اعطاء اهمية صغيرة للشأن السياسي الدولي، وفقط عندما تستدعي الحاجة.
الا ان أحداث 11 أيلول سبتمبر، غيّرت اتجاه سياسة بوش في شكل كبير، كما هزت الولايات المتحدة بقوة، من هنا اتجهت واشنطن الى الانتقام وفرض سيطرتها على العالم، وبالذات العالم الاسلامي الذي كان قاعدة احداث 11 أيلول. ومما ساعد على التركيز على العالمين العربي والاسلامي من اجل الانتقام وربما فرض نظام جديد هناك، وجود جماعة صغيرة، لكنها نافذة، في ادارة بوش، وبالذات في وزارة الدفاع، اكثر الادارات تأثيراً في السياسة الاميركية الخارجية، ألا وهي جماعة المحافظين الجدد، المعروفين بارتباطهم الوثيق باليمين الاسرائيلي الى درجة الولاء، واعتقادهم بمبدأ القوة بأنواعها المختلفة، للوصول الى اهدافها وفي مقدمها مصالح اسرائيل.
كان العمل الأول الذي قامت به الولايات المتحدة بعد أحداث أيلول، هو الهجوم على افغانستان للقضاء على تنظيم "القاعدة" وحكومة طالبان التي تحتضنها، وقد حظيت أميركا بدعم دولي وتعاطف غير محدود. الا ان واشنطن سعت الى اكثر من ذلك، أي الى الاستيلاء على دولة عربية ذات علم وعاصمة وقيادة، وإخضاعها لنظام اميركي جديد في منطقة الشرق الأوسط. ومن هنا دخلت الولايات المتحدة حرباً جديدة وغريبة، فهي حرب لا تتفق مع النظام والقانون الدوليين، وأهدافها غير ثابتة، ولا احد يعرف بالضبط لماذا حدثت، بما في ذلك الحزب الجمهوري الحاكم والكونغرس الأميركي، ومن الأسباب التي يشار اليها المصالح البترولية، الانتقام، الهيمنة السياسية وإنشاء نظام جديد في المنطقة يخدم اسرائيل، وتدمير اسلحة الدمار الشامل، وغير ذلك من التفسيرات.
للمرة الأولى تدخل اميركا حرباً من دون ان تهاجم ومن دون ان تكون مهددة مباشرة، ومن دون اي غطاء من النظام الدولي، ومن دون موافقة حلفائها الرئيسيين في المنطقة او عالمياً. اضافة الى ذلك فإن هذه الحرب ستكلف الولايات المتحدة وحدها مبالغ طائلة جداً، تصل تقديراتها الحالية الى حوالى مئة بليون دولار، وقد ترتفع الى ضعف او اضعاف ذلك المبلغ. اضافة الى ذلك فإن هناك تكاليف غير مباشرة قد تصل الى مئات البلايين من الدولارات، وتشمل على سبيل المثال تباطؤ النمو الاقتصادي، ضعف الثقة العالمية في الاقتصاد الأميركي والرغبة في الاستثمار فيه، وخفض الصادرات الأميركية وغيرها.
لهذه الأسباب، بدأ الكثير من المؤرخين وعلماء السياسة، في إثارة موضوع الامبراطورية الاميركية من ناحية بسط سيطرتها على العالم ومن ناحية ضعفها الطبيعي او مواجهتها من قوى أخرى. فدارسو الامبراطوريات العالمية المختلفة اليونانية، الرومانية، العربية، العثمانية، الصينية، والبريطانية وغيرها يعتقدون ان هذه الامبراطوريات، تصل في فترة الى أوج قوتها ثم تبدأ في الضعف التدريجي، وحال الضعف تبدأ عندما تقوم الامبراطورية بحملات عسكرية خارجية في أراض بعيدة ولأسباب غير واضحة وبتكاليف مالية كبيرة، وفي شكل يؤثر سلباً في الاقتصاد. اي ان الامبراطورية تبدأ في التمدد في شكل أكبر مما تستطيع تحمله قوتها المالية والاقتصادية ومن دون وجود اي عدو حقيقي يهددها مباشرة، ما يؤدي الى بداية مرحلة ضعف تدريجي قد تستمر لعشرات السنين. وهناك شبه اجماع على ان الوضع الاقتصادي لأميركا سيتأثر سلباً وفي شكل كبير بالحرب على العراق، لدرجة وجود احتمال كبير بعدم اعادة انتخاب الرئيس بوش بسبب تردي الوضع الاقتصادي في الناتج في الدرجة الأولى من هذه الحرب. الا ان تأثيراتها السلبية على اقتصاد أميركا ووضعها المالي سيكون أبعد من الانتخابات الأميركية المقبلة. فالحكومة الاميركية، يرتفع انفاقها على الشؤون العسكرية والأمنية في شكل كبير، حتى بدأت الموازنة في التحول من حال وجود فائض كبير الى حال وجود عجز اكبر، وهو عجز من المتوقع ان يرتفع في السنوات المقبلة. إلا ان الاهم من ذلك عجز ميزان المدفوعات مع العالم الخارجي الذي وصل الى 500 بليون دولار، ويدفع الأميركيون الفارق في ميزان المدفوعات من خلال الاقتراض من الخارج. وقد تراكم هذا العجز مع العالم الخارجي ليصل الآن الى ترليوني دولار اميركي او ما يساوي 20 في المئة من اجمالي الناتج المحلي الاميركي.
وفي الجانب السياسي بدأ يتشكل محور عالمي جديد، يسعى الى عدم الموافقة على الرغبات الاميركية من دون تحفظ، وهذا المحور يتكون من فرنسا وألمانيا وروسيا وهو محور يجب عدم الاستهانة به، وبالذات لو انضمت اليه الصين او الهند، واستطاع تكوين شخصية خاصة به ولو في شكل غير رسمي، وهناك احتمال ان يتعاون معه بعض الدول الاوروبية - وهو امر متوقع - وبعض الدول العربية والاسلامية.
ولا بد من الملاحظة، ان اساس اي امبراطورية، من ناحية نموها وقوتها وانهيارها كذلك، مبني على قاعدتين رئيسيتين، الاولى القاعدة المالية، من حيث جذب الاستثمارات العالمية في المجالات كافة ووجود عملة دولية يستخدمها الناس في كل مكان. فالدولار الاميركي هو العملة العالمية في انحاء المعمورة يجذب الحكومات والشركات، وحتى الفقراء في انحاء العالم. وأميركا هي الدولة الوحيدة التي لا تحتاج الى تغطية اصدار عملتها بالعملات الاخرى او بالذهب. فهي تطبعها والعالم يتلقفها لا يكلف طبع مئة دولار إلا اقل من 05،0 في المئة من قيمتها ومن هنا، فإن الدولارات الموجودة خارج اميركا تصل الى حوالى 500 بليون دولار او ما يوازي موازنة الدفاع الاميركية تمثل اعانة مباشرة ومن دون اي فوائد للاقتصاد الاميركي. وقد قال احد الاقتصاديين: "ان التجارة العالمية لعبة، حيث تنتج الولايات المتحدة الدولارات، بينما بقية العالم ينتج اشياء يستطيع الدولار شراءها".
إضافة الى ذلك فإن حوالى 68 في المئة من عملات الدول يتم تغطيتها بالدولار الاميركي، وهذا الدولار الذي يتم شراؤه لتغطية العملة المحلية، تقوم هذه الدول باستثماره في السوق الاميركية بما في ذلك شراء سندات الحكومة الاميركية والذي يمثل دعماً كبيراً للاقتصاد الاميركي يصل الى مئات البلايين من الدولارات. السؤال اذاً، هل ان تصرف الولايات المتحدة حالياً وحربها على العراق وعدم تعاونها مع حلفائها، سيؤثر في وضعها المالي؟ في الغالب، نعم، وبالذات اذا بدأ الاقتصاد الاميركي في مواجهة مصاعب مستمرة، وهنا لا بد من الاشارة الى ان القوة المالية والقوة الاقتصادية هما اساس القوة العسكرية والسياسية، فمن دون الاولى، ليس هناك مكان للثانية.
اما القاعدة الثانية لقوة اي امبراطورية، فتتمثل في كون البلد قاعدة للتكنولوجيا والعلم والافكار الجديدة والاختراعات المختلفة. فالولايات المتحدة هي المركز العالمي، وربما شبه الوحيد، لبروز الافكار الخلاقة بسلبياتها وإيجابياتها، وهي مركز ظهور المخترعات الجديدة في المجالات كافة. فخلال المئة عام الماضية، كان مصدر غالبية الافكار الجديدة والاختراعات العلمية التي حصلت في العالم هو اميركا. وهذا بدوره أسهم في شكل كبير في قوتها المالية والصناعية والعسكرية، وكذلك السياسية. كما ان كون اميركا المركز العلمي للعالم، جذب اليها العقول والافكار من كل مكان، كما أسهم في جعل الثقافة والبضاعة الاميركية تنتشر في العالم.
ولا شك في ان الانفتاح الفكري والعلمي في اميركا بدأ يتأثر سلباً بعد احداث 11 ايلول، اذ بدأت اميركا تغلق ابوابها امام الآخرين الذين يغذون العلم والتكنولوجيا والفكر فيها بمداد لا ينضب. كما ان حرب اميركا على العراق، والتي اشعلتها بتحد واضح لغالبية دول العالم وللرأي العام العالمي، ستضعف جاذبيتها العلمية والفكرية في المدى الطويل، وبالذات في حال استمرار عقلية القوة والعنف الهزء والتخويف في اميركا، التي يكرهها العلماء والمفكرون الذين هم اساس التطور والقوة. فهل تبدأ في البروز مراكز علمية وفكرية كبيرة خارج اميركا، وبالذات في آسيا وأوروبا الغربية؟ الاحتمال قوي ووارد. لا شك في ان القوة المالية والعلمية هي اساس قوى الأمم، إلا ان الحروب هي اساس بروزها كامبراطوريات لها شأنها، كما انها اي الحروب تؤدي الى ضعفها، ولا شك في ان الحرب الاميركية على العراق تمثل انعطافاً في النظام الدولي، له تأثيراته المهمة والمديدة، ولعل من اهم هذه التأثيرات وضع الولايات المتحدة الاميركية كامبراطورية عالمية لها نفوذ وقوة غير محدودة، لا تجاريها اي قوة اخرى، ووضع هذا الامر مستقبلاً. فلو استمرت اميركا في حروبها على الآخرين، وصراعاتها مع كل من لا يوافقها في السياسة او لا يعجبها وبتكاليف عالية، فإن الامبراطورية ستضعف تدريجاً وقد تصبح من قوى الدرجة الثانية، بعد عقود ربما ليست كثيرة من الآن.
* كاتب سعودي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.