الكتاب: عوالم مايكل انجلو الثلاثة المؤلف: جيمس ه. بك. الناشر: نورتن - لندن 1999 قبل موته العام 1564 بوقت طويل، كان مايكل انجلو بوناروثي أصبح شخصية اسطورية كرسام ونحات، وأحد عمالقة الفن في عصر النهضة الايطالية. كان شاعراً نحاتاً متميزاً في عصر اتسم بالمواهب الشعرية المتألقة. ولد في زمن عاش فيه كثير من العباقرة امثال دافنتشي ورفائيل وبوتشيللي. ولعله كان اكثرهم عطاء وغزارة، الا انه أقلهم راحة وسعادة. ولم تستطع حتى شهرته المبكرة ان تنسيه انه ولد انساناً حزيناً. يمتد تاريخ مايكل انجلو الفني طويلا بحيث يتجاوز السبعة عقود، انجز خلالها اعمالاً تشكيلية ونحتية كثيرة ومهمات صعبة عكست كل ما يمكن ان يمنحه فنان لفنه وعصره. وإذا كان مايكل انجلو عُظم كل هذا التعظيم واحتل هذه المساحة الكبيرة من الاهتمام والرعاية من الكتاب والفنانين على مدى قرون بعد موته، فذلك لأنه جدير بهذا الاستحقاق ومخلص اشد الاخلاص لدوره ومدرك لأهميته التاريخية في الفن وأهمية اعماله بالنسبة الى الاجيال المتعاقبة. وكتاب جيمس بك "عوالم مايكل انجلو الثلاثة" يأتي ضمن هذا السياق، ويعتبر بمثابة ذاكرة تشير الى ان مايكل انجلو لم يزل حتى الآن حياً بأعماله الماثلة للعيان في متاحف وشوارع ايطاليا المفتوحة وأحد اكبر اساطين عصر النهضة. ان ما يميز هذه الدراسة الجديدة هو انها تختلف تمام الاختلاف عن كل ما جاء قبلها من كتب عن مايكل انجلو، سواء تلك التي تناولت اعماله - وهي كثيرة بلا شك - او تلك التي كتبت عن حياته وعصره. ان هذا الكتاب لا يمكن اعتباره مقدمة لسيرة حياة مايكل انجلو او لمحة سريعة عنها، بل على العكس من ذلك اهتم الكاتب بالتركيز على شخصية الفنان ذاتها وتأثير اندماج الشخصيات الثلاث الكبرى في حياته وهي عوالمه الثلاثة: والده لودميكو، وكفيله او راعيه الأساسي لورنسو دي مديشي، ثم البابا يوليوس الثاني الذي جعلت سلطاته الواسعة من مايكل انجلو بحق سيد عصر النهضة. من المؤكد ان امتلاك جيمس بك للمصادر الأساسية الأولى حول مايكل انجلو ساعده كثيراً في تسليط ضوء جديد على العلاقات العائلية المتوترة بين مايكل انجلو ووالده. كتب انجلو ذات مرة الى والده: "لقد فعلت كل شيء ممكن لكي ادخل السرور الى قلبك. انني اشهر فنان في العالم... عملت ليل نهار وعانيت قسوة كل ما يمكن تصوره... لكنني لا زلت لا اعلم ما الذي تريده مني". وإذا كانت طبيعة علاقة انجلو بوالده ليست متوازنة، كما يظهر ذلك من رسائله اليه، فان عالم انجلو تحوّل بشدة على يد لورنسو دي مديشي حاكم فلورنسا الذي اعترف بمواهب الشاب وقام على تربيته وتثقيفه وضمه الى اسرته. ولورنسو كان شخصية مثقفة تولع بدراسة الانسانيات واهتم باقتناء الكتب الكثيرة الى جانب كونه موسيقاراً وشاعراً مجيداً، وعائلته معروفة منذ اجيال بحبها للفن ورعايتها للفنانين والموهوبين وتقديم العون لهم. بين احضان هذه العائلة وهذا الجو نشأ مايكل انجلو واستطاع ان يجد له منفذاً فريداً الى عالم الفلاسفة ورجال الأدب الذين يأمون منزل لورنسو ومجلسه، فتزود بثقافة غير تقليدية كنحات ورسام. ومنحه هذا المنفذ مصدراً اساسياً من مصادر الحرية وحوّله ليس فقط الى فنان مفعم بالحيوية فحسب وانما ايضاً الى اشهر نحات في زمانه. في سن الثالثة عشرة بدأ انجلو حياته الفنية في ورشة دومنيكو جيرلانديو في فلورنسا العام 1488، وكانت فلورنسا آنذاك متحفاً كبيراً للفنون، ويُطلق عليها لقب مدرسة العالم للفنانين، حيث يؤمها التلامذة وطلبة الفنون من كل انحاء ايطاليا للتعلم والاشتغال لدى الاسطوات وأرباب الأعمال الفنية. وكان جيرلانديو يعتبر من ابرز رسامي الجداريات في ذلك الوقت. وحينما بلغ مايكل انجلو التاسعة عشر من عمره امضى ما يقرب من العام في بولوكنا حيث يشاهد تأثير النحات جاكوبو ديلا كورسيا واضحاً على بعض اعماله المبكرة. ومن مشغل استاذه جيرلانديو انتقل انجلو الى مدرسة النحت التي اسسها لورنسو. وفي ورشة هذه المدرسة نحت انجلو أول اعماله الحقيقية على الحجر "مادونا السلالم" 1491 فأظهر موهبة فذة ومهارة متفوقة في تقنية الرخام وهو لما يتجاوز السابعة عشرة من العمر. اما عمله النحتي الثاني "موقعة سنتورس" الذي جاء بعد عام على الأول فهو يعكس تطوراً هائلاً خلال فترة وجيزة من الزمن. وكان انجلو استوحى موضوع هذه المعركة من اسطورة اغريقية أعاد صياغتها الاديب بوليسيانو، المعلم والمشرف على تربية اطفال ال مديشي. ومع ان مايكل انجلو عمل وتمرّن في مشغل جيرلانديو وورشة بيرتولدو، إلا انه حرص على ان يميز شخصيته الفنية بشكل مستقل، معتقداً بأنه نتاج عامل الزمان والمكان، ومنجزاته ما هي الا حصيلة هذين العاملين. وكتب انجلو ذات مرة "هناك في ايطاليا مدناً تكاد تمتلئ بالرسوم، سواء من الداخل او الخارج". وفلورنسا التي يسمّيها "عشّه" تقف في مقدمة هذه المدن. وبعد ان يتناول جيمس بك بالتفصيل عوالم انجلو الثلاثة وتأثير كل منها على اعماله الفنية الكبرى ومسيرة حياته، لم يستطع هو الآخر ان يتجاهل جانب الحياة الجنسية للفنان التي قيل وكتب فيها الكثير من الآراء المختلفة والمتضادة. يناقش جيمس بك في كثير من المواضع ان مايكل انجلو كان انساناً عاجزاً جنسياً او بالأحرى لا يقوم بتأدية مهامه الجنسية، وظل هكذا طيلة سنواته الاخيرة بصرف النظر عن كونه شاذاً او لا. كان في رأي الفيلسوف واستاذ المديشي مارسيليو فينسيني ان الاتصال الجنسي يضعف الدماغ وبالتالي يؤثر في صورة الخيال، وهذه افكار يبدو ان مايكل انجلو تبناها بشدة وأخذ بها خلال سنواته الاخيرة ودافع عنها معتقداً بأن العزلة الجنسية تطيل من العمر وتنشط الخيال.