من يتتبع تجربة الشاعر اللبناني زاهي وهبي لا بد وان يلفته مدى التطور الذي تحققه تجربته على مستوى العمق والبناء وطرائق التعبير. فبين مجموعته الأولى"حطاب الحيرة"الصادرة قبل ثمانية عشر عاماً ومجموعته الأخيرة"يعرفك مايكل أنجلو"الصادرة حديثاً تتضح لقارئ وهبي تلك النقلات الواضحة في الصورة والأسلوب كما في تفحص الحياة وتأمل العالم. إلا أن هذه التجربة على تميزها وجديتها لم يتح لها أن تنال ما تستحقه من متابعة واهتمام وتناول نقدي، وذلك عائد على الأرجح الى الصفة الإعلامية التي لازمت وهبي منذ عقد ونصف من الزمن والتي انعكست بشكل سلبي على رؤية النقاد والمتابعين الى الشاعر وتجربته. كأن البعض رأوا في نجومية زاهي ما يتعارض مع الشعر الذي يتطلب وفق منظورهم تفرغاً كاملاً أو إقامة في الظل، فيما استكثر البعض الآخر عليه أن يجمع في آن واحد بين مجد الظهور الإعلامي ومجد الكتابة! على أن الأمر لم يدفع الشاعر الى الانكسار، على رغم شعور بالمرارة لا يفارقه، بل بدا على العكس من ذلك راغباً في تعميق تجربته الشعرية ومؤمناً أشد الإيمان بهشاشة الأضواء التي تحيط به وبزوالها السريع مقابل صلابة الشعر وديمومته. تعكس مجموعة زاهي وهبي الأخيرة"يعرفك مايكل أنجلو"انحيازه الثابت الراسخ الى القصيدة التي تحتفي بالحياة والبشر والأماكن المأهولة بالذكريات أكثر من انحيازه الى الزخرف اللغوي أو البهرجة اللفظية أو الاصطياد المتعمد للصور والمفردات، كما بدا أحياناً في بواكيره الشعرية. وإذا كان لذلك من دلالة فهو أن الشاعر في أربعيناته يبدو أكثر نضجاً وعمقاً وإدراكاً لمعنى الحياة وطبيعتها مما كان عليه في صباه المبكر. والأمر الآخر اللافت في هذا السياق هو أن زاهي الجالس بشكل دائم أمام الكاميرا عرف كيف يتخلص من وطأتها وحضورها الكرنفالي المعيق لعزلة الكتابة، وكيف يكون في المقابل وحيداً مع لغته ومشاعره وموضوعه. لكن ذلك لم يمنعه من الإفادة من الكاميرا عن طريق البعد المشهدي الذي يرتسم في قصائده والحسية الجارحة التي تنضح من الصور والتعابير. أما الضوء الساطع المسلط على وجهه باستمرار فقد استطاع أن يجره الى مكان آخر حيث تبدو قصيدته مكتوبة تحت شمس باهرة الإشعاع ومفعمة بالحنان والعذوبة. في شعر زاهي وهبي ثمة نزوع غنائي لا سبيل للشاعر الى تلافيه، ولا لزوم لذلك في أي حال. ذلك أن غنائيته متصلة بمصدر جغرافي هو الجنوب اللبناني وبمصدر زمني هو الطفولة. وهو لا يملك فكاكاً عن هذين العنصرين اللذين يتشبثان بروحه كما بلغته تشبث الطفل بصدر أمه. ولعل زهي من هذه الزاوية ينأى عن الكثير من مجايليه الذين تحاول حداثتهم الشعرية أن تشق طريقها في أرض ذهنية باردة اللغة والعصب، في حين أن صاحب"تتبرَّجين لأجلي"و"حطاب الحيرة"يستنفر للكتابة جماع مشاعره وأعصابه بحيث تبدو القصيدة عنده متصلة بالقلب ودورة الدم والأحاسيس الفجائية الضاغطة أكثر من اتصالها بمصدر فكري أو عقلي. وإذا كانت هذه الميزة تحمل دلالات إيجابية كثيرة بالنسبة لتجربة الكتابة فإن جانبها السلبي في المقابل يتمثل في امكانية انزلاق الشاعر أحياناً على سطح الانفعالات العابرة والتوصيف المباشر والسهل للمشاعر والوقائع والأشياء. وقد تكون ميزة العمل الأخير لزاهي هو كونه ينجح الى حد بعيد في لجم جنوحه الانفعالي المجرد لمصلحة بنية تعبيرية أكثر دقة وملموسية وأشد اتصالاً بينبوعها الرؤيوي وفكرتها الأم. لا يبذل قارئ مجموعة"يعرفك مايكل أنجلو"كبير جهد لكي يتبين مدى التصاق شعره بحياته الشخصية من جهة وبالناس المحيطين به من جهة أخرى. فالأنا هي المصدر الأساسي للكتابة وليس الموضوع أو المقولة أو العالم الخارجي. إلا أن هذه الأنا ليست منفصلة عن"الأنوات"المحيطة بها والتي تجد فيها امتدادها وظهيرها وحصنها الحصين. ولما كانت المرأة الحبيبة أو المعشوقة قد احتلت مركز الدائرة في مجموعات الشاعر السابقة فإن الكثيرين كانوا يخشون على تجربة زاهي الشعرية بعد الزواج، ويتوقعون لهذه التجربة أن تنطفئ نيرانها بانطفاء موضوعها الأصلي. لكن المفاجئ في هذا الصدد ان عصب الكتابة عند الشاعر لم يتعرض للتضاؤل أو الترهل بل حافظ على توتره واشتداده منعطفاً هذه المرة باتجاه الحب العائلي الإنساني المتمثل بصورة الأم الغائبة التي تحضر بقوة في المجموعة، كما بصورة الزوجة ? الحبيبة والابن البكر اللذين يحتفل بهما زاهي في قصيدته اللافتة"دمية روسية"بشكل مؤثر"أيخطر لك تشذيب الظلام/ تصويب النسيم بين يديه/ تقبلين أنامله السعيدة/ تتحسسين بطنك قائلة:/ أنظر كم يشبهك/ هذا أنفك على وجهه/ هذا نهرك في أوردتي/ هذا حرثك وبذرتك الطيبة.../ لولاك لما كنا معاً مثل دمية روسية:/ قلبه في قلبك في قلبي في قلب الله". تغيب صورة الأب تماماً في مجموعة زاهي وهبي"يعرفك مايكل أنجلو". لكن صورة الأم في المقابل تظل على رغم رحيلها عن الحياة ماثلة دائماً أمام عيني الشاعر وفي أعماق قلبه. ولعل القصيدة التي تحمل المجموعة عنوانها والتي تحتل الأم بؤرتها الأساس هي إحدى أفضل قصائد المجموعة، سواء من حيث تدفقها العاطفي أو مشهديتها الجارحة أو صورها الحسية المتلاقحة. وإذا كان ثمة من يربط بين الأم ومسقط الرأس من جهة وبين السفر والأنوثة من جهة أخرى فإن الشاعر يقيم توأمة ناجحة بين الفكرتين بحيث أن صورة الحبيبة الحاضرة لا تحجب صورة الأم الراحلة بل تؤكدها وتستدعيها، تماماً كما تستدعيها تماثيل مايكل أنجلو وقباب الكنائس وصلوات القديسين في فلورنسا"بإيمانك الأكثر من سماء واحدة/ بصلاتك الأرحب من محراب/ بقلبك الذي أتعبته الخسارات/ بيديك الشافيتين/ أضأت لك شمعة هناك/ في فلورنسا البعيدة/ في كنيسة هرمة مثل حسراتك الكثيرة/ قبابها المتباهية مرضعات الغيم". يبدو شعر زاهي وهبي في الكثير من وجوهه وملامحه استدعاء مثخناً بالشجن والترجيع لعالم تمت خسارته أو لطبيعة ماضية أخلت مكانها لعلب الإسمنت وبرودة الرخام المديني أو لطفولة تطل على رغم شقائها من وراء السنين التي تصرمت. انه شعر ريفي بامتياز، سواء من حيث موضوعاته وتهيؤاته ومناخاته أو من حيث صوره ومشاهده وحقله اللغوي الدلالي. وعلى رغم ان الشاعر يعيش في قلب المدينة وينتزع لنفسه مساحة كافية من الشهرة والضوء والعلاقات العامة الفضفاضة إلا أن ما يعيش في قلبه هو شيء آخر ومغاير تماماً. شيء أقرب الى دفء المنزل وغربة الكائن وتوقه المزمن للعودة الى نقطة البدايات. وهو ما يتبدى واضحاً في قصائد من مثل"كعازف يحتضن كمانه"أو"ضع وردتك هنا"أو"أهل التراب"حيث"التراب ينادي أهله وحيث لا مفر من تلبية النداء"وكذلك في قصيدة"حدثتني الريح"وغيرها من القصائد والمقطوعات. غير ان قارئ مجموعة وهبي الأخيرة لا يمكن أن يغض النظر عن ميزة أخرى لم تكن لتتوافر كثيراً في مجموعاته السابقة وهي تتمثل في نزوعه الى الحكمة والتأمل في قضايا الوجود الكبرى كالحياة والموت ومرور الزمن والشعور بالزوال وعلاقة الخالق بالمخلوق وصراع الكائن مع نفسه. ويأتي هذا التغير مع اقتراب الشاعر من منتصف أربعيناته مؤكداً بذلك قول الشاعر الانكليزي ت. س. إليوت بأن الشاعر في الأربعين لا يستطيع أن يتغذى من الغنائية المجردة وحدها بل لا بد له من اكتساب الحكمة والغوص بعيداً خلف الأسئلة المتعلقة بالمصير. وهو ما تشي به قصائد مثل"أهكذا تكون الطاعة"حيث نقرأ"خلقتني للجوع والعطش/ صرت الجوع والعطش/ أردت لي ذرية/ قتل أخي/ ورميت الآخر في البئر/ قطعت نسلي/ ولد أبناء لي من أرحام كثيرة...". وكذلك الأمر في قصيدة"انتظر أحداً ينتظر أحداً آخر"التي تنعطف، وفق رأيي، بتجربة الشاعر نحو مسار آخر يتخفف من الترسل الغنائي ليقترب أكثر فأكثر من التصويب الدقيق نحو الفكرة أو المعنى. لا بد أخيراً من الإشارة الى أمرين اثنين يسمان تجربة زاهي وهي وبخاصة في عمله الجديد: الأول يتعلق بالإيقاع الذي يبدو لشدة تدافعه داخل النص، كما لخضوع هذا الأخير لتوازنات شبه منتظمة بين الجمل والتعابير، قريباً بحذر من الشعر الموزون، ما يدل على حساسية الشاعر الخاصة ازاء موسيقى الشعر ومتتالياته الصوتية، والأمر الآخر يرتبط بالصورة التي تتجه بشكل مطرد نحو الجدة والمباغتة من دون أن يثقلها الافتعال أو التعسف، بحيث تطالعنا في هذا المجال صور لافتة مثل"أسأل عن نجمة ماتت بذبحة ضوئية"أو"القبلة المشمسة قرب التمثال"أو"يبعثرني مثل كيس طحين مثقوب في عربة تجر نهاراً عاصفاً"أو"التراب وحده يظل شاباً مدى الحياة".