} خمس مجموعات شعرية صدرت حديثاً لخمسة شعراء من الجنوب السوري. ماذا عن هذه المجموعات وشعرائها؟ وهل يمكن هؤلاء أن يؤلفوا تياراً أو حركة؟ وماذا عن عالمها ولغاتهم؟ هل يخلق المكان شعراءه وشعره؟ أم يرسم الشعراء خصوصيات مكانهم؟ أم أن الحياة الحديثة ومعها كيفيات النظر الشعرية قد ألغت ذلك كله، "واجترحت" رؤى أخرى مغايرة، تدين بوجودها لملامح عالم واحد فيه حال واحدة، بإطلاق آلامها؟ أسئلة تطرحها فكرة التأمل في مجموعات شعرية خمس، صدرت حديثاً لخمسة من شعراء مدينة صغيرة واحدة... أبناء مكان واحد تضيق رقعة الحركة فيه الى حد يجعل الجميع يعرفون بعضهم، وإلى حد يجعل الكتابة، فعل إبداع "مكشوف"، يراقب خلاله كل واحد نتاج الآخر، ويلحظ معه خيالات الرؤى، وجزئيات الانتباهات، مهما امتلكت من خصوصيات، الشعراء الخمسة، يوسف عويد الصياصنة، هاجم عيازرة، ابراهيم عباس ياسين، عبدالسلام المحاميد، ومحمد ابراهيم عياش، هم من مدينة درعا الصغيرة في أقصى جنوب سورية، ومجموعاتهم كلها صدرت حديثاً عن "اتحاد الكتّاب العرب" في سورية، وهي على التوالي، "برج الكلام"، "أغنيات للمدن النائمة"، "منازل القمر"، "ابتهالات بين يدي سيدة الفلّ والياسمين" و"رحلة الى شواطئ الجسد". يوسف الصياصنة الشاعر يوسف عويد الصياصنة أصدر خلال السنوات الأخيرة، ثلاث مجموعات شعرية، كانت على التوالي "عطر اللوز"، "جرح البنفسج"، "هوامش على كتاب الحرب والسلام"، ثم هذه المجموعة الجديدة "برج الكلام". في "برج الكلام"، نقف على حالات شعرية أكثر صفاء... حالات تخلص فيها الشاعر من زوائد كثيراً ما أربكت قصيدته وأصابتها بالترهل، حيث نلحظ اعتناء أكثر بالتكثيف. سواء في الجملة اللفظية، أو حتى في ازدحام الصور الشعرية. هنا صورة شعرية أشد تماسكاً وأشد سلاسة في تركيبها وفي بنيتها، ما يجعل "برج الكلام" تجربة أكثر نضجاً وأعلى جمالية. الملاحظة الأهم عند قراءة مجموعة يوسف عويد الصياصنة الشعرية الجديدة، هي ابتعاد الشاعر - ابتعاداً ملحوظاً - عن العناوين الكبرى، والمواضيع العامة، والتي كانت أكثر حضوراً في قصائد مجموعاته الثلاث السابقة، حيث أن حضور هذه العناوين الكبرى، في المجموعة الجديدة قد تضاءل وانحسر، مفسحاً المجال أمام أفكار ومواضيع، ذات صلة شخصية وفردية أكثر، أي أن الصياصنة في هذه المجموعة آثر مقاربة همومه الذاتية الأقرب حتماً الى روح الشعر وفضائه الإبداعي، نلحظ هذا في الخطاب الشعري عموماً، ولكن أيضاً في مفردات الجملة الشعرية، التي نراها هنا تنحاز الى طبيعة الأفكار التي تحملها، فتجيء من ثمّ منسوجة في شكل مختلفٍ فيه الكثير من نداوة الحسّ المرهف، ومن إيقاع يقارب - غالباً - إيقاعات الشعر الغنائي، ولكن من دون الاستغراق في أي غنائية تهويمية قد تفرّ بالقصيدة الى خارج المعنى، أو إمكان التأمل واستعادة المشهد من قبل القارئ. الكلام الذي يعتلي الشاعر برجه، هو في هذه المجموعة إصغاء أو بالدقة نتاج إصغاء طويل، لمحيط له مفردات عدة، لكن المكان هو من غير شك، أبرز هذه المفردات وأشدّها تأثيراً في روح الشاعر، وفي هتاف قصائده على حدٍ سواء، وهو إصغاء ينتقي من همس المكان ما يشي، ولا يفصح في صورة مباشرة، بل هو يقع في المساحة الحائرة والرجراجة بين الشواهد الملموسة، وبين وقعها في داخل الروح وفي ثنايا الهواجس والأفكار. يمكن القول إن "برج الكلام"، واحدة من المجموعات الشعرية القليلة، التي تنجح في تقديم قصيدة حديثة، من دون ان تتنازل عن فنية الشعر، في ساحة تشوّهت فيها مفاهيم الحداثة الشعرية الى حدود استغرقت خلالها الكتابات الجديدة في متاهات الافتراق عن المعنى، أي معنى، وصارت فيه الصورة الشعرية ضرباً من الرّجم في غيب لا يتمكن من فك طلاسمه، لا القارئ ولا الشاعر. ففي "برج الكلام" وقوف متأنٍ عند كل ما يجعل العبارة الشعرية طرفاً في معادلة طرفها الآخر هو القارئ، الذي يجد في قراءة قصائدها متعة التحديق في الأجواء والمناخات ذاتها التي دفعت الشاعر للكتابة، ويجد في الوقت ذاته فسحة للتأمل والتأويل ولكن من دون شطط أو افتئات على المعنى المطلوب أو حتى الممكن، فالقصيدة عند الصياصنة هي حال أولاً، وقبل أن تكون موضوعاً، وهي بهذا المعنى إذ تعثر على موضوعها، أو بدقة أكثر على أفكارها الخاصة، لا تقع في التنافر بين المساحتين: مساحة الحال النفسية بما هي انتماء الى الروح والمخيلة معاً، ومساحة التقنية الإبداعية وشيجة الصلة بما في الموضوع الشعري من انتماء الى العقل، ولكن ذلك العقل المشبع بما في المخيلة أيضاً من طلاقة. هاجم العيازرة مجموعة هاجم العيازرة "أغنيات للمدن النائمة"، هي الثانية بعد مجموعته الأولى، وعدد من المسرحيات الشعرية المكتوبة للأطفال. في هذه المجموعة الجديدة يقدم العيازرة صوته الشعري بوضوح أكبر فتبدو قصيدته وقد تجاوزت كثيراً من عثرات البدايات الأولى وتبدو مواضيعه أكثر رصانة وأشدّ هدوءاً، فهذا الشاعر المولع بقصيدة الهم الوطني والقومي، يرتفع في هذه القصائد الجديدة بخطابه الشعري الوطني الى مستوى أعلى، حيث تتخلص القصيدة من خطابية كانت تأخذها الى ما يشبه قصيدة المناسبة، في حين نجد الروح الوطنية وقد اصطبغت في قصائد هذه المجموعة بصوت الشاعر الفردي، بما يحمله هذا الصوت من هموم وهواجس. لغة هاجم العيازرة الشعرية وصياغاته الشكلية، تحمل الكثير من مواصفات شعرية جيل الستينات الشعري في سورية، وإن يكن العيازرة يجتهد في هذه المجموعة لاستخلاص جماليات أعلى من تلك البنائيات من خلال تلوين صوره الشعرية بالكثير من رقة الإنشاد وعذوبة الخطاب، في جهد واضح لانتزاع قصيدة الستينات من زمانها، وزجّها في زماننا الراهن. "أغنيات للمدن النائمة"، بقصائده المكتوبة خلال السنوات الأخيرة، تنقّل بين أجواء ومواضيع متعددة ومختلفة، تقع بين القصيدة الوطنية وبين قصائد الإنشاد الفردي، ولا تخلو كذلك من مرثية شفافة، مثل تلك التي كتبها الشاعر في وداع الشاعر السوري الراحل محمد عمران "وئيداً مشيت". ابراهيم عباس ياسين مجموعة الشاعر ابراهيم عباس ياسين "منازل القمر"، هي العاشرة في سلسلة إصداراته الشعرية، أي أننا امام شاعر يمتلك تجربة إبداعية غزيرة الإنتاج، تجاوزت منذ زمن طويل بدايات التجربة وامتلك صاحبها صوته الخاص. في "منازل القمر" ملامح شعرية مختلفة عن مجموعات الشعراء الآخرين الذين نتحدث عن نتاجاتهم في هذه المقالة، فياسين يبحث عن فضائه الشعري في تخوم التجربة الفردية الخالصة... التجربة التي تحمل العشق في عناوينها العامة، ولكنها مع ذلك تذهب إليه بأسئلة الوجود والحياة في حالاتها الأشد عسراً. قصيدة ابراهيم عباس ياسين تنتمي في كثير من ملامحها الى تجربة جيل الستينات والسبعينات في الشعر السوري الحديث وإن كانت في العموم تستفيد من إنجازات شاعرين هامين هما نزار قباني ومحمود درويش، استفادة تأخذ من قباني ودرويش انفتاحهما على فضاءات لا تحدّ في العيش والعند على حد سواء، ولكنها تفارقهما بعد ذلك من خلال الرؤية الخاصة، ومن خلال النسيج الشعري الخاص أيضاً. ففي "منازل القمر" ثمة عودة الى مواضيع شعرية طرقها شعراء كثيرون، ولكن ياسين إذ يعود إليها، إنما يقدمها في صيغ فيها الكثير من النداوة والجدّة. وابراهيم عباس ياسين، إذ يقدم في هذه المجموعة تنويعات على وتر الحب والعاطفة الفردية والاغتراب، نراه في الوقت ذاته، يكرّس عدداً من قصائد المجموعة للرثاء، فيرثي الشاعر محمد عمران والكاتب سعدالله ونوس وصديقه ناجي الجيوش، حيث ترتقي المرثية الى ذرى أعلى من قصائد المجموعة كلها. هذه اللغة السهلة، والمباشرة، تتكىء في صورة رئيسة على الصورة الشعرية، التي تشكل حجر الزاوية في قصائد ابراهيم عباس ياسين، حيث تقوم بنية القصيدة على مجموعة من الصور الفنية الجميلة وذات التكوين الحسّي، حيث يمكن للقارئ استعادة هذه الصور في مخيلته. وإذا كان ياسين في تجربته الشعرية كلها - ومنها هذه المجموعة - يكتب قصيدة التفعيلة، فإنه في الوقت ذاته لا يهمل اقتراحاً عمودياً يقدمه تحت عنوان "معلقة على جدارية مهدّمة"، نلحظ فيه كثافة البنائية الحديثة في القالب التقليدي. قارئ مجموعة ابراهيم عباس ياسين الجديدة هذه، سيلحظ أن الشاعر في جلّ ما يكتبه يميل الى قصيدة المشهد الواحد، الذي يمكن رؤية صورته شبه الدرامية، والتي تتجلّى فيها عناصر ذات الشاعر الداخلية مع الحدث الخارجي الواقعي في علاقة محتدمة، لا تكتفي بالوصفية الخارجية، بل تجتهد لملاحقة تركيبية هذه العلاقة وبعدها المستتر. وقصائد هذه المجموعة تميل - عموماً - ان تكون قصائد حب، تقف خلالها المرأة، عنصرها رئيساً وهاماً يمثل بؤرة ضوء بعيدة تشدّ إليها النظر والقلب.