على رغم الاحتمالات الكثيرة لطرق التعامل مع الأزمة المالية العالمية الحالية، إلا ان الدلائل الأولية لآثار الإجراءات الاستثنائية التي اتخذتها الولاياتالمتحدة الأميركية والبلدان الأوروبية، تشير إلى أنها ستنعكس بآثارها على بلدان العالم كافة ومنها العالم العربي خصوصاً مع ازدياد المخاوف في شأن مستوى الملاءة المالية للمؤسسات وسيادة أجواء عدم الثقة واحتمالات تراجع معدلات النمو في هذه الاقتصادات. وتؤكد الخبرة التاريخية أن الركود الذي يلي الأزمات المالية عادة ما يكون أكثر حدة مقارنة بالأزمات الأخرى. ولذلك يتوقع صندوق النقد الدولي أن ينخفض معدل النمو العالمي من 5 في المئة عام 2007 الى 3.9 في المئة عام 2008 والى 3 في المئة عام 2009. وتظهر هذه النتائج بصورة أكثر جلاء بالنسبة إلى الاقتصاد الأميركي، إذ من المتوقع أن ينخفض معدل النمو من 2 في المئة عام 2007 إلى 1.6 في المئة عام 2008 والى 0.1 في المئة عام 2009 وكذلك تراجع النمو في الاتحاد الأوروبي من 2.6 في المئة الى 1.3 في المئة والى 0.2 في المئة خلال الفترة نفسها. وهذه المسألة تؤثر سلباً في بلدان العالم الثالث عموماً لأن أساسات اقتصاداتها حساسة بدرجة كبيرة جداً لتحركات أسعار الفائدة الخارجية والتدفقات الرأسمالية ولأن صادراتها ستتأثر تأثراً ضخماً بتباطؤ النمو. وهنا يصبح التساؤل كيف ستؤثر هذه الإجراءات في معدلات الاستثمار ومن ثم في التنمية في مصر؟ وهو تساؤل مهم وأساسي نظراً الى ارتباط معدل النمو ارتباطاً وثيقاً بمعدلات الاستثمار، وبمعنى آخر فإن نقص الاستثمارات سيؤدي بالضرورة الى تراجع معدلات النمو ومن ثم مزيد من البطالة وغيرها من الآثار السلبية. ويبلغ حجم الاستثمارات الكلية المنفذة في مصر خلال العام المالي 2007/2008 نحو 199.5 بليون جنيه مقابل 155.3 بليون جنيه عام 2006/2007 ونحو 115.7 بليون جنيه في عام 2005/2006"الدولار يساوي 5.45 جنيه". وأسهم القطاع الخاص بنحو 134 بليون جنيه من هذه الاستثمارات بنسبة 67.2 في المئة في مقابل 97.3 بليون في العام المالي السابق وبمعدل زيادة تناهز 38 في المئة، ما أسهم في زيادة معدلات النمو من 7 في المئة الى 7.2 في المئة. وبالتالي ارتفعت نسبة الاستثمار إلى الناتج من 16.9 في المئة عام 2002/2003 إلى 18.7 في المئة عام 2005/ 2006 والى 20.9 في المئة عام 2006/2007 ثم إلى 22.3 في المئة عام 2007/2008. هنا تجدر الإشارة إلى أن استثمارات القطاع الخاص ذهبت في معظمها الى الصناعات التحويلية والتي استحوذت استثمارات بنحو 30.9 بليون جنيه يليها قطاع الغاز الطبيعي بنحو 18.8 بليون جنيه ثم قطاع النقل والتخزين بنحو 13.1 بليون جنيه والقطاع العقاري 12.8 بليون والاتصالات 13.7 بليون جنيه والزراعة 5.2 بليون جنيه. ولا شك في أن تأثير الأزمة في الاستثمارات الكلية في الاقتصاد المصري سيختلف بحسب طبيعة هذه الاستثمارات ونوعها. وهنا تجدر الإشارة إلى ان الاستثمار الكلي في مصر هو عبارة عن استثمارات عامة تتضمن الحكومة والهيئات الاقتصادية وشركات قطاع الأعمال العام والقطاع العام واستثمارات خاصة يقوم بها القطاع الخاص والاستثمارات الأجنبية، وتختلف العوامل المحركة لكل منها وبالتالي فمعرفة الآثار الناجمة عن الأزمة على هذه الاستثمارات تتطلب دراسة كل منها على حدة. وهنا تجدر الإشارة الى أن تمويل الجانب الأكبر من هذه الاستثمارات جاء من خلال الموازنة العامة للدولة التى ساهمت بنحو 65 في المئة من جملة الاستثمارات المنفذة وساهمت حصيلة التخصيص بنحو 20 في المئة والموارد الذاتية بنحو 10 في المئة والبقية منح وتسهيلات. أما استثمارات الهيئات الاقتصادية فقد جاءت معظمها من مواردها الذاتية 57 في المئة بينما ساهمت الخزانة العامة بنحو 20 في المئة و"بنك الاستثمار القومي"بنحو 10.5 في المئة وساهمت القروض والمنح بنسبة 12.4 في المئة. ويشير ذلك الى ان استثمارات هذا القطاع تعتمد أساساً على موارد ذاتية والخزانة العامة وبالتالي فاحتمالات الانخفاض غير واردة بل من المحتمل زيادتها وهو ما أعلنته الحكومة المصرية أخيراً حينما قررت زيادة الإنفاق العام الاستثماري من 35 بليون جنيه كما جاء في خطة التنمية الحالية للعام المالي 2008/2009 الى 40 بليون جنيه لتعويض النقص المحتمل في استثمارات القطاعات الأخرى. وعلى رغم ذلك نرى أن هذا المبلغ في حاجة شديدة الى الزيادة مرة أخرى، ويمكن الموازنة العامة للدولة استخدام الفائض المتحقق نتيجة لنقص أسعار النفط، ومن ثم خفض كلفة دعم المنتجات النفطية في تمويل مزيد من الاستثمارات العامة. ولعبت استثمارات القطاع الخاص دوراً مهماً في المجتمع خلال الفترة الماضية وبلغت نسبتها من الناتج الإجمالي نحو 70 في المئة، كما بلغت قيمتها في العام المالي 2007/2008 نحو 134 بليون جنيه. ونرى أن آثار الأزمة المالية الراهنة ستختلف بين قطاع وآخر، فإن الاستثمارات الموجهة إلى تلبية الطلب الداخلي الاستهلاكي والاستثماري مثل الاستثمارات الزراعية والصناعات البترولية والكهرباء والمياه والغاز الطبيعي لن تتأثر كثيراً نظراً الى ان الطلب المحلي الاستهلاكي مرتفع في المجتمع نتيجة عوامل كثيرة ومتنوعة، بينما ستتأثر الاستثمارات الموجهة الى الأسواق الخارجية سواء في قطاع التصدير او تلك المتعلقة بقطاع السياحة والفندقة وكذلك النشاطات العقارية. وفي كل الأحوال ستحتاج هذه الاستثمارات الى مزيد من الدعم والمساندة خصوصاً من جانب الجهاز المصرفي بخاصة في ظل صعوبات الحصول على الائتمان الخارجي، ومن ثم فإن العبء الأكبر يقع على قدرة هذا الجهاز على تلبية الطلب على الائتمان وهو رهن بطبيعة السياسة النقدية والائتمانية وكذلك مدى توافر السيولة النقدية. ويُلاحظ أن الاستثمارات الأجنبية المباشرة حققت طفرة كبيرة في المجتمع المصري، إذ ارتفعت قيمتها من 3.9 بليون دولار عام 2004/2005 إلى 6.1 بليون دولار عام 2005/2006 والى 11.1 بليون دولار عام 2006/2007 والى 13.2 بليون دولار عام 2007/2008 وبالتالي ارتفعت نسبتها الى الناتج المحلي الإجمالي من 4.6 في المئة إلى 6.1 في المئة والى 8 في المئة خلال السنوات السالفة الذكر على التوالي. ساهمت هذه الاستثمارات في سد فجوة التمويل المحلي الفرق بين الاستثمارات المحلية والادخار المحلي وبالتالي فإن أي تخفيض فيها سينعكس بالسلب على النمو الاقتصادي. وهنا نلاحظ أن معظم هذه الاستثمارات جاءت من الولاياتالمتحدة 6434 مليون دولار عام 2007/2008 في مقابل 4881 مليون دولار عام 2006/2007 تلاها الاتحاد الأوروبي 5114.1 مليون دولار عام 2007/2008 و4081 مليون دولار عام 2006/2007، وجاء معظم الاستثمارات الأوروبية من المملكة المتحدة والتي ارتفعت من 2209.6 مليون الى 3041.1 مليون خلال الفترة نفسها. أما الاستثمارات العربية فقد هبطت قيمتها من 3354.1 مليون دولار الى 3059 مليوناً خلال الفترة نفسها، وجاء معظمها من السعودية والإمارات. وإذا كان متوقعاً ان تنخفض الاستثمارات الآتية من الأسواق الأوروبية والأميركية بصورة كبيرة إلا أننا نرى ان الاستثمارات العربية يمكن ان تزيد لأسباب أولها ان معظم الاستثمارات الموجودة بالأسواق الأوروبية والأميركية تعرضت لأخطار كبيرة وبالتالي لم تصبح هذه الأسواق ملاذاً آمناً لها مثل الأقطار العربية، وثانيها ضيق الأسواق المحلية لهذه الاستثمارات وعدم قدرتها على استيعابها بطريقة اقتصادية تحقق الأهداف المرجوة لها. ولكن هذا الأمر ليس سهل المنال بل يحتاج الى بذل الجهود وتذليل الصعوبات والعقبات التي تعترض هذه الأموال. * خبير اقتصادي مصري