أعرفها منذ مطلع التسعينات، لم أعد أذكر العام تماماً، أهو 1992 أم 1994؟ لست أدري. ما أدريه أنني وقعت على شاعرة منذ أول لقاء، منذ أول تعارف، منذ أول جملة في كتاب الصداقة المفتوح من يومها وحتى إشعار آخر، أزعم أنه إشعار الموت لا سواه، بل وأكاد أقول إن الشعراء الحقيقيين يستمرون في الصداقة الى ما بعد الموت، الى حيوات يخترعونها بقصائدهم وعوالم يؤلفونها على هواهم. بيني وبينها"حبر وملح"وأحاديث كثيرة، بدأت ذاك اللقاء الأول ولم تنتهِ بعد، يومها كانت قد أصدرت كتابها الشعري الأول"آخر الحالمين كان"أو ربما الثاني"تغيب فأسرج خيل ظنوني"، ذهبت اليها في مكتبها في جريدة"القبس"الكويتية حيث لا تزال ثابتة ومن حولها عالم متحول ومهنة لا ترسو على برّ أمان،"وكم أدهشتني وهي تقول الهواجس التي نحملها في بيروت، وكم أدهشتني أيضاً وأنا أستمع اليها في الأمسية صوتاً يخفي خلف نعومته الكثير من شراسة المعنى وقوة النص وقسوة العبارة التي تقول الكثير من انفعالات الإنسان المعاصر وأحلامه، أنى كان جنسه وأنى كانت جنسيته؟". وما بين مزدوجين عباراتٌ كتبتها عنها لجريدة"النهار"إثر عودتي"المظفّرة"بصداقات وحوارات وكتب وذكريات. دارت الأيام ومرت السنوات العجاف بما يجري في أوطاننا من نوائب ومحن والسِمان بما نصرُّ عليه من حبرٍ وملحٍ وشعر وفنون فردية تمنحُ وجودنا بعضاً من جدواه وحياتنا بعضاً من معناها. السنون تمر وكتب سعدية مفرّح تتوالى:"كتاب الآثام"،"مجرد مرآة مستلقية"،"تواضعت أحلامي كثيراً"،"حداة الغيم والوحشة"، وأخيراً الكتاب الذي قلّبت صفحاته فقلّب صفحات ذاكرتي على واحدة من صداقات خالصة ونادرة في عالم الشعراء:"ليلٌ مشغولٌ بالفتنة"، وفيه تواصل مفرّح تجربة شعرية خاصة ومتميزة ليس فقط بين بنات جنسها أو جيلها بل على مستوى الكتابة الشعرية الحديثة التي تغدو في حالة شاعرتنا ونظرائها إبداعاً جلياً لا يشوبه شك أو سجال عقيم كالذي يرافق"قصيدة النثر"العربية في حلها وترحالها. المحاولة تبرير جيد لكل فشل بشري، تقول سعدية مفرّح. لكن محاولاتها الشعرية المتواصلة تبدو تبريراً للنجاح لا للفشل حيث تؤكد في جديدها الفاتن براعتها في كتابة القصيدة الطويلة بسلاسة لغوية وانسيابية بنائية من دون التخلي برهة عن شراسة المعنى وضراوة الصورة الشعرية في مزيج ساحر بين المعنى والمبنى ما يذكّر"بمهارة العارفين بالكيمياء وأسرار الخلق/ ومصير أي امرأةٍ وحيدة/ في ليلها المشغول بالفتنة والأحلام القصوى/ تخلطين الذهب بالفضة/ والرمل بالغيم/ والماء بالعسل والخمر والحليب/ والشعر بالموسيقى وبحتك المتعبة بأنغامك المنسية بين أوتار كمان مكسور والشك باليقين...". تُناوش المعاني. هكذا تقول. وتجند لها، أقول، وتصطادها من أعلى فضاء الموهبة لتقدمها للقارئ في طبق شهي اسمه"ليل مشغول..."بفتنة الشعر الذي يصلح أن يكون علاجاً ليلياً لكل مصابٍ بأرق أو سهاد أو لكل من يسهر وحيداً على سرير الاشتياق. وسعدية مفرّح تعرف تماماً كيف تشغل قارئها بحبر الإبداع الطالع من تجربة إنسانية فيها الكثير مما يجعلها ذات تميز وفرادة. "... أنا من أصل بدوي، وما زلت أمارس بداوتي في مجتمع كله مدنية بفعل التحول النفطي ومنذ كان. ولا أمارس بداوتي هروباً من المدينة بحد ذاتها لكنني أحسها مدنية مصطنعة ... أنا اخترت الشكل الحديث للقصيدة العربية ولا أعتقد أن البداوة نقيض للحداثة..."هذا بعض مما قالته لي يوماً، وهو بعض من الحقيقة، لأن كل شيء وكل فعل بمقدار ما يكون صادقاً وحقيقياً يكون حديثاً مهما تقادمت عليه الأيام، وكل شيء وكل فعل بمقدار ما يكون زائفاً ومصطنعاً يكون رجعياً مهما ارتدى من لبوس وأقنعة. وقارئ سعدية مفرّح لا بد له من إعادة نظر في ما قالته العرب يوماً عن الشعر لأنه يفرغ من كتابها وهو يردد: أعذب الشعر أصدقه! خصوصاً إذا كان خلف زجاجه مطرُ بيروت الحنون.