"دعيني أقول لك بالرمز... حين تضيق العبارة عما أعاني... وحين يصير الكلام مؤامرة أتورط فيها"، كتب الشاعر نزار قباني في ديوانه"أحبك". أبيات يحفظها خالد عن ظهر قلب لأنها تحاكي قصة غرامه الطفولي، ويرى في عادات مجتمعه سطوة تجبر الحبيب على الصمت فيصبح"الرمز"الوسيلة الفضلى للتعبير. رسومات، رموز وأحياناً كلمات ومقاطع من أغنية رومانسية، يكتبها خالد 18 سنة على مقعده الخشب، خلال انتظامه في الدوام المدرسي في محاولة منه للتنفيس عما يجول في خاطره، وتساعده على الاسترسال في رسم"خربشاته"أجواء من الملل تفرضها حصص المواد الأدبية. وعادة ما تجده يمسك القلم ويلفه بأصابع يرهقها التوتر، يترّجم مكنوناته وهو يخط رسومات غير مفهومة غالباً بالنسبة اليه، على رغم جدواها في إزاحة تشتت غلب على فكره. هذه ليست المرة الأولى التي يسجّل فيها ذكرياته المختصرة برسومات تركت أثرها على أشجار المدرسة وجدرانها، ليصبح مجرد لمحها والمرور بها لاحقاً إيقاظاً لأحداث طوتها السنين وحكايات بقيت حبيسة هناك حيث خطّت. خالد كغيره من أبناء جيله في الأردن، يجد نفسه غير قادر على التعامل وما يَلِجهُ من مشاعر متأججة تزداد حدتها في سن المراهقة. وتصبح"الشخبطة"الوسيلة التي يختارها البعض لمحاكاة ما بأنفسهم في مرحلة عمرية ذات خصوصية يعجز غالبية الأهل عن مجاراتها. وإن كانت قصص الحب المحرّك الأول لتلك الشخبطات، يترجمها صغار السن أيضاً عبر رسومات تعبّر غالبيتها عن محبتهم المفرطة تجاه الأهل، فإن كتابات ورسومات من نوع آخر تأخذ منحى أكثر عدائية ووحشية تجدها لدى بعض طلبة المدارس الأعدادية والثانوية. وتعد"الخربشة"والرسومات غير المفهومة"من الأساليب التفريغية للتعبير عن مكنونات النفس، إلا أنها ذات دلالات تشير إلى أن صاحبها يعيش معاناة يسببها واقعه الاجتماعي"، بحسب الاختصاصي الاجتماعي الدكتور منير كراتشه، الذي يلفت إلى أن"الخربشة ترتبط بمراحل عمرية مبكرة، إذ تصبح السلوكيات التعبيرية من رسومات وكتابات وسيلة لتفريغ الإنفعالات خصوصاً لدى المراهقين الذين يمرون في مرحلة تنعدم فيها القدرة على تنظيم المشاعر". وتصبح الجدران الداخلية والخارجية للمدارس مساحة يستغلها طلاب للتعبير عن مقتهم الموجه إلى استاذ بعينه. ولا تخلو كتاباتهم من الشتائم والإهانات تعاقب الأخير على تعامل صارم، أو أسئلة امتحان تعجيزية من وجهة نظرهم. "ويتعمّد طلبة تسخير مهاراتهم الفنية في الرسم للإساءة الى بعض أساتذتهم، من خلال رسومات كاريكاتورية ساخرة من دون الإشارة إلى أسمائهم صراحة تحاشياً للوقوع في مسائلات قد تقود إلى عواقب وخيمة"يقول الطالب عبدالله 16سنة، الذي يشير إلى أن"رسمها على جدران المدرسة الخارجية، وعلى مرآى الجميع يعد وسيلة لتسديد ضربات مضادة لسلوكيات الأستاذ المعنفة لهم داخل الحصة". ويضيف عبدالله أن"الطلبة غالباً ما يشعرون بمقت حيال أداء بعض أعضاء الهيئة التعليمية، ومع عدم وجود حلقة وصل بين الطرفين يزداد الكبت، وتصبح"الخربشات"والكتابات بمختلف مضامينها وسيلة للتنفيس عن مشاعر مشتركة يكنّها الطلبة حيال سلوكيات أساتذتهم". وفي الأماكن المغلقة لا سيما المراحيض تصبح الرسومات والتعليقات أكثر بذاءة وذات مضامين جنسية، تضفي أجواء ساخرة لدى طلبة ممن يسقطون حواجز حيائهم في ظل غياب رقابة أخلاقية تشتد في باحات المدرسة وأروقتها. وتزداد حدة الظاهرة في الأحياء الفقيرة فلا تكاد تخلو أسوار حاراتها، وأعمدة الكهرباء في شوارعها، فضلاً عن حافلات النقل التي تجوبها من إسقاطات تعبير تارة عن انتقادات لسوء أوضاعهم الإقتصادية، وأخرى عما يجول في نفوس أبنائها من رغبات تُكتب بسجيتها من دون تنقيح. ويؤكد كراتشه على أن هذه الظاهرة ترتبط بمجموعة من الأفراد ممن ينشأون في كنف أسري مفكك، وهي مرتبطة بالتالي بالمحيط الاجتماعي والتربية الأسرية،"لذا نجدها أشد حدة في المناطق الفقيرة حيث تسيطر منظومة العادات والتقاليد على الحياة الاجتماعية ما يولّد لدى بعضهم نوعاً من الكبت يُترجم برسومات وتعابير تحاكي ما يجول في أنفسهم". إسقاطات سياسية وما يميز هذه الكتابات في مخيمات اللاجئين المتناثرة في أنحاء الأردن أنها ذات صبغة سياسية، يحرر عباراتها صغارهم قبل كبارهم، وتغلب عليها مشاعر حماسية تحاكي مشاهد القهر والظلم المحدق بالشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة. ويفرغ محمد 13 سنة من مخيم جرش ما تستحضره مخيلته من معاناة الشعب الفلسطيني، وصور يشاهدها يومياً لواقع الاحتلال في دفتر رسومات خاصة به تجسّد القضية الفلسطينية من منظوره. فتارة يرسم القدس وقد لونتها دماء الشهداء، وطوراً يجسّد المناضل الفلسطيني بشخصية عربية تحمل السيف لمحاربة العدو الذي يتقمّص هيئة الأفعى. فيما يفرّغ زملاؤه سخطهم على واقع الاحتلال بكتابة عبارات تستنكر العدوان على جدران المنازل في زقاق المخيم 19. نشر في العدد: 16663 ت.م: 17-11-2008 ص: 27 ط: الرياض