تتوالى فصول الأزمة المالية الأميركية، والعالمية، وتضغط على الاقتصاد العالمي في أكثر من اتجاه. وليس صدفة أن يتحدث خبراء الاقتصاد على أزمة طويلة الأمد، وعميقة الجذور، ناهيك عن شعور القادة السياسيين بالخوف من تهديد الاستقرار الاجتماعي. الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي يعلن نهاية نظام السوق الحرة، أي فشل قاعدة تحرير الأسواق، وضمان تدفق رأس المال بحرية لتحقيق الاستقرار والمحافظة على النمو. الأميركيون غاضبون من خطة الإنقاذ، أو خطة وزير الخزانة هنري بولسن القائمة على ضخ 700 بليون دولار لإنقاذ القطاع المصرفي من الانهيار. واللافت أن هذا الرقم يعادل تكلفة الحرب الأميركية على العراق حتى الآن! 61 في المئة من الأميركيين مستاؤون من خطة بولسن، و50 في المئة يعترفون بخوفهم من الفشل، وخشيتهم مما يحمله المستقبل. وبينما تنتقل الفوضى المالية الى أوروبا، تدعو الدول الأربع الوازنة في مجموعة الدول الصناعية فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وألمانيا الى إعادة النظر في قواعد الرأسمالية المالية. بينما يشير الاقتصادي الياباني كينيشي أوماي في كتابه عالم بلا حدود الى ضرورة مراقبة الأزمة المالية الحالية من خلال: التصدي الإجمالي لجميع فروع الأزمة، وتتبع مسار الأحداث للتدخل في الوقت المناسب من جانب الدولة، وبناء استراتيجيا دولية تكون واقية من امتدادات الأزمة وتوسّعها... في روسيا، يعلن الرئيس ديمتري ميدفيديف انتهاء عهد هيمنة اقتصاد واحد وعملة واحدة على العالم، وإن عهد الهيمنة ولّى الى غير رجعة... هذا في الوقت الذي يقرّ البرلمان الروسي تخصيص ما يعادل عُشر الاحتياط من الذهب لمساعدة المصارف والمؤسسات المالية على مواجهة الأزمة... هذا نموذج من مواقف وتصريحات معلنة تلتقي جميعها على وجود أزمة مالية عالمية. صحيح أن تفاعلاتها بدأت في الولاياتالمتحدة منذ العام الماضي مع نشوء أزمة الرهن العقاري التي أثقلت الاقتصاد الأميركي، وتفاعلت خارج أميركا في الأسواق العالمية نتيجة واقع العولمة المالية والاقتصادية، وامتداد الشركات الكبرى المتعددة الجنسية في موجوداتها ونشاطاتها واستثماراتها الى خارج حدود الدولة الواحدة... أزمة نظام السوق الحرة، أو أزمة تحرير الأسواق المالية من التدخل الحكومي، صارت حقيقة واقعة. لم تعد الدولة شخصاً معنوياً منبوذاً، أو منزوياً في حدود ضيقة... ها هي تعود الى التدخل، نحن اليوم أمام عودة فكرة الدولة التدخلية وبقوة. مجلس الاحتياط الفيديرالي الأميركي يتدخل لإنقاذ المصارف المتعثرة، والبنوك المركزية الأوروبية تتدخل باتخاذ إجراءات مماثلة من خلال دعم الأسواق المالية والعملات، والبنك المركزي الأوروبي يسعى للمحافظة على انتظام تداول العملة الأوروبية الموحدة اليورو. الخطة الإنقاذية التي أقرّها الكونغرس تقضي بشراء الديون الرديئة للمؤسسات المالية الأميركية في العامين المقبلين. هذا تدخل مركزي حكومي. حسبنا هنا، تذكّر تدخلات حكومية سابقة في مرحلة انطلاقة الليبرالية الجديدة، أو ليبرالية حرية تدفق رأس المال، ونظام السوق الحرة: تدخلت المصارف المركزية لمواجهة الأزمة المالية في جنوب آسيا وشرقها عام 1997. وتدخلت الحكومة الفيديرالية الأميركية بعد ضرب مركز التجارة العالمي في نيويورك يوم 11 ايلول سبتمبر 2001، بضخ السيولة النقدية في الأسواق لإعادة التوازن المفقود. ولا تزال الدولة الليبرالية متدخلة في توفير الخدمات الاجتماعية في مجالات التعليم والصحة العامة وشبكات الأمان الاجتماعي، وحفظ الأمن الداخلي، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وصون النظام القضائي، والاستقرار النقدي. الدولة لم تنسحب من السوق، ولا من الأمن، ولا من السياسة الخارجية... كما سارع بعض الغاضبين على سياسات التأميم والتدخل، المأخوذة عن الفكر الاشتراكي. الدولة اليوم تتدخل وصولاً الى التأميم! الحكومة البريطانية تعلن تأميم مصرف برادفورد أن بينغلي، فيما تسيطر حكومات هولندا وبلجيكا ولوكسمبورغ على نحو 49 في المئة من بنك فورتيس لإنقاذه من الإفلاس، وكذلك أقدمت حكومة أيسلندا على السيطرة على مصرف غليتز. واليوم يتدخل مجلس الاحتياط الفيديرالي الأميركي ليدعم مجموعة سيتي المالية. والتدخلات مستمرة، وقد تزداد. هل عدنا الى الدولة التدخلية؟ نعم، وربما بأساليب جديدة ليست على غرار الكينزية التدخلية لمعالجة الأزمة الاقتصادية العالمية الكبرى في العام 1929. فكرة التدخل موجودة، أما أساليب التدخل، وحدود التدخل، فإنها متروكة لكل دولة بعيداً من منطق العولمة، وذلك تجنباً لمزيد من الخسائر. ستترك الأزمة المالية الراهنة، وهي بلا شك أزمة مالية عالمية كبرى، انعكاساتها السياسية. قد يفيد الحزب الديموقراطي الأميركي منها ويفوز في الانتخابات الرئاسية مع مرشحه باراك أوباما، في الوقت الذي يصوّب فيه الأميركيون سهام النقد القوي ? جمهوريون وديموقراطيون ? على سياسة الرئيس الأميركي جورج بوش، الذي تسلّم السلطة قبل ثماني سنوات، وكان الدين العام الأميركي بحدود خمسة تريليونات دولار. وسيغادر البيت الأبيض في مطلع العام المقبل والدين العام يتجاوز عشرة تريليونات دولار! الأميركيون يفقدون بعض وظائفهم، أكثر من خمسة ملايين وظيفة خسرها الأميركيون في العام الماضي بعد أزمة الرهن العقاري. ماذا سيفقدون اليوم مع تفاقم الأزمة المالية الكبرى؟ هذا ما تخوّف منه كبار السياسيين وعلماء الاقتصاد والاجتماع. الأزمة التي نتحدث عليها، ليست أزمة عابرة، ولا هي أزمة أميركية محدودة. إنها أزمة الليبرالية الجديدة التي انطلقت مع ريغان وثاتشر في ثمانينات القرن الماضي. قد تسارع الليبرالية الى ترميم نفسها، بيد أنها ستُسقط على الطريق ملايين الضحايا من الفقراء والمعدمين في الدول الصناعية وغيرها. أما دول الجنوب فإنها في موقع الضحية خلال هذه الأزمة وبعد معالجتها. * كاتب لبناني