لسنا ندري الى أي منطق استند الكاتب الفرنسي رومان رولان، حين كتب ذات يوم عن زميله السويسري جون نيتل قائلاً ان لهذا الكاتب"خامة كبار الكتّاب الروائيين في زمننا هذا". فالحال ان نيتل لم يحقق قدراً كبيراً من الشهرة، لا خلال حياته ولا بعد ذلك، حتى وإن كانت روايتان من نتاجه حققتا شهرة كبيرة وترجمتا الى عدد لا بأس به من اللغات. فاللافت لدى نيتل هو ان عمليه هذين، يبدوان أكثر شهرة منه بكثير، وغالباً ما تذكر كل واحدة منهما، من دون ذكر اسم الكاتب. بل إنك إذا سألت اليوم عن روايته الأشهر"تيريز ايتيان"ستجد كثراً يعرفونها ويحبونها، ويتحدثون عنها بل حتى عن الفيلم الذي حقق انطلاقاً منها عام 1958 نجاحاً، لكنك بالكاد ستجد من يتذكر اسم كاتبها، في مقابل كثر يتذكرون موضوعها وأنها من بطولة فرانسواز آرنول. ذلك ان جون نيتل ينتمي أصلاً الى ما يسمى في عالم الأدب والثقافة"اللامكان"، فهو سويسري كتب بالألمانية والإنكليزية، وقرئ في شكل خاص بالفرنسية التي تُرجمت إليها أعماله الرئيسة. ثم هو كتب عن مواضيع لا علاقة مباشرة لها بزمانه أو بمكانه، حيث نجد مثلاً، أن"تيريز ايتيان"تتحدث عن حكاية حصلت في آخر القرن التاسع عشر، أما روايته الشهيرة الكبيرة الثانية"ذهب النيل"فتروي أحداثاً جرت في مصر، خلال الربع الأول من القرن العشرين. طبعاً كتب جون نيتل روايات أخرى، لكنها جميعاً تدور في الأفقين البعيدين، زماناً ومكاناً، عن بيئته. غير ان هذا لا يمنع القول ان"تيريز ايتيان"حققت في أوروبا قدراً كبيراً من الشعبية، بل ساهمت في ما يشبه الثورة الاجتماعية الأخلاقية بموضوعها الذي كان يُعتبر، قبل ذلك، من قبيل المحظورات. غير ان عذر نيتل هنا، كان واضحاً: فهو لم يخترع الحكاية ونهايتها من زوايا مخيلته، بل اكتفى بأن يروي حادثة حقيقية عايشها الناس جميعاً في الناحية الألمانية من سويسرا. فعمّ تتحدث هذه الرواية، ولماذا كانت لها كل هذه الشعبية؟ تتسم رواية"تيريز ايتيان"ببعد سيكولوجي واضح، يجعلها شديدة القرب من بعض أعمال الإنكليزي توماس هاردي ولا سيما من روايته"تيسّ". بل انها تتشابه في أمور كثيرة مع رواية هاردي هذه. ويدور موضوع الرواية من حول الفتاة الحسناء تيريز ايتيان، التي يُحكم على ابيها بالسجن لأنه قاتل، فتحاول أول الأمر ان تدبر شؤون حياتها في البلدة الصغيرة السويسرية التي تعيش فيها، وهي معتقدة ان لا يمكن للبنت ان تؤخذ بجريرة جريمة يرتكبها أبوها وأن المجتمع لن يحاسبها إلا على ما اقترفته هي. وبما انها هي لم تقترف اية جريمة سيمكنها ان تعيش بهدوء وأمان. لكن الحال، في حقيقة الأمر، لم تكن كذلك، لأن الأمور لم تجر تبعاً لما تصورته تيريز، إذ ها هم السكان ينظرون إليها شذراً في كل حين. وها هم الجيران والأقارب يعاملونها كما لو انها كانت هي القاتلة. وإذ تتحمل هذا كله أول الأمر، تدرك في النهاية ان هذه الوضعية لا يمكن تحملها الى الأبد، وتقرر ان تبارح البلدة من دون رجعة. وهكذا، ذات يوم تخرج من بلدتها قاطعة وسط صعوبات شديدة، مرتفعات جبال الألب محتملة البرد والعواصف والجوع والخوف، حتى تصل في نهاية الأمر الى كانتون برن، حيث لن يعرفها أحد، ولن تُعامل بالتالي كمجرمة لأنها ابنة مجرم. وتستقر بها الأوضاع بالفعل لتشعر بالراحة التي لم تكن شعرت بها منذ زمن بعيد. بل ان حجم سعادتها يزيد حين تدبر شؤونها وتعمل وصيفة لدى المزارع الثري انطون مولّر. وبعد فترة، تنكشف شخصية مولر هذا الحقيقية، إنه ثري بالفعل ولا بأس بكرمه، لكنه متسلط يحب ان يضع الناس تحت رحمته وسلطته وأن يشعرهم بهذا في كل لحظة. وهو عجوز أكل الدهر عليه وشرب، لكنه مع هذا ذواقة في قضايا النساء. ومن هنا لا يكون غريباً ان يضع عينه على تيريز ايتيان الحسناء والتي يشعر ان من حقه جعلها عشيقته. غير ان تيريز، على رغم وضعها كله وعلى رغم غربتها ووحدتها ترفض كل عروضه، ليس لأنها ترفضه هو شخصياً، بل لأنها ترفض ان تكون عشيقته. فيفهم ان ثمة طريقة أخرى للوصول إليها: الزواج. وهكذا، يقترن الاثنان وتبدو سعادة تيريز في تقدم، حتى وإن كانت سن الزوج ضعف سنها. ولكن هنا ايضاً يكون القدر لها في المرصاد، إذ في يوم العرس نفسه تتعرف تيريز الى غوتفريد، ابن زوجها من زواج سابق له، فتلتهب شعلة الحب بين الصبية والفتى، ولا تعود قادرة بالتالي على البقاء مع انطون، حتى وإن كانت تشعر في أعماقها بالامتنان له. وتكون النتيجة ان تقتل تيريز انطون ذات يوم كي ترثه ويخلو لها الجو وتتزوج حبيبها، ابنه، بالتالي. وكان يمكن لهذا كله ان يجري على ذلك النحو، بخاصة أن جريمة القتل كانت تبدو من نوع الجرائم الكاملة والتي لا يعثر على القاتل فيها... غير ان هذا كله شيء، وضمير تيريز شيء آخر تماماً. إذ ها هي بعدما تمت لها الأمور كلها كما تريد، وبعدما بدا المستقبل أمامها مضيئاً واعداً، ها هي تنسى كل ظلم أنطون لها، وتنسى ان قتله كان من حقها، كما قررت ذات لحظة وهي تفكر في قتله، ها هي تنسى كل هذا وتقرر الآن ان عليها ان تكفّر عن جريمتها. وهكذا، تضع كل الثروة والحب والمستقبل الزاهر وراءها، وتعترف بما اقترفت وسط ذهول الجميع الذين يحومون من حولها وفي مقدمهم حبيبها غوتفريد. ويُحكم عليها بالسجن الذي ستبقى فيه عشرين سنة، تخرج بعدها وقد تطهرت من اثمها وأحست انها وفت للمجتمع ولأنطون بدينهما عليها. خرجت لتحس للمرة الأولى في حياتها، ربما، بطعم السعادة الحقيقية. فالآن فقط، بعدما تساوت في الجريمة مع أبيها، وبعدما دفعت الثمن. وبعدما باتت غير محقة في ان تعتبر نفسها مظلومة إذ ينظر إليها الآخرون على انها مجرمة، الآن فقط صار في وسعها ان تعيش حياتها وأن تبحث لهذه الحياة عن مستقبل ما. وعلى هذا تنتهي الرواية: على تيريز ايتيان وقد حصلت على حريتها الحقيقية بعدما عاشت دائماً في وهم الحرية أو في خوف منها أو في بحث عنها. لقد كان من نصيب هذه الرواية منذ نشرت في الألمانية للمرة الأولى عام 1927، ان نالت في الوقت نفسه اعجاب النقاد والقراء سواء بسواء، ذلك ان التكثيف الدرامي فيها بحسب النقاد الكثر الذين تحدثوا عنها ? مضافاً الى رهافتها السيكولوجية المتعمقة، حقاً، في تحليل شخصية بطلتها الشابة، في كل مرحلة من مراحل وجودها وتفكيرها، كان، هذا التكثيف مبرراً تماماً للنجاح الذي حققته. ولا شك ان هذا التكثيف كان هو في فكر رومان رولان حين تحدث عن زميله جون نيتل بالطريقة التي أشرنا إليها اول هذا الكلام. لكن"تيريز ايتيان"لم تكن، كما قلنا، رواية جون نيتل 1891 - 1970 الوحيدة التي حققت نجاحاً كبيراً، إذ علينا ألا ننسى هنا روايته الشهيرة الأخرى"ذهب النيل"التي تحكي في فصولها حكاية اللورد الإنكليزي كارنافون ورفاقه من منقبي الآثار الذين اشتغلوا سنوات وسنوات في صعيد مصر، واكتشفوا العديد من القبور والتماثيل والآثار الفرعونية وحلت بهم"لعنة الفراعنة"إذ هنا ايضاً بنى نيتل، على حادثة تاريخية حقيقية، عملاً سيكولوجياً روائياً من طراز مميز. ولقد نشر جون نيتل خلال نحو أربعة عقود هي حقبة مساره الأدبي، كتباً عديدة، بعضها تجاوز في أهميته، أهمية الروايتين اللتين تحدثنا عنهما هنا، لكن اياً منها لم تتجاوز شهرته شهرتهما. ومن أعمال نيتل الأخرى"رحلات آرون ويست"1919، وپ"مسافر في الليل"1924 وپ"نحو الهاوية"1927 وپ"أهل منتصف الليل"وپ"دكتور ابراهيم"وپ"جان ميشيل"وروايته الأخيرة"آرييتا"1957. [email protected]