يواصل مهرجان العالم العربي التاسع في مونتريال تألقه سنة بعد سنة، ليس كاحتفال موسمي اغترابي في كيبك والشمال الاميركي فحسب، انما في ديمومته وصيرورته واحداً من أبرز المنتديات العالمية، متميزاً بإطلالته الواعدة كجسر لحوار الثقافات بين الشرق والغرب، محاولاً ترميم ما انقطع من تواصل بينهما اثر التداعيات المأسوية التي خلّفتها أحداث 11 أيلول سبتمبر 2001 على العالمين الغربي والعربي واعادة الوجه المشرق لكل منهما عبر حوار هادئ هادف يضج بألوان راقية من الفنون والأدب والمسرح والسينما والتراث والفكر. في هذا السياق قطع المهرجان شوطاً بعيداً بفرادته وصدقيته واستطاع ان يحظى بجمهور كندي وعربي، تؤازره كبريات المؤسسات الكندية الاقتصادية والثقافية والاعلامية والخدماتية الرسمية والخاصة. ما ساهم بجذب شرائح كبيرة من المثقفين ورجال الأعمال والسياسيين وزعماء الاحزاب ورؤساء الحكومات والبلديات والنواب والوزراء الذين يتعاقب بعضهم على رئاسته الفخرية عاماً بعد عام. في الافتتاح الرسمي مساء أول من أمسلفعاليات المهرجان المستمرّ حتى 9 تشرين الثاني نوفمبر الجاري، أطلق جيرار ترامبلي رئيس بلدية مونتريال والرئيس الفخري للمهرجان هذا العام، سلسلة من المواقف الداعمة مادياً ومعنوياً ولوجستياً تجسدت في تخصيص موازنة مالية هي الأعلى قياساً الى السنوات الماضية. وقال ترامبلي إن"المهرجان يستحق الدعم والتأييد لما يقوم به من دور ريادي في رفد الحياة الكندية والكيبيكية بألوان راقية من الثقافة العربية والاسلامية". ولفت الى أن عنوان المهرجان لهذا العام"راوبط اندلسية"كان"موفقاً جداً في رمزيته وابعاده الثقافية، سيما أن بصمات الحضارة الاندلسية ما زالت قائمة في أدبيات وفنون وعلوم وفلسفة الغرب المعاصر". أما وزيرة الهجرة والمجموعات الاتنية في الحكومة الكيبيكية يولند جايمس، فقد أشادت بالجهود التنظيمية للمهرجان واعتبرته"تظاهرة فنية لا تقل شأناً عن مهرجان الجاز السنوي في مونتريال وغنى حضارياً يضفي على الموزاييك الثقافي الكندي لمسات من التجدد والابتكار والابداع". وأشارت الى ان الثقافة العربية آخذة في الاتساع شرقاً وغرباً لدرجة باتت اليوم"احدى المكونات الرئيسية في ثقافة العولمة بمعناها الانساني الشامل". أنشطة المهرجان يضج المهرجان بعشرات الأنشطة التي تتوزع على ثلاثة محاور. يأتي المحور الأول بعنوان"المدينة"وهو سوق للمعروضات التراثية الأندلسية والشرقية والاسلامية التي تحتل مساحة واسعة في قصر الفنون في مونتريال بمحاذاة شارع سانتا كاترين، العصب السياحي والتجاري للمدينة. وتقدم للزائرين استعراضات موسيقية وفولكلورية تؤديها مجموعة من الفرق الكندية والعربية والافريقية والاسبانية والأميركية في أجواء رومانسية حالمة تذكر بأمجاد الأندلس وفنونها الراقية. من أبرزها التزاوج الفني بين المقام العراقي والفلامنكو الاسباني الذي تحييه أوركسترا عراقية ومغربية وهولندية وهنغارية وكيبيكية مشتركة. المحور الثاني"السينما والمسرح"، ويشمل عروضاً تتوزع على معظم الصالات الفنية في مونتريال. وتتطرق موضوعاتها الى بعض المسائل الاجتماعية والاغترابية والوطنية التي تعالج بجرأة وموضوعية قضايا المرأة والنزعة الذكورية والعنف المنزلي والزواج المختلط والبطالة والتمييز العنصري ومشكلات الهجرة والاندماج واشكالية الهوية والانتماء، وصولاً الى قضايا الشرق الاوسط الساخنة المقاومة والاحتلال الاسرائيلي لفلسطين والأميركي للعراق وأفغانستان. ويستعين مهرجان العالم العربي علاوة على الممثلين الكنديين والأجانب، بمجموعة من الشباب العرب المقيمين في مونتريال ممن ينتجون أعمالاً مسرحية وسينمائية، لتشجيعهم واظهار مواهبهم أمام الجمهور الكندي. أما المحور الثالث فهو"صالون الثقافة"الذي يستقبل شخصيات مرموقة من النخب الثقافية والفكرية والإعلامية العربية والكندية والعالمية، بعدما عزز حضوره بانفتاحه على مؤسسات عالمية كمعهد العالم العربي في باريس ومنظمة ال"يونيسكو"ومنظمات المجتمع المدني في كيبيك. أما أهم المواضيع التي يتناولها"الصالون"فيمكن تلخيصها بالمحاور الآتية: قراءة عقلانية في مؤلفات ابن رشد وأضواء على سقوط الاندلس، وحوار عربي - يهودي - مسيحي حول الأديان والثقافات، ولقاءات بين مسؤولين كنديين أبرزهم رئيس الوزراء الكيبكي السابق برنارد لاندري وقيادات اسلامية حول اشكالية ما يسمى"الملاءمات العاقلة"، ومفهوم الجهاد والحجاب وموقع الاسلام بين التيارات الفكرية المعاصرة، وتعايش المسلمين في النظام العلماني الكندي. اضافة الى طاولة مستديرة يشترك فيها اساتذة جامعيون ومفكرون كنديون يناقشون مقولة التلاقح الفكري بين الغرب والشرق وفلسفة التصوف ومكانة ابن عربي الشيخ الأكبر ومدى تأثيرها على مجمل الحركات الصوفية العالمية ماضياً وحاضراً. ويلخص الكاتب الكيبكي جاك جدواب أجواء الصالون الثقافي بقوله:"نحاول ككنديين وعرب ومسلمين ويهود، ان نكرر تجربة الأندلس الحضارية في مونتريال، ونؤكد دورها تماماً كما كانت الأندلس حاضنة للثقافة والفكر والفنون والتعايش بين الأديان والأعراق".