ينظر إلبر أورطايلي مؤلف كتاب"الخلافة العثمانية: التحديث والحداثة في القرن التاسع عشر"ترجمة عبد القادر عبدلي، دار قدمس، 2008 إلى تاريخ العثمانيين في القرن التاسع عشر بصفته تاريخاً خاصاً من زاوية رؤية القوميات العثمانية كلها، معتبراً أن تلك القوميات دخلت في عملية تغيير تاريخها، وبناء مستقبلها، وكانت تعيش مرحلة مأسوية واضحة إزاء مآزقها. وكان تحديث الإمبراطورية أو تحديث مجتمعاتها جهداً من أجل تشكيل أساليب غير متوازنة، ولكنها باتجاه واحد، فيما كان العنصر التركي هو العنصر الأساس الذي يعمل على تحقيق انسجام حداثي مع أجزائه في مرحلة التكون القومي، وصل إلى تكوين ذاته قومياً أيضاً. وينصب جهد المؤلف في سياق محاولة لفهم موقف إمبراطورية متوسطية إزاء الشروط العالمية الحديثة، واتجاهاتها في ذلك الوقت. پپويرى المؤلف أنه لا يمكن تحديد الحداثة العثمانية بمرحلة التنظيمات، باعتبارها حدثاً يمتد إلى مرحلة أقدم. كما أن الحداثة العثمانية ليست صدمة ناجمة عن لقاء آني بالأوروبيين، لأن الجغرافية العثمانية، طوال تاريخها، متداخلة مع الجغرافية الأوروبية على الصعيدين السياسي والاقتصادي. إضافة إلى ذلك، عندما يتم الحديث عن تغيير في الإمبراطورية ذات التنوع الديني واللغوي، فإنه لا يمكن أن يكون حدثاً تاريخياً - اجتماعياً متزامناً يشمل النظام كله. من جهة أخرى، فإن الحداثة العثمانية ليست تطوراً يشمل تركيا العثمانية فقط، بل أيضاً تطوير المجتمعات العثمانية الإسلامية الأخرى. وأفضت قضية التحديث إلى مناقشة الدين السائد في العالم العثماني والمؤسسات والقواعد المرتبطة به، واهتزازها، وتعرضها للتغيير. وكان هذا أحد وجوه ذلك التغيير، ولكنه شمل الأديان الأخرى بقدر ما شمل المسلمين والمسيحيين: طراز الحياة والتفكير خارج الدين، وسيطرة لغات أوروبا وعلمها، واهتزاز البنى التقليدية لحياة الأسرة بقدر اهتزاز بنى الحياة العامة، وكان حدث في روسيا القيصرية قبل تركيا العثمانية. وبدأت التغييرات ذاتها تشاهد لدى مسلمي الهند بعد فترة، أي ان كل مجتمع كان يخضع لتغيير مستمر ضمن مسار زمني. وبما أن ذلك المجتمع صادف مرحلة تسارع للتاريخ في أثناء ولادة تنظيمه السياسي المتمثل بالإمبراطورية العثمانية، وتطوره، فإن ما يلفت النظر هو التغيير الكبير في لغة المجتمع العثماني، وثقافته، وعقيدته الدينية وتنظيماتها، وبنيته المالية والعسكرية- الإدارية من مرحلة إلى أخرى، حتى في القرون الأربعة الأولى التي نعدها المرحلة الكلاسيكية للإمبراطورية. ويعتبر العامل المؤثر الوحيد في هذا التغيير، ليس الانتقال من إمارة إقطاعية/ البيلك العثمانية الصغيرة إلى الإمبراطورية الكبيرة المتعددة القوميات، فقد أدت ضرورة الانسجام مع ظروف عالم العصر الحديث المتعرض لتغيير بنيوي سريع دوراً مهماً في هذا التغيير. وعليه لم يكن الشاعر وكاتب الديوان العثماني في القرن الرابع عشر يتكلم اللغة التي يتكلم بها زميله في القرنين السادس عشر والسابع عشر. والنظام العسكري وتقنيات الحرب في القرن الرابع عشر مختلفة عن تلك التي في القرن السادس عشر. ويمكن قول الأمر نفسه عن أنظمة الأرض الزراعية والبنية المالية، لكن الأهم هو ملاحظة هذا الاختلاف في تفكير الأفراد المنتمين الى مختلف طبقات المجتمع العثماني، ورؤيتهم للحياة، وشكل حياتهم. ويعتبر المؤلف أن الحداثة العثمانية تشمل التغيير الطارئ على المؤسسات والأفراد في ذلك المجتمع، وفي النهاية على بنية الدولة المشكلة لمحور التنظيم الاجتماعي والسياسي. وهذا هو السبب الذي يجعل حداثة التنظيمات موضوع نقاش كبير حتى الآن. وبدأ الإنسان العثماني، منذ القرن الثامن عشر، رؤية المكان والزمان الذي يوجد فيه بوعي مختلف، وتعرف الى تاريخ العالم وجغرافيته منذ القرن الثامن عشر. وظهر بين طائفة المتعلمين العثمانيين في القرن الثامن عشر مثقفون شكلوا نوعاً من الفئة. كان ثمة مثقفون عثمانيون- أتراك تعلموا اللاتينية. وقد وضع عثمانيو القرن التاسع عشر، بصورة واعية، اسماً لأسلوب الحياة المتغير هذا، أي للمرحلة التاريخية: مرحلة الإصلاحات، التنظيمات، الأساليب الجديدة. وأثرت التغييرات في المؤسسات في نسيج المجتمع، وغدت مرحلة التغييرات الواعية والشاملة موضوع تقويم مختل في عقول كثير من المثقفين والمفكرين. ولم تكن ردود الفعل المعبر عنها باصطلاحات مثل التحول الاستعماري، والانحطاط الثقافي، والتغريب السيئ خاصة بالتاريخ الاجتماعي العثماني فقط، إذ من الممكن مصادفة ردود فعل مشابهة في المجتمعات التي عاشت مرحلة مشابهة. ويرى المؤلف أن مصطلح الحضارة الإسلامية هو شعار محبب، تبناه العرب في القرن التاسع عشر، وأحبه المثقفون العرب المسيحيون قبل المسلمين بقليل، ومرد ذلك هو ارتباطهم بالعروبة أكثر من إعجابهم بالإسلام. وانطوى على مضمون علماني إلى حد كبير، ولم يكن ثمة اصطلاح كهذا لدى مسلمي العصور الوسطى. أما التغريب، الذي لم يسمَ باسمه، فلم يكن ناجماً عن ضغط خارجي، بقدر ما كان قراراً داخلياً، إذ أن الأدلة، التي يطرقها المؤرخون المعاصرون كثيراً حول وجود عنصر ضغط خارجي، هي على الأكثر مذكرات دبلوماسيين مصابين بداء العظمة، ويدعون أنهم هم أو دولهم وجهوا سياسة الإمبراطورية العثمانية. وكانت الإمبراطورية العثمانية في القرن الثامن عشر نظاماً تشكل من دينامية ولايات البلقان تحت تأثير أوساط أوروبا الوسطى الثقافية، وولايات بلاد ما بين النهرين التي تختزن نمط حياة تمتد قروناً. وهناك صعوبة في وضع تأريخ دقيق للحداثة العثمانية، أو رسم جغرافية محددة لها، إذ لا يمكن القول إن العالم، وحتى أوروبة، عاشا المخاضات العنيفة التي شهدها العالم في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بصورة متزامنة، وبالحجم نفسه. ويتساءل المؤلف عما إذا كانت الحداثة العثمانية بدأت بتأسيس المطبعة في عهد إبراهيم باشا النفشهيرلي عندما كان صدراً أعظم، أم بمبادرات التغريب في الثقافة العثمانية وأسلوب الحياة فيها، أم بإصلاحات السلطان محمود الثاني، أم بدراسة الأوامر السلطانية في غولهانة؟ وثمة من أحال بداية كهذه إلى رغبة الإصلاح الفاشلة لعثمان الثاني. كما يمكن القول إن الحداثة في الإمبراطورية العثمانية تمتد إلى إدارة ديمتري كانتمير في إفلاك، أو إلى الإصلاح التعليمي الذي حققه رهبان صربيا منذ بدايات القرن الثامن عشر. ولهذا السبب يرى المؤلف أن ثمة فائدة من تناول مؤسسات الحداثة العثمانية، وشرائح مختلفة من تاريخ المجتمع واحدة واحدة، ودراستها لفهم تلك الحداثة. ولا بد من حفر جدول زمني عميق عند تناول لحظات ولادة الحداثة، أو انفجارها، والأسباب المؤدية لها، إذ أعدّ التاريخ شروط الحداثة العثمانية وضروراتها منذ هزيمة فيينا الثانية حتى إعلان فرمان التنظيمات. وبعد هذا التاريخ، حمل إداريو المجتمع العثماني عبء التحديث إلى حد ما، وفرضوه على المجتمع. وعليه تسارعت التطورات، ووصلت خلال فترة قصيرة إلى أبعاد لم يتوقعها أحد منهم، وكان الإصلاحي العثماني في القرن التاسع عشر أكثر وعياً ويمتلك برنامجاً أكثر من إصلاحي القرن الثامن عشر، وأكثر قلقاً على الأقل. أخيراً، يوفر الكتاب مادة تاريخية غنية عن الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر، موثقة في شكل علمي، استناداً إلى عدد كبير من الوثائق والمصادر العثمانية والأجنبية، وينهض على دراسة موسعة لجوانب الحداثة العثمانية مقارنة بتاريخ حداثة الدول الأخرى، ويقدم إسهاماً متميزاً، يهدف إلى كشف جوانب من التاريخ العثماني، بما هو تاريخ أمم تمتد على جغرافيا واسعة مشكلة جزءاً مهماً من العالم، وليس وعياً أغلق عليه. إنه تاريخ لا يزال يعيش حتى أيامنا هذه بتطوراته المأسوية. * كاتب سوري نشر في العدد: 16654 ت.م: 08-11-2008 ص: 29 ط: الرياض