يجد الناظر في الفكر الذي كان سائداً في السلطنة العثمانية منذ مطلع القرن التاسع عشر، انه كان يتمحور حول ضرورة تحديث الداخل لمواجهة اخطار الخارج، وخصوصاً بعد انكسار الجيوش العثمانية في البلقان، لذلك بدأت الاصلاحات في المجال العسكري اولاً، ثم امتدت الى المجال الاداري والتنظيمي والزراعي. ولم تكن السلطة العثمانية غافلة تماماً عما يصيبها، إنما بذلت مساعي جدية لمواكبة التطورات، وأخذت أمواج التغيرات الداخلية والخارجية تتسابق وتتلاحق، ثم تتلاقى وتتعارض. وكانت لحظات تمفصل الداخل مع الخارج أقوى من ان تتوقف، وخصوصاً انها جرت في سياق لعبة مستمرة ومعقدة بين الساسة والقناصل والسفراء الأوروبيين من جهة، وشخصيات وزعماء ومثقفين في السلطنة العثمانية والولاياتالمتحدة العربية من جهة اخرى. وكان الخروج من السلطنة أشبه بعملية انصياع امام قوى الرأسمال الاوروبي، وإذعان امام ضغط قواه الصاعدة المتعددة على مركز السلطنة الذي انهار في النهاية، وأدى الى انهيارات متتالية لأطراف الامبراطورية العثمانية. وكان ذلك يعني إقراراً بتفوق الهجوم الاوروبي في مختلف مناحي الحياة، اذ شمل الانهيار العثماني ليس فقط الجانب العسكري والمالي والتنظيمي، بل النمط العثماني برمته، وعليه تبدت هزيمتها العسكرية في الحرب العالمية الثانية في هزيمة سياسية، وفي تبديل وجهتها الحضارية من الشرق الى الغرب، فما دام تاريخ العالم قد عرف انتقالاً من الشرق الى الغرب، على النحو الذي تصوره هيغل، باعتبار ان اوروبا تمثّل - بالنسبة اليه - نهاية التاريخ على نحو مطلق، فقد تصورت كذلك حركة"تركيا الفتاة"ان في الإمكان اختراع هوية اوروبية غربية لتركيا، كي تركن بدورها الى نهاية التاريخ، لذلك يقول برنارد لويس في كتابه the emergence of modrm turkey:"وهكذا، فإن الاصلاح على المبادئ الاوروبية الحديثة، كان من العوامل الفاعلة التي ساعدت على هلاك السلطنة وانحلالها". في القرن الاخير من عمر السلطنة العثمانية، أقبل السلاطين من خلال التنظيمات على اتخاذ تدابير للإصلاح والتجدد، ووفرت تلك التدابير الفرصة للتخلص من السلطنة، والسير في اتجاه الأوربة، واستجر ذلك التهافت السريع على اعتماد التقاليد الاوروبية، بحيث شمل القيم والسلوكيات والفنون، ونتج عنه وقوع السلطنة في ديون ثقيلة للدول الاوروبية، الى درجة ان احد سلاطينها اعلن الافلاس العام للسلطنة. واستجر إفلاس السلطنة تغيرات في المآل، وتبديل في الوجهة الحضارية لتركيا وللبلاد العربية، وتجسد ذلك في سؤال الهوية، أي في الجرح النرجسي الذي ما يزال يغطي مساحات واسعة من كتاباتنا العربية. لكن المؤسف ان البلاد العربية ما زالت تعاني اثر ذلك الافلاس، فيما استطاعت تركيا الخلاص منه، وهي تعمل الى اليوم على محو آثاره. بينما لا يزال الافلاس والانهيار يضرب مختلف مناحي الحياة في البلدان العربية، اذ لم تستطع هذه البلدان من تبديل وجهتها عبر الانفتاح والتعامل مع التقدم الاوروبي على النحو الذي فعلته اليابان ودول اخرى، بحيث تمكنت اليابان مثلاً من الحفاظ على كينونتها، وفي ذات الوقت اخذت بالمنجز الاوروبي، بل وتقدمت به. ويمكن القول ان السلطنة العثمانية كانت تتمتع بقدر من الاستقلال السياسي حتى بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لكن ذلك الاستقلال النسبي كان يخفي الكثير من علامات الضعف، وبالأخص في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، بحيث ان توزع السلطنة الى مناطق انتاجية عشوائية ومبعثرة، وطغيان الطابع البسيط على علاقات التبادل والانتاج في محيط يغلب عليه النشاط الزراعي، فضلاً عن أنشطة حرفية متوارثة، أديا الى تكريس حالة من التخلف الاقتصادي، التي امتدت لتشمل كل مرافق البنية التحتية الاساسية ومختلف قطاعات الانتاج. فعلى الصعيد الاجتماعي، كان الانقسام واضحاً ما بين القسم الأعظم من الفلاحين والمزارعين الفقراء، والمنهكين بسبب الديون ومختلف اصناف الاستغلال، وبين قلة قليلة من كبار الملاكين العقاريين والوسطاء والمضاربين وجباة الضرائب والمرابين. ثم تفاقمت داخل السلطنة العثمانية ضروباً من التفكك الداخلي، نتيجة الانقسامات وبداية النزعات القومية الاستقلالية، في مناطق البلقان وفي الولايات العربية المشرقية، الامر الذي انتج مجالاً خصباً للتدخلات الاجنبية. وكانت ابرز محطات التدخل اللاحقة، هي تدخل روسيا في البلقان بين عامي 1853 و1877، وتدخل فرنسا في سورية عام 1866، وهي محطات اسهمت في عملية تفكيك السلطنة، وتوجت عام 1878 بمعاهدة برلين، التي شكلت الاساس لفتح ابواب السلطنة امام المصالح الاجنبية وحركة رؤوس الاموال والتوظيفات الدائرة في فلكها. لقد كان الشغل الشاغل، في الربع الاخير من القرن التاسع عشر، هو تسوية ديون السلطنة، وارتبطت بها عمليات اصدار القروض في أسواق لندن وباريس، بحيث أدت ضخامة الطلب العثماني على الاقتراض، والشروط المناسبة التي رافقت اصدارها، الى ايجاد التربة الخصبة للمصالح الفرنسية والانكليزية داخل السلطنة، فتدفقت رؤوس الاموال الاجنبية عليها، عبر قيام العديد من البنوك الاوروبية في سبعينات القرن التاسع عشر، كانت العناوين الرئيسة لعلاقة السلطنة بالدول الاوروبية تتمحور حول فتح ابواب السلطنة العثمانية امام تدفقات رؤوس الاموال الاوروبية، وخصوصاً البنوك، وغزو البضائع والمنتجات الاوروبية مختلف انحاء السلطنة، وتحكم الدول الاوروبية بصادرات السلطنة من المواد الاولية وفقاً للشروط الاوروبية المفروضة، وتركيز الدول الاوروبية على المرافق والخدمات التي توسع عمليات التبادل التجاري مع الخارج، مثل توسيع شبكة الطرق والموانئ، وسكك الحديد. وقضت الإصلاحات العثمانية على منطق الدولة الاسلامية بنموذجها العثماني، كونها نجمت عن سلسلة الهزائم امام الهجوم الاوروبي المتعدد الجهات، وكانت مفروضة من السلطة على المجتمع املاً منها في انقاذ السلطنة من الانهيار المحتوم. لكن اذا نظرنا الى السلطنة العثمانية في قرنها الاخير، نجد مفارقة بين ما اقبل عليه السلاطين فيه من تنظيمات وتدابير اصلاح، ارادوا منها الاصلاح والتجدد، وبين جماعات وبلدان وجدت في تلك التدابير فرصة للخلاص من السلطنة. وقاد ضعف السلطنة الى التوسع في سياسة الابتعاث للشبان العثمانيين الى اوروبا، والتي كانت قد انتعشت في مجال العلوم التجريبية والتنظيمية وتطورت فيه تطوراً أخاذاً وملحوظاً، وتم ذلك بالفعل، وبدأت السلطنة سياسة الابتعاث. ولكن هؤلاء الشبان عادوا غير عثمانيين. وإنما عادوا اوروبيين بزي عثماني، بل وصاروا إفرنجة اكثر من الإفرنج ذاتهم. ومن خلال هؤلاء المبتعثين بدأت السلطنة العثمانية طريقاً جديداً هو طريق الاصلاحات. وهدفت الاصلاحات العثمانية او"التنظيمات"1839-1860 الى تحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتدهور للسلطنة، الذي نسف الاندماج العنيف في السوق العالمية اسسه، بعد استسلام الباب العالي لرأس المال العالمي. في المقابل، فقد خرجنا من السلطنة الى"النهضة"، في خروج من غير تهيئة، منهكين وضائعين، ولم تمنعنا المشاريع التمايزية، الاستقلالية والقومية، من الوقوع في عهد الوصاية والتبعية، ثم نشأت الاقطار العربية، وبدأ عهد الاستقلالات العربية، وبدأت مرحلة تمايزية تحيل الى عروبية، تستبطن او تستظهر معالم هيمنات جديدة، ووجدت ضالتها في الدولة الشمولية التي قضت على ما تبقى من الدولة والوطن والمواطن، وعدنا الى طرح الاسئلة ذاتها، اسئلة الاصلاح والنهضة والحداثة، لكن هل يمكن لنا ان نكون مستقلين في التبعية؟ وهل يمكن ان نكون حداثيين في التشبه؟ وهل...؟ كاتب سوري.