"الخربشة" التي ينفّذها طفل في سنّ مبكرّة، على جدران المنزل، لا تُعتبر، في البداية، شكلاً من أشكال التعبير عن الذات، على ما تحلّل دانيال بيشون المتخصصة في علم نفس الأطفال. فما إن يمسك الطفل في عامه الأول أو الثاني بقلم حتى تعتريه رغبة عارمة باستعماله، من دون أن يعي تماماً وظيفة هذه الأداة. يلتقط الكائن الصغير القلم ويشرع في"الخربشة". ويسترسل في فعله هذا معتقداً أنه ينجز عملاً جاداً. والأجمل أن تسترق النظر إليه وهو مستغرق في"تحفته"، شرط ألاّ تدعه يجفل وتقتلعه من شروده. فالصغير، وهو في هذه الحال، إنما"يحاول أن يترك أثراً على الجدار، معلناً من خلاله بداية شخصيته"، على ما توضح بيشون."وبين السنّ الرابعة والسادسة، يشرع الطفل في"الكتابة"على جدران المنزل، تماهياً مع المعلّمة أو الأستاذ، ومحاكاة للكتابة على اللوح، إذ يشعر بأهمية التدريس". وتبقى هذه الممارسة عند الأطفال من قبيل ترك الأثر، واللهو ربما، حتى يُسأل عمّا يفعله. وهنا، تشدد المتخصصة في علم نفس الأطفال على"المقاربة"التي ينتهجها أولياء الأمر في معالجة"وضع"طفلهم والتعامل مع"خربشته". وطريقة تنبيهه إلى فعلته، للمرة الأولى، تنطبع في نفسيته وتحدد وجهة اعتباره ل"الخربشة"، في مرحلة لاحقة. وپ"الخربشة"على جدران المنزل، غالباً ما تثير حفيظة الكبار الذين يعتبرونها وسخاً وفوضى وعملاً سيئاً يرتكبه الصغار. فإذا قارب الأهل صغيرهم بالتحبّب، متجاوزين سخطهم، كأن يسألوه عمّا يختبئ وراء رسمه"الجميل"، تجاوب معهم بسهولة. وقد يدور بينهم حديث مفيد، يستدرج الأهل الطفل، في نهايته إلى الوسيلة الصحيحة لممارسة شغفه. وتنصح بيشون بأن على المربّين أن يوجّهوا الصغار، عاجلاً أم آجلاً، إلى أن لكل نشاط وسيلة مناسبة، ما يسهم في صقل شخصيته وتهذيب تصرّفاته، والتزام حدوده. ولذلك، يجب تأمين اللوازم والعدّة الضرورية للصغير في سنّ مبكّرة، تفادياً"لأزمة الجدار". فرزمة ورق ولوح صغير وأقلام حبر خاص، على ما تقول المتخصصة ممازحة، أقل كلفة من أعمال التنظيف المترتّبة، ومحو آثار الأبناء بمعاودة الطلاء. أما إذا عولجت"الخربشة"بالسخط والتأنيب أو بالضرب أحياناً، في ما تشبّهه بيشون ب"استعراض القوة"، فقد يذهب الولد إلى حد اعتبارها لاحقاً وسيلة للتعبير عن ذاته ومواقفه أو التعمّد في إثارة غضب أولياء أمره، من أهل ومربّين. أي أنه من خلالها"يُثبت وجوده". وفي الأمر تشبيه لقصد الكبار، هذه المرة، من كتابة الشعارات على جدران المدينة وأماكن عامة أخرى، تبادلاً لرسائل أو تعبيراً عن مكبوتات. وبين السن الثامنة والخامسة عشرة، تتّخذ"الخربشة"أو الكتابة في غير محلّها، منحى مختلفاً وتكون الدوافع مختلفة أيضاً، أقلّها حدة التعبير عن الذات وأشدّها تعمّد الأذية. وأبرز الدوافع المعاناة الشخصية والصدمات النفسية، سواء بسبب الأهل والخلافات العائلية، أو المدرسة والخلافات مع الزملاء والأصدقاء، أو من شعور بالنقص، أو من توتّر عام في البلاد. فيلجأ الفتيان إلى الجدار للتعبير عن معاناتهم وكبتهم. ومنهم من يمعن في طاولات المدرسة وغيرها من أثاث، حفراً وتخريباً. وبعد سن الخامسة عشرة، تُعتبر"الخرطشة"هروباً ومتنفّساً. والكتابة في هذه المرحلة، تحدث غالباً في الخفاء والأماكن المنزوية، وتتنوّع أهدافها ومعانيها، على ما تشير بيشون. ومنها ما ينمّ عن بذاءة كالعبارات التي تُكتب في المراحيض العامة، وخصوصاً في المدارس والجامعات، وهي من قبيل التنفيس عن كبت جنسي وتهجّم على جهة سياسية أو على جماعة شاذّة... وهذه تصنّف أفعالاً جبانة، لا يقوى مرتبكها على المجاهرة بآرائه. وتنضمّ إلى هذه الفئة الشعارات السياسية والشعارات المضادة، التي تُعتبر رسائل يتبادلها أطراف متناحرون، تشير بيشون، أو لإثبات وجود"أبو الهول مرّ من هنا". شأنها شأن الشعارات المناهضة لاحتلال معادٍ أو ضد سلطة قمعية. إلاّ أنها تمارس في الخفاء بسبب الخطر على منفّذيها. المساجين أيضاً يعبّرون بهذه الطريقة للتنفيس عن مكبوتات دفينة تكون تكوّنت لديهم نتيجة الأسر أو شعوراً بآثامهم. ووسط هذه الكتابات تظهر أحياناً وفي شكل صارخ علامات حب جارف بين شاب وفتاة،"زوزو ورسم لقلب ثم فوفو"، تلفت بيشون، أو"طارق وليلى معاً إلى الأبد". وثمة عادة جديدة درجت على ترك عناوين البريد الإلكتروني لعاشق هوى، على غرار [email protected]. وأحياناً يفاجأ المارّة بجداريات ضخمة زاهية الألوان، تُعتبر أعمالاً فنية بامتياز، قد لا تكون من صنع فنانين ولكنّها تضفي مسحة جمالية في ناحية من نواحي المدينة.