جاء في هذا الحيز في ثلاث مناسبات سابقة 23 و24 و30 ايلول/ سبتمبر، كيف نشأت كارثة"الرهون العقارية"، وكيف تعرضت هذه الرهون ل"طفرة جينية خبيثة"بعد"خلطها"و"ترقيعها"و"إلصاقها"ثم اشتقاق أدوات مالية مستحدثة منها تسمى"المشتقات". وهذه"المشتقات Derivatives"بدورها أدت إلى"جلطات"متتابعة حرفياً"سدت"قنوات التداول ليس بين القطاع المالي وبقية القطاعات الاقتصادية فحسب وإنما أيضاً بين المنشآت المالية ذاتها. ومعني هذه العبارة أن البنوك كثيراً ما تقترض من بعضها لمدة ساعات تتراوح بين 12 و 24 ساعة في معظم الأحيان. فقد تكون لدى أحد البنوك مبالغ تزيد عن حاجته الآنية، ويكون هناك بنك أو بنوك أخرى في حاجة إلى توظيفها لمدة يوم واحد أو أقل قليلاً ونادراً ما تتجاوز فترة القرض 48 ساعة. ولما اتضح لكل منشأة في القطاع المصرفي أن ما لديها وما لدى غيرها من"مشتقات"بدأ يصعب تدريجاً تسييلها، خاف كل من الآخر أن يعجز عن الوفاء. تبخرت الثقة فتعذر التداول في ما بين البنوك ذاتها. إذاً لا بد من تدخل السلطات لإزالة"سدادات"قنوات التداول بتمكين"الخزانة"الأميركية من شرائها. غير أن أعضاء مجلس النواب الأميركي لم يقتنعوا في بادئ الأمر، لأن الناخبين لم يشعروا بعد أن الأزمة المالية في"وول ستريت"أثرت في حياتهم اليومية، إضافة إلى أن معظم الناس حانقون على أباطرة"وول ستريت"وعلى أجورهم ومكافآتهم الفردية التي تجاوزت عشرات ملايين الدولارات سنوياً للكثيرين منهم. ولكن بعد أيام شعر عامة الناس بتأثير الأزمة المالية في حياتهم الاقتصادية اليومية، فوافق الكونغرس بمجلسيه على"مشروع"الإنقاذ بغالبية نادراً ما ترافق الموافقة على أي"مشروع"آخر. وكيف أثرت أزمة"وول ستريت"في عامة الناس؟ بالدرجة الأولى لأن الناس في البلدان الصناعية وما بعد الصناعية لا يدفعون نقداً في تعاملاتهم اليومية. فقد يحتاج الفلاح - مثلاً - إلى شراء بذور أو آليات أو مبيدات لمحاصيل يبيعها بعد حين، ولذلك لا بد أن يقترض كلفة المزروعات آنياً ليدفعها بعد بيع المحاصيل. والمشكلة انه فجأة لم يجد من يقرضه. وكذلك بائع قطع غيار السيارات لم يجد من يقرضه ليشتري الآن ما يأمل ببيعه بعد حين. كل من يبيع شيئاً سواء على مستوى فردي أو مستوى الشركات الكبرى لا بد أن يقترض ثمن الشراء الآن ليبيع في المستقبل ومن ثم يتمكن من الوفاء بقرضه. وحتى المنشأة المالية التي أصدرت"بطاقات"ائتمانية لا بد أن تجد مصدراً تقترض منه لتدفع للمنشآت التجارية التي قبلت"البطاقة". وغالبية المستهلكين الغربيين واليابانيين يشترون مستلزماتهم المعمرة أي التي تدوم أكثر من سنة كالأفران والثلاجات والالكترونيات والسيارات وغيرها الكثير بالتقسيط. وهذا يعني أن عامة الناس من مستهلكين وبائعين لكل ما يباع ويشترى يحتاجون دائماً لمن يقرضهم. وخلاصة الموضوع أن"الشارع العام"كما يقال في أميركا اكتشف انه يتعذر عليه ممارسة حياته الاقتصادية اليومية بمعزل عن"الشارع المالي"الذي يصعب عليه فهم كُنهِه ولا يعرف عنه إلا أن من أداروا دفته تقاضوا الملايين على رغم أنهم مهندسو كارثة الرهون العقارية وما اشتق منها. والسؤال من أين ستأتي وزارة"الخزانة"بمبلغ 700 بليون دولار التي وافق الكونغرس على إنفاقها لشراء"المشتقات"التي سدت قنوات التداول في الأسواق المالية؟ والفضل يعود إلى الصديق سليمان الحربش لتأكيده على أهمية هذا السؤال. إن ما فعلته"الخزانة"ليس في هذه الحال فحسب، وإنما في كل الحالات التي يفوضها فيها الكونغرس أي المُشرّعْ، يتلخص بأن تصدر سندات تتعهد بدفع ما احتوته من مبالغ في المستقبل. والمستقبل قد يكون أشهراً أو سنوات تتراوح بين سنة واحدة وثلاثين سنة. ثم تبيع هذه السندات، بمجرد إصدارها، الى"البنك المركزي"أو ما يسمى"بنك الاحتياط الفيديرالي". و"البنك المركزي"بدوره يوفر"للخزانة"ثمن السندات نقداً لتمكينها من إصدار شيكات باسمها لدفع كل ما هي مفوضة بدفعه كشراء هذه"المشتقات"من المؤسسات المالية. وبمجرد أن يشتري"المركزي"السندات من الخزانة يضعها في قائمة مقتنياته ليبيعها في سوق المال، إذا دعت الظروف الاقتصادية العامة إلى خفض المستوى العام للسيولة، إذ إن بيع السندات يعني"سحب"جزء من السيولة من الأسواق ** وهناك خطوات"محاسبية"بحتة بين وزارة الخزانة وبين"المركزي"تم تجاوزها لتسهيل فهم من أين تأتي الخزانة بالدولارات المخولة باستخدامها هي ذاتها أو تلك المبالغ التي يعمد الكونغرس ومؤسسات حكومية أخرى الى إنفاقها. ولا بد من التأكيد على أن"غطاء"السندات التي تصدرها الخزانة بما فيها ال700 بليون دولار الأخيرة هي، في نهاية المطاف، الضرائب الفيديرالية المحصلة في المستقبل من المواطنين الأميركيين. وبالطبع ستضاف ال700 بليون إلى بقية"الدين الأميركي العام"الذي تجاوز آلاف البلايين التريليونات على أمل أن يفي دخل الحكومة، ولو تدريجاً، بتسديد الجزء الأكبر من"الدين العام"المتضخم عن طريق الضرائب على الجيل الحالي والأجيال القادمة. وهذا هو سبب مقاومة الكونغرس في بداية الأمر، أي الخشية من ارتفاع مستوى الضرائب في المستقبل للتقليل من الدين العام. ولا تملك الخزانة الحق في زيادة الضرائب، ولا يستطيع زيادتها إلا الكونغرس. غير أنه قد لا تترتب على ضخ 700 بليون دولار أي ضرائب إضافية في المستقبل، لأنها ستستخدم في شراء"مشتقات"قد تباع بعد سنوات من شرائها بقيمة أعلى من ال700 بليون التي تمت إضافتها إلى"الدين العام". ولذلك قد يتم تفادي تحميل المواطنين عبء الوفاء بها. أي تتحول من دين موقت إلى استثمار دائم في الاقتصاد الكلي. وهذا ما يرجحه وزير الخزانة ومحافظ البنك المركزي الاميركي. والله من وراء القصد. * أكاديمي سعودي ** "سندات الخزانة" هي أهم أدوات "المركزي" الأميركي لرفع أو خفض"المستوى العام"للسيولة. فإذا أراد خفض السيولة"يبيع"السندات"لمن يود الاستثمار في شرائها، أي انه بذلك"يسحب"جزءاً من المتوافر من السيولة. وإن أراد الزيادة يشتري السندات من المستثمرين ويدفع لهم نقداً"يصدره"المركزي، وبذلك يضخ مزيداً من السيولة في قنوات الاقتصاد الكلي.