لا شك في أن مهمات صعبة وعسيرة تنتظر الرئيس الأميركي القادم، وإدارته، في أميركا اللاتينية. ففي مطلع ولايته الرئاسية الأولى، أولى الرئيس جورج بوش أميركا اللاتينية، وخصوصاً المكسيك، الاولوية في سياسته الخارجية. وطوال نحو سبعة أشهر ونصف، لم يُخل بوش بالتزاماته في هذه المنطقة. ولكنه تراجع عنها، إثر هجمات الحادي عشر من أيلول سبتمبر. فانصرفت واشنطن الى مواجهة"القاعدة"بالعراق، وأدار بوش ظهره سبعة أعوام لأميركا اللاتينية. وتدنت شعبيته في المنطقة أكثر من أي رئيس أميركي سابق، على رغم أنه انتهج سياسة غير عدائية نبذت التدخل في شؤونها الداخلية. وتنتظر الرئيس الأميركي القادم أربعة تحديات في أميركا اللاتينية، هي: - تقرير سبل التعامل مع كوبا في مرحلة الحكم الانتقالية. - إصلاح سياسة الهجرة. وهي مسألة جوهرية في نظر عشرات الدول الأميركية اللاتينية. - وضع نهج التعامل مع التيارين اليساريين، أو"اليسارين"المعتدل والمتطرف في المنطقة. - التعامل مع احتمال إجهاض اتفاق التجارة الحرة الأميركي - الكولومبي، في حال لم يقر الكونغرس الاتفاق. وعلى الولاياتالمتحدة أن تدرك أن أميركا اللاتينية تمر في مرحلة تاريخية لم تشهدها من قبل. فعجلة النمو الاقتصادي تدور جيداً في هذه المنطقة من العالم، وتبلغ معدلات نمو عالية لم تسجل منذ السبعينات الى اليوم. وتميل الدول الأميركية اللاتينية الى ارساء مبادئ الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان، وتسعى في ردم هوة التفاوت الاجتماعي بين الفقراء والأثرياء، في وقت تتفاقم الانقسامات الداخلية، وتتأجج النزاعات الإقليمية. ولا يسع الولاياتالمتحدة التمسك بنهج سياستها الفائت، ويعود الى نحو نصف قرن، في التعامل مع كوبا. ولا يجوز أن تطلب الولاياتالمتحدة الى كوبا إنشاء نظام ديموقراطي متين بين ليلة وضحاها، وأن ترهن تطبيع العلاقات الديبلوماسية بينهما بالخطوة شبه المستحيلة هذه. ويميل معظم دول أميركا اللاتينية الى تأييد مبادرة واشنطن الى رفع العقوبات عن كوبا، والقيود على حركة سفر الكوبيين، من جانب واحد. وقد يحمل قلق واشنطن من تدفق موجات المهاجرين الكوبيين عبر مضيق فلوريدا في مرحلة الحكم الانتقالي على التزام حل"صيني"أو فيتنامي"، أي استئناف العلاقات الديبلوماسية والتبادل التجاري، وغض النظر عن المشكلات السياسية الداخلية الكوبية وإهمال حقوق الإنسان، لتفادي الأزمة. وشأن الخطوة إطاحة مساعي دول الجوار اللاتيني والاتحاد الأوروبي وكندا والولاياتالمتحدة إرساء نظام قضائي وحقوقي يرعى الإصلاحات الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان في أميركا اللاتينية. ولم تتوقف هذه المساعي في العقود القليلة الماضية. وتكللت بالنجاح، وأفضت الى وضع"شرعة الديموقراطية ما بين الأميركيين"، وإنشاء"لجنة حقوق الإنسان ما بين الدول الأميركية"، وإبرام معاهدات واتفاقات ترفع القيود عن التجارة بين دول أميركا اللاتينية والولاياتالمتحدة. وينبغي على واشنطن أن تمتنع عن تأييد تغريد كوبا خارج سرب دول أميركا اللاتينية وموازين قواها ومبادئها وقوانينها، وتقويض، تالياً، المبادئ الديموقراطية، والنفخ في تقاليد الحكم السلطوي. وحريّ بالإدارة الأميركية الآتية العدول عن سياسة عقيمة موروثة من حرب بادرة طويت صفحتها قبل نحو 20 عاماً، ومساعدة كوبا على الانضمام مجدداً الى"صندوق النقد الدولي"، و"البنك الدولي"، و"منظمة الدول الأميركية". ويرى الأميركيون أن سياسة هجرة بلدهم هي شأن داخلي لا تشمله المفاوضات الدولية، على رغم أن تراث هذا الضرب من المفاوضات الاميركية مع دول الجوار قديم. فالولاياتالمتحدة أبرمت اتفاقاً من هذا النوع في 1907، مع اليابان، واتفاق"براسيرو"مع المكسيك، ووقع في 1942، وبقي سارياً الى 1964. ولم تقطع واشنطن المفاوضة على ملف الهجرة مع نظام فيديل كاسترو منذ مطلع 1960 الى اليوم. ويحل عدد كبير من دول أميركا اللاتينية ملف قوانين الهجرة الى الولاياتالمتحدة مرتبة عالية في سياساتها. فالهجرة الى الولاياتالمتحدة والعمل فيها يؤمن عوائد كبيرة لهذه البلدان، ومنها المكسيك. ويبلغ حجم عوائد مهاجريها نحو 25 بليون دولار سنوياً، ودول الكاريبي، وكوبا، وجمهورية الدومينيكان، وهايتي، وجامايكا، ودول أميركا الوسطى، وصولاً الى دول جنوب أميركا. وأججت سياسات إدارة بوش وبناء بوابات عازلة على الحدود المكسيكية - الأميركية، وملاحقة العمال غير الشرعيين في مقرات عملهم ومنازلهم، وسجنهم وترحيلهم، مشاعر الأميركيين اللاتينيين المناوئة للولايات المتحدة. وتصب هذه المناوأة في مصلحة اليسار اللاتيني الأميركي"المعادي للإمبريالية"الأميركية. والحق أن ثمة"يسارين"في أميركا اللاتينية: الأول يؤيد اقتصاد السوق المعولم والإصلاحات الديموقراطية في البرازيل وتشيلي، وأوراغوي وفي أجزاء من أميركا الوسطى والبيرو، والثاني سلطوي وشعبوي ورجعي يناوئ الولاياتالمتحدة، في بوليفيا، وكوبا، والإكوادور، والسلفادور، والمكسيك، ونيكاراغوا، وفنزويلا، والارجنتين، وكولومبيا، والباراغوي. ويُقال أن جذور هذا الانقسام تاريخية، وأن اليسار الإصلاحي المعتدل ولد من رحم الثورات اللاتينية، واليسار المتطرف من الميول الشعبوية والقومية غير الثورية. وينتهج اليسار المعتدل طريق الحكم العادل والديموقراطي. والحق أن هذا اليسار أبصر النور في بلدان الهجرة فيها الى الولاياتالمتحدة ثانوية، في حين أن اليسار المتطرف أينع في بلدان الهجرة فيها حيوية، على غرار المكسيك ونيكاراغوا والسلفادور وبوليفيا والاكوادور. ولا ريب في ان الرئيس الأميركي القادم يواجه معضلة كبيرة في أميركا اللاتينية المتنازعة بين"يسارين". وحريّ به توطيد علاقات بلاده بهذه المنطقة من العالم، وتعزيز مكانة اليسار الحديث، وتقويض مكانة اليسار المتطرف الرجعي من دون الانزلاق الى التدخل في شؤون هذه الدول، على ما فعل الرؤساء الأميركيون السابقون من أمثال دوايت ايزنهاور وبيل كلينتون وغيرهما. وعلى الرئيس الأميركي الجديد المسارعة الى حل هذه المسائل. ويدور نزاع جيو-سياسي وعقائدي بأميركا اللاتينية يتحكم في مآل مسائل وثيقة الصلة بالمصالح الأميركية، أي النفط والسلاح والمخدرات والميليشيات. وقد يفضي هذا النزاع الى أزمة كبيرة توتر العلاقات الأميركية والأميركية ? اللاتينية. والحق أن ثمة تيارين في اليسار المعتدل الأول متردد وخجول، ولا يصدر نموذجه الى دول الجوار، ويتفادى المواجهة مع دول اليسار المتطرف، وخصوصاً مع الرئيس الفنزويلي، في حين أن الثاني يميل الى بسط نفوذه الجيو-سياسي غير العقائدي في دول الجوار، على ما تفعل البرازيل. وعلى خلاف اليسار المعتدل، انتهج اليسار المتطرف سياسة تصدير نموذجه الرجعي. وهو يدعو دول أميركا اللاتينية الى تحقيق حلم تشي غيفارا القديم، وإنشاء"3 فنزويلات"، أي 3 دول تحتذي النموذج الفنزويلي أو أكثر من طريق الوصول الى السلطة في الانتخابات، وإنشاء ميليشيات مسلحة، ومنع تداول السلطة. وتخشى دول اليسار المعتدل أن تضطر الى مواجهة دول اليسار المتطرف بمفردها، من دون دعم الولاياتالمتحدة. فيميل بعضها الى مهادنة فنزويلا، على ما فعل الرئيس المكيسكي، فيليبي كالديرون، والرئيس الكولومبي، ألفارو أوريبي. عن جورج كاستينييدا كبير الأساتذة في جامعة نيويورك، ووزير خارجية المكسيك بين 2000 و2003،"فورين أفيرز"الأميركية، 9-10/2008