سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
بعد ثلث قرن من "بدم بارد" لريتشارد بروكس السينما تعود الى ترومان كابوتي وكتابه المثير . كيف تحولت جريمة حدثت في أعماق كانساس الى فصل من حياة كاتب نيويوركي
"في نهاية الأمر وصلت الى الاستنتاج بأن الموت هو العنصر المركزي في الحياة. والحقيقة ان هذا الاكتشاف البسيط كفيل بأن يحدث تبديلاً جذرياً في منظورك الى كل شيء... ان هذه التجربة خدمت في تعزيز شعوري بالسمة الفجائعية للحياة، هذه السمة التي هجست بها دائماً..."، بهذه الكلمات تقريباً وصف الكاتب الأميركي ترومان كابوتي، في حديث أدلى به ذات يوم الى مجلة"بلاي بوي"، مشاعره تجاه واحدة من أكثر تجارب حياته خصوبة ودقة: تجربة معايشته الموت والجريمة من خلال ارتباطه بمجرمي تكساس بيري سميث وديك هايكوك، حين توجه مبعوثاً من مجلة"نيويوركر"ليكتب تحقيقاً طويلاً حول الجريمة المروعة التي ارتكباها. ونعرف ان هذا التحقيق تحول كتاباً عنوانه"بدم بارد". العنوان يصف، من ناحية مبدئية، كيف ارتكب القاتلان جرائمهما المتعددة والتي راحت ضحيتها عائلة كلاتر المزارعة وسط أعماق ولاية كانساس. لكن العنوان يصف ايضاً، من ناحية خفية، كيف حوكم المجرمان وأعدما. ويكاد يصف - الى ذلك - مشاعر الكاتب وهو يدون مئات الصفحات حول الموضوع. حول الموضوع؟ بالأحرى حول افتتانه بالموضوع وبالمجرمين تحديداً، وحول اشتغاله على نحو 800 صفحة وحول لقاءاته اليومية تقريباً بسميث وهايكوك في زنزانتيهما بعد اعتقالهما. في النتيجة تحول التحقيق الى"رواية غير روائية"، ليصبح الكاتب هو"البطل"، وليصبح"بدم بارد"واحداً من أشهر الكتب في زمنه. ولأن كل كتاب شهير وغني من شأنه ان يتحول فيلماً في زمننا هذا، حول ريتشارد بروكس"بدم بارد"الى فيلم بالأسود والأبيض أثار ضجيجاً كبيراً في حينه 1967. ولكن مع مرور الزمن كان من الواضح ان فيلم"بدم بارد"لم يكن كافياً لإعطاء الكتاب والتجربة والكاتب حقهم، فكانت النتيجة بعد ثلث قرن وأكثر ان كان هناك، ليس فيلماً واحداً بل فيلمان عن الموضوع، صورا وعرضا خلال فترة متقاربة، يجمع بينهما قاسم مشترك رئيس، هو أن البطولة فيهما ليست للجريمة والمجرمين، ولا لقطار العدالة، ولا للحياة التي كانت هادئة وخفية لأسرة الضحايا، بل للكاتب نفسه. لتحوله من شاهد يكتب، الى شخصية فاعلة في العمل. من ذات الى موضوع. أول الفيلمين عرض قبل سنتين تقريباً وكان عنوانه"كابوتي"والثاني عرض العام الفائت في الولاياتالمتحدة ويعرض منذ فترة في بقية أنحاء العالم وعنوانه"سيئ السمعة". وسيئ السمعة هذا هو في الفيلم كابوتي نفسه، ما يجعل الفيلمين يبدوان وكأن كلاً منهما نسخ عن الآخر خصوصاً أنه إذا كانا معاً يتحدثان عن فترة من حياة الكاتب الشهير، فإن الفيلمين اختارا الحديث عن الفترة نفسها. عن الموضوع نفسه. وبالتحديد: عن افتتان الكاتب بالجريمة والمجرمين. وهو أمر كان غائباً تقريباً عن فيلم ريتشارد بروكس الذي اكتفى بتصوير كتاب كابوتي، من دون أن يطل كثيراً على خلفيات ما عاشه الكاتب فيما كان يجمع مادة كتابه ويكتبه وأكثر من هذا: يعيش تلك التجربة التي قد يصعب على المراقب من بعيد أن يدرك جوهرها. من الصراحة الى"الوقاحة" إذاً لدينا الآن فيلمين يرويان خلفية"بدم بارد"من وجهة نظر الكاتب الذي وضع الكتاب. الفيلم الأول حصّل لممثل الشخصية الرئيسة - ترومان - وهو فيليب سيمور هوفمان - أوسكار أفضل ممثل في أوسكارات السنة الفائتة. أما الفيلم الثاني، وهو الأحدث، فإنه لم ينل رضى النقاد ولا الجمهور العريض. وليس فقط لأن"كابوتي"سبقه وحكى الحكاية، بل كذلك لأن"كابوتي"- وهو الفيلم الأول لمخرجه بينيت ميلر، وهو في الأصل كاتب سيناريو، أتى أكثر حميمية والتصاقاً بالشخصية التي يحكي حكايتها، فيما أتى الفيلم الثاني أقل إقناعاً وإن كان بدا أكثر"صراحة"في رسم صورة جنسية لافتتان الكاتب بواحد من المجرمين على الأقل. والحقيقة ان ترومان كابوتي، لم يخف أبداً ذلك الافتتان، حتى وإن كان لم يُعزَ اليه أبداً التعاطف الذي يبديه في كتابه مع مرتكبي الجريمة. التعاطف الذي كان في خلفية ما سمي خلال ستينات القرن العشرين"فضيحة بدم بارد". فيلم"كابوتي"2005 يبدأ بالمجزرة واكتشاف جثث أفراد عائلة كلاتر لينتقل بعد ذلك الى نيويورك حيث يطالعنا الكاتب المعروف ترومان كابوتي وهو يقرأ الخبر في صحيفة"التايمز"ومن فوره يتصل برئيس تحرير مجلة"نيويوركر"الليبرالية ذات النزعة الثقافية ليخبره انه سيشتغل بنفسه على الموضوع بغية كتابة تحقيق صحافي طويل. ومن ثم يصطحب صديقته هاربر لي ويتوجهان الى كانساس. ومن هنا تبدأ الحكاية، إذ نعرف أن كابوتي اشتغل على الموضوع قبل معرفة المجرمين واعتقالهما. فيلم"سيئ السمعة"يبدأ قبل ذلك بفترة يسيرة. ويبدأ مع كابوتي راصداً حياته الصاخبة كمثقف نيويوركي، ومن خلال هذه الحياة، أجواء نيويورك نفسها في ذلك الحين. ومن هنا حين يدخل موضوع الجريمة لاحقاً، يدخل على حياة الكاتب على عكس ما يحدث في الفيلم الآخر"كابوتي"، حيث يبدو الكاتب وكأنه هو الذي دخل على حياة الجريمة. من ناحية منطقية قد لا يبدو هذا التفصيل مهماً جداً، لكنه يشكل على أي حال فارقاً أساسياً كان يمكنه ان يلعب لمصلحة الفيلم الثاني الذي أخرجه سينمائي معروف هو دوغلاس ماكغراث الذي كان حقق غير فيلم، كما عرف بتعاونه مع وودي آلن في كتابة واحد من أفضل أفلام هذا الأخير النيويوركية وهو"رصاصات في برودواي". لكن المشكلة كمنت في أن ماكغراث، إذ أراد التوسع من حديث الجريمة الى حديث كابوتي، شعّب الأحداث والشخصيات في شكل رسم من ناحية خلفية جيدة لحياة الكاتب مفسراً افتتانه اللاحق بالمجرمين، لكنه من ناحية ثانية عقّد موضوعه بحيث صارت الجريمة المروعة وكأنها عنصر تفصيلي همه المساعدة على رسم صورة للكاتب وشغفه وانحرافه. صارت الجريمة تفصيلاً وهذا البعد افقد الفيلم جزءاً اساسياً من قوته معطياً فيلم بينيت ميلر تفوقاً إذ تمكن من إقامة التوازن بين العناصر الأساس الثلاثة: الجريمة، المجرمين، والكاتب الذي يدخل الى الموضوع ببراءة المحقق لينتهي وقد أحس وكأن الموضوع كله كان"ورطة"حياته، وسرّها والتبرير اللاحق لوجوده في الوقت نفسه. تكامل ما... فهل يمكننا انطلاقاً من هنا، مثلاً، أن ننظر الى"كابوتي"وپ"سيئ السمعة"على اعتبارهما فيلمين متكاملين، يقدم كل منهما جانباً خاصاً من الحكاية؟ كان الرد إيجاباً ممكناً لولا أن جزءاً أساسياً من"سيئ السمعة"يعيد - وحرفياً تقريباً - تصوير أحداث وردت بتفاصيلها في"كابوتي". من هنا قد يكون أجدى أن نقول ان كلاً من هذين الفيلمين يبدو متكاملاً، على طريقته، مع فيلم"بدم بارد"الذي سبقت الإشارة اليه. وبالتالي قد يكون ممتعاً، وپ"مفيداً"للمرء أن يقوم بالتمرين التالي: يشتري نسخة من فيلم ريتشار بروكس ليشاهد، في تفصيل تشويقي وسرد كلاسيكي - بقدر ما يمكن لنص روائي/ وثائقي كتبه ترومان كابوتي ان يوصف بالكلاسيكية -، كيف حدثت الجريمة ولماذا حدثت الجريمة... ثم كيف كان في مستطاع الذهنية الأميركية أن"تقبل"في الستينات تلميحات - هي ليست في"بدم بارد"أكثر من تلميحات - عن افتتان ما، للصحافي الذي يحقق في الجريمة لحساب صحيفته ويحمل في فيلم بروكس اسم بيل جنسن. وبعد هذا يتحول هذا المرء الى مشاهدة"كابوتي"أولاً، ثم"سيئ السمعة"بعد ذلك. وفي الحالين سيكون لديه وجهان للميدالية: صورة الجريمة ووصف الكاتب لها، من ناحية، وصورة معايشة الكاتب نفسه لما يكتب عنه، من ناحية ثانية. في يقيننا ان المرء إن فعل هذا وأنفق ساعات على هذا المشروع، قد يجد نفسه أمام حصة من المتعة الخالصة، حتى وإن أحس بضعف"سيئ السمعة"مقارنة ب"كابوتي"، حتى وإن اكتشف مقدار البراءة الذهنية في"بدم بارد"مقارنة بالكشف"الفضائحي"أو"الجريء"في الفيلمين المعاصرين لنا. بل قد يجد المرء نفسه أمام درس في"الأدب"من ناحية، درس في كيف ذهب كاتب مقدام الى موضوعه لينجز نصاً صحافياً، وعاد مع كتاب أقل ما يمكن أن يقال عنه انه"أعاد اختراع فن الرواية"من جديد، حتى وإن كنا نعرف ان كابوتي لم يكن هو من اخترع الرواية التحقيقية، الرواية اللاروائية... بل هو يأتي في هذا وريثاً لسلسلة طويلة عريضة من كتاب ربما كان إميل زولا - على الأقل في"بطن باريس"- جدهم الأكبر. أهمية كتاب كابوتي وابتكاره يكمن في توقفه الأساسي عند تورط الشاهد، الذي هو الكاتب وتحوله جزءاً من الحكاية في"بدم بارد" ثم الجزء الأساس منها في الفيلمين اللذين نحن في صددهما. وإذا كنا نتحدث عن"درس في الأدب"، فإنه حريٌّ بنا، أيضاً، أن نتحدث عن درس في السينما. درس ينبع من تساؤل: كيف يمكن فيلمين ان يحققا حول الموضوع نفسه والشخصيات نفسها وفي فترة متقاربة من الزمن ان يوجدا؟ نعرف ان هذا الأمر يحدث بين الحين والآخر. أحياناً لأسباب تنافسية، وأحياناً من غير قصد، ولقد أطنبت الصحافة في الحديث، لمناسبة ظهور"سيئ السمعة"عن مثل هذه"المصادفات". من هنا فإن الدرس السينمائي الذي نعنيه هنا موضوعه نظرة صانعي الفيلم الذاتية الى الموضوع الذي يتناولونه في فيلمهم. نظرة ذاتية هي من سمات الأعمال الفنية الجادة... وهي التي تعطي العمل أهميته القصوى، حتى وإن كانت المقارنة بينه وبين أعمال أخرى لا تكون لمصلحته كما الحال حين نقارن بين"كابوتي"وپ"سيئ السمعة". إذ هنا، في مثل هذه الحالات، لا يعود الأمر متعلقاً بماذا نقول في هذا العمل أو ذاك، بل بپ"كيف"نقول ما نقول. وهذا البعد إذ يرتبط تماماً بنظرتنا اليوم الى هذين الفيلمين المأخوذين عن فصل معروف من حياة كاتب شهير، وكذلك بنظرتنا الى الفيلم الثالث الذي يجب ألا ينسى أبداً في هذه المناسبة ونعني به"بدم بارد"لريتشارد بروكس، يذكرنا دائماً بأن الفن، حتى ولو كان فناً وثائقياً يحاول أن ينظر الى العالم ومواضيعه نظرة موضوعية، إنما ينتمي دائماً وفي النهاية الى لغة الذات. ترومان كابوتي ربما كان ترومان كابوتي الأشهر والأكثر حيوية بين الكتّاب الأميركيين الذين لمعوا خلال النصف الثاني من القرن العشرين. وابن الجنوب هذا، مواطن تنيسي ويليامز، برز بخاصة في نيويورك، التي كان أحد أعمدة الحياة الأدبية والصحافية ثم الاجتماعية فيها. واذا كان كابوتي بدأ الكتابة الصحافية والأدبية باكراً فإنه لم يحظ بإرهاصات الشهرة العالمية إلا في سنوات الستين حين حقق بلاك ادواردز، من بطولة أودري هيبورن وجورج بيبارد فيلمه"افطار عند تيفاني"اقتباساً من رواية لكابوتي. ومنذ تلك اللحظة صار أدب كابوتي أدباً شعبياً بعدما كان أدباً نخبوياً. واكتشف القراء فيه كاتباً لئيماً صريحاً، لا يتوانى لحظة عن تسمية الأشياء بأسمائها. ثم لاحقاً حين كتب"بدم بارد"على شكل تحقيق صحافي سرعان ما تحول الى كتاب روائي - غير روائي، بحسب تعبيره نفسه، ربط اسم كابوتي بحداثة أدبية واجتماعية معينة ما شجعه أكثر وأكثر على ربط الأدب بالصحافة، ولا سيما من خلال نصوص راح يكتبها لمجلة"نيويوركر"متحدثاً فيها حيناً عن مدينة مراكش التي زارها كثيراً وعاش فيها ردحاً من الزمن على خطى تنيسي ويليامز وجيل"البيت"ما ربط اسم كابوتي بأعلام هذا الجيل من جاك كيرواك الى ويليام بوروز، وحيناً عن مارلين مونرو أو مارلون براندو أو شابلن أو هوليوود، أو شؤون اجتماعية أخرى. ولقد بدت هذه الكتابات احياناً أكثر شهرة من بقية رواياته مثل"أصوات بعيدة"وپ"صلوات مستجابة". وإضافة الى هذا كله عرف ترومان كابوتي باستفزازيته المطلقة، التي أبعدت عنه أقرب أصدقائه، وبالتالي بلسانه السليط الذي لم يكن ليوفر أحداً... حيث كان نورمان ميلر وغوت فونيغوت وغور فيدال، وغيرهم من الأدباء المجايلين له، أبرز ضحاياه، ومنذ رحل كابوتي عن عالمنا في سنة 1984 عن عمر لا يزيد عن الستين، كان تحقيق فيلم عنه أو عن حكاية كتابته"بدم بارد"حلماً راود عشرات المخرجين حتى كانت الأعوام الأخيرة حين حقق اثنان من المخرجين الشبان نسبياً، هذا الحلم.