لعلَّ واحدة من أكثر المشكلات ظهوراً في جانب من تجربة الشعر العراقي في المنفى، إنه طالما ظلَّ، أسيراً للماضي الشخصي، مشدوداً بنوستالجيا مركَّبة من تلك الأشواق التقليدية، والحنين المضطرب الذي يكتبه في كثير من نماذجه أولئك الشعراء الذين وصفهم أبو الفرج الأصفهاني في كتابه «أدب الغرباء» بأنهم، وتحت وطأة حالة من الشعور بالإدانة الداخلية وتأنيب الذات: يبوحونَ بأسرارهم في كلِّ حانةٍ وبستان، ويكتبون أشعارَ تشرُّدهم على ما يجدون من جدران! ولهذا فإنَّ دواوين كثيرة في العقود الماضية، انشغلت في إعادة إحياء الفائت وشحنه بمبالغة قد تجعل من الشجرة غابة، ومن المنزل الصغير وطناً. في مجموعته الشعرية الجديدة «لا أخصُّ أحداً بهذا» (دار رياض الريس - الكوكب) يعي الشاعر العراقي المقيم في لندن غريب اسكندر، تلك المشكلة، ويحاول أن يتخفَّف، من حمولة تلك الهيمنة التقليدية لخطاب الحنين المعتاد، أقول يحاول لأنَّ لا انفكاكَ نهائياً منها، فبين أولى قصائد المجموعة وخواتمها، يحضر شيءٌ من ذلك الحنين، بينما يكتب بين هذين القسمين قصائد أخرى عن عالم مختلف في سياق محاولته الخلاص من وطأة النوستالجيا الوطنية. ففي قصيدتين في أول الديوان، وبخاصة «لا أخص أحداً بهذا» التي حملت المجموعة عنوانها، وكذلك في القسم الأخير من الديوان: «العودة إلى بغداد»، ثمة حضور صريح لمكان فردوسي ضائع يتجسَّد في عناوين شتى: صورة الأم، ذكرى العائلة، المنزل، الأزقة، المدينة: بغداد، النهر المرتبط بعالم الطفولة... لكنَّ فراديسَ قديمة كهذه لا تحقِّقُ الخلاص الروحي والطمأنينة للشاعر إذ تبقى مشوبةً بذكرى سوداء عن الموت. دجلة التي تلازم الحبر والدم، وشارع المتنبي، حيث تتحول الكتب إلى قتلى، لا يموتون! والعائلة المحكومة بحتمية الغياب والفجيعة، وهو ما يخلق تعارضاً بين لحظتين في الكتابة والحياة: «أعرف أنَّ الماضي/ليس مذنباً تماماً/لكنَّ الحاضر ليس لحظة كاذبة!/فاكتبْ عنه/صِفْها.../هذه اللحظة/لا تلك... لحظة الماضي!» وهكذا تنوس اللحظة الشعرية لدى غريب اسكندر بين هذين البعدين: الشخصي، والجماعي، سواء في ماضيه الشخصي في المكان الأول الذي أشرتُ إليه والذي أضحى بعيداً وشبحياً، أو في مكانه الحالي: أوروبا الذي يبدو في الظاهر فضاءً لمشهد يومي متاح حافل بالمرئي إلا أنه يكتبه، في الواقع، برموزه البعيدة لا بحضوره الآني وهو ما يضفي شبحيَّةً أخرى مستعيداً بها ماضياً من نوع آخر: ماضي الآخرين الذي يعمد إلى المثاقفة معه في سعي إلى ردم مسافة الاغتراب التي تتكرَّس في الواقع بدلاً من أن تتقلص. فهو يجوب المدن بحثاً عن فردوس بديل: لندن، باريس، روما، مدريد، فيينا، بحر إيجة، فلورنسا، ويصاحب ذكريات الشعراء والفنانين تعويضاً عن وحشة داخلية: فيرى بودلير وكآبته في المدينة، ولوركا وليلته الغجرية، ثم أطيافاً متعدِّدة ومتداخلة أحياناً لدانتي وريلكه ومايكل أنجلو وخوان ميرو، وبيكاسو، وأودن، ودالي، وغوته، وكفافي... يعقد حلفاً غامضاً مع كلِّ هؤلاء الرموز من الأسماء التي تحتشد بهم قصائده، ويتحدث طويلاً مع ميراثهم اللوني أو الشعري. وإزاء هذا الزخم الزائد لحضور شخصيات من ثقافات شتى، ليس ثمة من أثر صريح ليوميات الناس وطقوسهم الخاصة في تلك المدن، ولا حتى ليومياته الشخصية التي تغدو إبحاراً في الذكرى، بل ثمة انحسار فادح لليومي وطغيان لافت للتاريخي. وأحياناً هو التاريخ وحسب، فثمة المتاحف، والمسارح، ودور الأوبرا، التي تستقدم الزمن من الذكرى، وليس الحانات أو الحدائق، أو محطات المترو، مثلاً، التي تكثِّفه كمشهد. وهو حتى حين يرى ماضيه الحضاري الموغل في القدم، فلا يراه متجسداً في مكانه بل مغترباً اغتراباً «جميلاً» هو الآخر، فتمثال حمورابي في متحف اللوفر يراه في مكان لائق وهو إلى جانب ابتسامة الموناليزا وذبابة سارتر! وهكذا تغدو قصيدته، على قِصَرِها، إمعاناً في تشكيل لحظات منفصلة من أزمنة شتى وأمكنة متباعدة، تنتظم في وحدة مختزلة لتتمتع بانقطاعها الإرادي عن المشهد الحالي، وتستغرق في غيبوبة مصطفاة، في استبطان المكان لا استيطانه، فالحياة ليلية تصلح لأحلام اليقظة في مدينة النور!: «هذهِ هي باريس/ هذا هو ليلُها/الذي انتظرتِهِ طويلاً يا أحلامي» وفي برشلونة: مدينة العالم، لا يصف لنا شيئاً من يومياتها سوى ليلها وتاريخها كذلك، وعلى طريقة كافافي يشيد بالرحلة، ويأنس للشرود عن المآل، ويزهد في نشدان الوصول: «ولماذا تصل؟/إبقَ في هذهِ الرحلة/شارداً عن كلِّ شيء» إنها إذن سياحة مترامية الأطراف في التاريخ، فبعد أن قدَّم في ديوانه السابق «أفعى جلجامش» نوعاً من السياحة في الأسطورة، إلا أن الملاحظ هنا إن الحمولات المضاعفة للأسماء التي لا تخلو منها قصيدة من قصائد الديوان العشرين بجملها القصيرة وقرائنها الدلالية ذات الإيحاء المنجز والمكتمل، تتكئ على جمالية الإحالة إلى تلك القرينة القريبة السهلة أكثر من انشغالها بخلق تأويل بعيد. صحيح أن تلك السياحة قد تعبر عن جانب من التجربة المعرفية للشاعر، بيد أنها تخسر إلى حد ما بهجة التعبير عن التجربة الشخصية، ذلك أنها تشكِّلُ حجاباً قوياً يصدَّنا عن التعرُّف على مزاج الشاعر الذي يبدو في أحيان كثيرة مغلقاً وغير متاح بفعل هذا الاستبطان للتاريخ، وأن ظهر فإن ظهوره سيكون مشدوداً إلى ذلك الحيِّز الأثير: أي في تلك القصائد التي تتجه إلى الماضي، وإلى استعادة المكان الأول، ومن هنا فإن شعراً عالياً هو الذي يخلق هذا التمازج السلس بين الحياتي والمعرفي، بين اليومي والتاريخي، على أنَّ هذا النزوع إلى الماضي، تجسيد لتنازع حقيقي داخل الشاعر بين عالمين تحيط بهما الشبهات والتشابه! لذا يرتقي سلالم عدة في البحث عن انعتاق من هذا النزاع، وإذا ما صحبناه، شعورياً في ارتقائه سلالمه الأوربية الخمسة عشر، فإنها ستحيلنا إلى تلك السلالم الروحية في التجارب الصوفية، حيث «الأحوال والمقامات» مسالك عرفانية من أجل تحقيق السلام الداخلي، والتماهي مع الحقيقة، ولو تأملنا في بعض عناوين تلك السلالم لوجدناها قريبة إلى مسالك المتصوفة: سلم الانتظار، سلم العشق، سلم الخسران، سلم السحر، سلَّم القصيدة. سلم الشاعر، سلم الغياب. سلم الحرية، سلم الهروب، إلخ... ومع هذا فهي ليست طرقاً تفضي للوصول إلى مكان ما، بل إنها لا تفضي إلى ذلك الترقِّي الصوفي، إنها نوع من المعراج الروحي الذي يصطدم غالباً بفشل الوصول وابتعاد النهايات. في قصائده المكتوبة في مدن أوروبية عدة، ثمة انشغال تشكيلي لوني يحمل، ظاهرياً، هوية البيئة اللونية الأخرى الصاخبة، إلا إنها، في جوهرها، تعاود الاصطدام بثقل ذلك الميراث المحلي للشاعر فعلى رغم تأملاته الكثيرة في المتاحف وصالات الفن والمدن، وانغماره بالغنى اللوني لدى رسَّامي أوروبا إلا أن ترجيعات تلك الألوان في الباطن النفسي لصاحب «سَوادٌ باسق» يطغى عليها لونان: الأبيض والأسود: «زهرةً بيضاءَ/ تقفينَ الآنَ وحيدةً/ مثل عشتار وسوادِها» «القيامة/ مع أنها بيضاء بلون الدمع» «يحدثُ.../أنْ يستفيقَ أيُّ واحدٍ مِنَّا/وفي قلبِهِ ثقبٌ أسود» حتى في لوحات ميرو المشعة بالألوان المرحة فهو لا يرى في تلك اللوحة الزاهية والمعبأة بعفوية الطفولة إلا لوناً وحداً: «كلُّ ما رأيتُهُ/كانَ البياضَ/الفراغَ/لونَ الهُروب» أكثر من ذلك فإنَّ اللون مهما كانت رمزيته في الثقافة الأخرى، فإنه يحيله فوراً إلى إرث القسوة المختزن في ذاكرته ووجدانه، وهكذا لا يستجيب لإغواء الألوان في ثياب راقصة الفلامنكو، وإنما يستدعي به ذكرى فجائعية أخرى مقبلة من هناك: «الأحمر/الذي يذكِّرها بلون الوردة/يُذكِّرني بلونِ الدم!» قصيدة غريب اسكندر موجزة لا تنهمر في تشكُّلها، وإنما تتقطَّر بهدوء، ولولا هذا الضجيج الفائض بفعل زحام الأسماء، أمكنةً وأشخاصاً، داخل القصيدة، لَمثَّلتْ نموذجاً جيداً للقصيدة القصيرة ذات الصفاء المكتمل بإشاراته الداخلية والمكتفي بزهد معماره.