المسألة ليست تغييراً عند الأردن أو عند"حماس"، بل قراءة دقيقة وواعية للتغييرات التي تشهدها المنطقة وتدفع الأطراف كلها للبحث عما يقوي وضعها ويحقق مصالحها، لهذا فالمسألة لا يمكن أن تختزل في من تغير ومن بادر إلى هذه الخطوة، بل ينبغي أن نقرأ الأمور من جميع الزوايا التي تفيد بأن تطورات تشهدها المنطقة تستدعي تعامل الأطراف معها بمرونة وحكمة". الكلام السابق لعضو المكتب السياسي لپ"حماس"محمد نزال موضحاً خلفيات التقارب الأخير والحوارات في عمان بين"حماس"والحكومة الأردنية، وجاء التقارب بحسب نزال، نتيجة مبادرة لدائرة الاستخبارات الأردنية"لقيت تجاوباً سريعاً وفورياً من طرفنا، ولأكون أكثر دقة يمكن القول إن الرغبة كانت موجودة عند الطرفين". مقاربة السيد نزال لخلفيات التقارب صحيحة غير أن عبارة أن الرغبة كانت موجودة عند الطرفين ليست دقيقة تماماً، فالرغبة كانت عند"حماس"طوال الوقت فيما لم تتكرس لدى الجانب الأردني الا خلال الشهور الأخيرة، تحديداً الشهور الستة الأولى من عام 2008. وبتفصيل أكثر يمكن القول إن الأردن استنتج من تطورات الأعوام الماضية أن المشروع الأميركي في المنطقة إلى تراجع، ما يرتد سلباً على ما يوصف بمحور المعتدلين العرب الذي يمثل الأردن ركناً أساسياً فيه، مقابل هذا التراجع ثمة تقدم للمحور المقابل أي الإيراني - السوري، الذي تدرج قراءات خاطئة"حماس"ضمنه فهي في الحقيقة متحالفة معه وليست عضواً أصيلاً فيه. ببراغماتية شديدة فكر الأردن في مد الخيوط أو استعادة التقارب مع المحور المتقدم ولم يجد اقرب وانسب من"حماس"كقناة لجس النبض والتواصل، نتيجة لعوامل أهمها العلاقة الوطيدة التي استمرت لأكثر من عقد مع"حماس"قبل ان يتم إبعاد قادتها، ما أدى الى قطيعة استمرت قرابة العقد أيضاً، وهناك عامل التطورات الجديدة في العلاقات الفلسطينية - الإسرائيلية والعلاقات الفلسطينية - الفلسطينية. بالنسبة الى البعد الأول، أي الفلسطيني - الإسرائيلي، يتابع الأردن عن قرب تعثر عملية التسوية واستحالة التوصل إلى اتفاق جدي قابل للحياة بنهاية هذا العام، كما يراقب التطورات السياسية داخل إسرائيل - والانتخابات الأميركية - التي ستؤجل المفاوضات إلى الربيع المقبل. وقرأ الأردن اتفاق التهدئة الأخير في قطاع غزة باعتباره شكلاً من أشكال الاعتراف الإسرائيلي بپ"حماس"ودورها وثقلها -موسى أبو مرزوق اقر صراحة بهذا الاستنتاج ذات مرة - وإذا كانت إسرائيل فاوضت أو حاورت وما زالت تحاور"حماس"في شكل غير مباشر، فلماذا لا يفعل الأردن الشيء نفسه وهو الأقرب وربما الأكثر تضرراً من السياسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين سواء في غزة أو في الضفة. أما في ما يخص البعد الفلسطيني - الفلسطيني يراقب الأردن عن كثب الأوضاع المتردية داخل حركة فتح والخلافات العميقة التي تمنع عقد مؤتمرها العام السادس الذي بات بمثابة خشبة الخلاص للحركة، وتعقد في عمان الاجتماعات التحضيرية للمؤتمر الذي يبدو ان من الصعوبة عقده في المدى المنظور بمعجزة - فيما تسيطر حركة حماس في غزة بتجاوز الدستور والقانون- وهذا الأمر مرشح للانتقال إلى الضفة الغربية في حال فشل المفاوضات حول تمديد ولاية الرئيس محمود عباس واتجاه الوضع الى انهيار السلطة الفلسطينية وربما تكرار أو استنساخ نموذج غزة ولكن في الضفة هذه المرة... يبدو ان الأردن قرأ الوقائع، فإذا كانت"حماس"تحولت إلى رقم مركزي على الساحة الفلسطينية ربما يصعب تجاوزه سلماً أو حرباً، يبدو منطقياً ان يحتفظ الأردن الذي تعتبر القضية الفلسطينية قضية داخلية بالنسبة اليه، بحسب تعبير محمد نزال، بقناة حوار مفتوحة مع حماس لفهم توجهاتها وحتى التأثير فيها. ويمكن الاستنتاج ان ثمة قلقاً أو على الأقل عدم ارتياح من تزايد التأثير المصري فلسطينياً، فمصر تشرف على حوارات المصالحة الفلسطينية وتتوسط بين"حماس"وإسرائيل في ما يخص التهدئة ورفع الحصار وفتح المعابر أو صفقة تبادل الأسرى، ناهيك عن القلق من الاقتراح المصري بإرسال قوات عربية إلى غزة ما قد يؤدي في النهاية الى عودة الوصاية وإلقاء كرة النار الفلسطينية الملتهبة إلى الحضن العربي، غزة إلى مصر والضفة إلى الأردن. المعادلة نفسها تطرح هنا أيضاً: إذا كانت مصر تتحدث مع"فتح"وپ"حماس"واسرائيل أيضاً فلماذا لا يفعل الأردن الشيء نفسه وأيضاً على القاعدة الدائمة والاستراتيجية رفض فكرة الوطن البديل والإصرار على خيار الدولة الفلسطينية المستقلة مع حل عادل لمشكلة اللاجئين، وليس من قبيل الصدفة ان تصبح المفاهيم السابقة بمثابة اللازمة في تصريحات خالد مشعل رئيس المكتب السياسي للحركة ومواقفه في الفترة الأخيرة. "حماس"من جهتها تملك الرغبة نفسها، أي التقارب مع الأردن، لكن بمعطيات أو حيثيات مختلفة. وللحقيقة فإن"حماس"وطوال العقد الماضي حاولت فتح الحوار واستئناف العلاقة مع الأردن، فهي تجد نفسها تاريخياً وعاطفياً وفكرياً اقرب إلى محور مصر - السعودية - الأردن من محور سورية - إيران الذي تتحالف معه من دون أن تكون عضواً أصيلاً فيه. وفي ظل العلاقة الجيدة مع السعودية والعلاقة المتوترة مع مصر - يشكو قادة"حماس"من تعالي مصر عليهم - تبحث"حماس"عن تقارب علني وجدي مع الأردن يحدث نوعاً من التوازن تجاه علاقتها مع سورية وإيران، وفي الوقت نفسه وفي شكل غير مباشر للضغط على مصر لتغيير أو تحسين علاقتها مع حماس نحو مقاربة اكثر توازنا تجاه الملف الداخلي الفلسطيني. الى ذلك تعمل"حماس"في شكل دائم على كسر العزلة المفروضة عليها، وترحب في شكل عام بأي علاقة أو قناة حوار مع أي دولة أو جهة رسمية أو غير رسمية تبدي نية لذلك، فما بالك إذا كانت هذه الجهة الأردن الدولة الأقرب جغرافياً لفلسطين والتي عاشت على تماس تام مع قضيتها لقرن من الزمان تقريباً. تتصرف"حماس"على قاعدة أنها ستمسك في المستقبل بمفاصل المشروع الوطني الفلسطيني، بما في ذلك منظمة التحرير، وتعتقد انها الجهة الأقوى والأكثر تنظيماً وتسعى في السياق الى طمأنة الدول العربية إلى أنها ستتصرف بمسؤولية ولن تسعى إلى إزعاج أي دولة أو التدخل في شؤونها الداخلية، بمعنى أن شبه الفيتو العربي تجاه سيطرة"حماس"على المنظمة غير صائب وأن حصول هذا الأمر لن يؤدي بالضرورة إلى انقلاب كامل في العلاقات العربية - الفلسطينية أو إلى انحياز الفلسطينيين إلى طرف عربي ضد طرف عربي آخر. لم تخف"حماس"يوماً رغبتها في الحوار مع الولاياتالمتحدة وأوروبا أي دولة أو جهة عدا إسرائيل، وبحسب الخطاب"الحمساوي"الدارج يمكن الاستنتاج أنها تتمنى ان يؤدي حوارها مع الأردن في نهاية المطاف إلى تشجيع أطراف أخرى على الحوار المباشر معها. المعطيات السابقة تبقى ذات طابع تكتيكي ومرحلي، وستواجه يوماً ما الرؤى الاستراتيجية الخاصة بما ينبغي عمله لحل الصراع في فلسطين وكيفية الرد على الموقف الإسرائيلي الرافض تقديم الحد الأدنى المقبول فلسطينياً والذي وافقت عليه حماس: دولة بحدود حزيران يونيو 1967 مع حل عادل لقضية اللاجئين وعندها ستتضح عودة الأردن الى الدور المركزي في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، ليس باتجاه الخيار الأردني حصراً، وإنما باتجاه خيارات أخرى أهمها الكونفيديرالية الفلسطينية ?الأردنية. * كاتب فلسطيني. مدير مركز شرق المتوسط للدراسات والإعلام.