الكتاب: دمشق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. المؤلفة: ليندا شيلشر. المترجم: عمرو الملاح ودينا الملاح. الناشر: دار الجمهورية - دمشق. هذاالكتاب من المراجع المهمة، وربما من اهمها، في تاريخ سورية الحديث، ولا يزال يحتل مكانة فريدة بين الكتب التي تبحث في التاريخ المعاصر لبلاد الشام. فهو يرصد ويحلل تاريخ دمشق وتأثيرها في المنطقة باسلوب يجمع بين البحث العلمي الرصين ومتعة الرواية، ويتناول عدداً واسعاً من الموضوعات والحوادث التي ما زالت تمارس تأثيرها في الحياة العامة في المنطقة. ويرسم الكتاب صورة حية للمدينة بجغرافيتها الطبيعية والبشرية بالرواية والخرائط، وهو وصف ضروري لفهم ديناميات المجتمع السوري قبيل فترة التحديث السريع. ويلبي الحاجة لفهم تلك الفترة من تاريخ سورية في العهد العثماني التي اتسمت بالاهمال على رغم اهميتها البالغة. فدمشق واحدة من اقدم المستوطنات المدينية المأهولة في العالم. وتاريخياً، كان تركيبها الخاص من عناصر الجغرافيا والبيئة والانسان موفقاً. ومع بداية العصر الحديث اجتذبت المدينة التجارة وعززتها عبر مسالك الصحراء وكانت موزعاً لها مع نقاط على الساحل الشرقي للبحر الابيض المتوسط وآسيا الصغرى وأوروبا وشمال افريقيا. وجعلت طرق الاتصال الخارجية هذه دمشق من اهم المحاور في شبكة التجارة العالمية. وزاد في الامر ان تعززت أهميتها الاقتصادية بروابطها السياسية والثقافية البعيدة المدى في العالم الاسلامي. فمنذ القرن السابع اضحت دمشق عاصمة للامبراطورية الاموية وغدت مركزاً لاهل العلم الذين كانوا يقصدونها من مختلف بقاع العالم الاسلامي في آسيا وافريقيا واوروبا ليأخذوا العلم من جوامعها ومدارسها، كما انها كانت احدى اهم نقاط التجمع السنوي للحج الى مكة، وافادت من التجارة التي ولدها الحج والمهام العسكرية والادارية واللوجستية المتعلقة به، والتي كان يقوم بها افراد وجماعات من المدينة نفسها. وباعتبارها آخر مستوطنة مدينية على طريق الحج الى مكة، كانت لها اهمية بالغة في الجغرافيا السياسية للامبراطورية العثمانية ملزمة بضمان سلامة الحج ونجاحه. ولما كانت دمشق الملتقى السنوي للحجاج من مختلف بقاع العالم الاسلامي، فقد اخذت تضطلع بدور في استراتيجية وادارة واقتصاد الحج العثماني بشكل خاص والامبراطورية العثمانية بشكل عام. وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر كانت الامبراطورية العثمانية قد بلغت ذروة توسعها. وقامت سلطتها في الولايات على مؤسسات ادارية محلية وقضائية وعسكرية شبه اقطاعية. وكثيراً ما برزت النزعة المحلية والنزعات المناهضة للعثمانيين، كما عجزت الحكومة المركزية عن اقناع سكان احدى الولايات بشرعية سلطتها او اخفقت في اقناع العصب المتنافسة بقدرتها على فرض سلطتها هذه فمثلاً ادت السيطرة السياسية لفئة محلية حاكمة هي اسرة العظم الى خلق عصبة قوية عمرت طويلاً، وارتبطت بالحكومة العثمانية، وكانت قاعدتها الاقتصادية في التجارة الخارجية، فكانت لها السيطرة على مواقع السلطة في الادارة المحلية والمجتمع. وقد وقفت في مواجهتها عصبة اخرى اعتمدت اساساً على الانتاج والتجارة الداخلية متخذة جزءاً آخر من المدينة مركزاً لقوتها. وفي اواسط القرن التاسع عشر، اهتزت سلطة العصبة المهيمنة اثر عمليتين هما: محاولة الحكومة المركزية العثمانية فرض سيطرتها المباشرة على المدينة والولاية، وتغلغل البضائع الاوروبية التي اعاقت الانماط التقليدية للانتاج والتجارة. وادى تضافر هاتين العمليتين الى فقدان النظام والسلام الاجتماعي موقتاً، وانبثقت عنه المدينة اخيراً بتحالف جديد اكثر متانة بين اصحاب المصالح المسيطرة انصهرت فيه كلتا العصبتين. لكن الثمن كان تراجع دورها وخضوعها للحكم السلطاني. وفي هذا المجال يقدم الكتاب تحليلاً مفصلاً وشاملاً للتغيير الاجتماعي الذي استغرق ما يزيد عن مئتي عام، وينسج من التحولات الطارئة على البنى الاجتماعية للمدينة والمؤسسات الدينية وتصوير علاقتها بالحكومة المركزية العثمانية، ويعرض لوطأة التغلغل الاقتصادي الاوروبي وامبريالية السوق الحرة، وحركات العامة، والحكم المصري، والتنظيمات والكوارث الطبيعية والاوبئة، وحوادث 1860 ونتائجها، والانتفاضات الفلاحية، وضغوط السوق العالمية قبيل الحروب النابوليونية، والتحول الى مجتمع النخبة عن طريق تدعيم اسر الاعيان، والعلاقات بين الريف والمدينة، وصعود النزعة القومية واحباطات الاعيان. واعتمدت المؤلفة في عملها على بحوث مستفيضة في سجلات المحاكم الشرعية والاجازات وكتب التراجم العربية ومشجرات الاسر، فضلاً عن الوثائق العثمانية المنشورة وتقارير الرحالة والقناصل والتواريخ العربية. ويحتوي الكتاب على تراجم مفصلة للشخصيات ذات الشأن في تلك الحقبة، بالاضافة الى تواريخ خمس وعشرين اسرة ومشجراتها لبيان حجم وطبيعة نمو هذه الأسر على مدى الزمن، لتشمل التراجم والأنساب لعدة آلاف من الاشخاص. ونظراً الى اهمية الكتاب، فقد آثر المترجمان ان يصححا الاسماء الواردة في النص الاصلي بصورة غير دقيقة، كذلك تم تصحيح المشجرات واستكمال ما فيها من نواقص، اضافة الى الاستعانة بمراجع اخرى للتأكد من تواريخ الحوادث التي اوردتها المؤلفة بحيث اضحت الترجمة العربية للكتاب تشكل مرجعاً يفيد قراء العربية اكثر من النسخة الاصلية.