كتاب الشاعرة الكويتية سعدية مفرح «مشية الإوزة» الذي يضم ستاً من مجموعاتها الشعرية السابقة شكل بالنسبة إليّ مفاجأة حقيقية من حيث تنوع التجربة وعمقها وتطورها المتسارع. وكان يمكن المفاجأة أن تكون أقل وقعاً بالطبع لو أتيح لي في السابق أن أطلع على الإصدارات الشعرية المتلاحقة لصاحبة «ليل مشغول بالفتنة» وهو ما لم يحدث من قبل إما بسبب قصور شخصي أو بسبب عدم عثوري على معظم أعمال الشاعرة باستثناء مجموعة يتيمة هي «تغيب فأسرج خيل ظنوني» الصادرة في النصف الأول من تسعينات القرن المنصرم. وقد تكون حسنة الأعمال الشعرية التي يصدرها الشعراء في مجلد واحد أو أكثر متمثلة على وجه الخصوص في إتاحة الفرصة أمام القارئ لمتابعة تجربة الشاعر في محطاتها المختلفة وتفحص التطور أو التعثر الذي أصاب هذه التجربة. كما أنها تمكن القارئ من إلقاء القبض على الشاعر وضبطه متلبساً بكامل «اقترافاته» وتحولاته من دون اي تخفّ أو زوغان. وهو أمر يقع في مصلحة الشعراء الحقيقيين ويزيد من رصيدهم، فيما يميط اللثام في المقابل عن هشاشة البعض وتلطيهم وراء قناع الشهرة الزائف. أعتقد أن سعدية مفرح تندرج في خانة الصنف الأول من الشعراء حيث تكشف قراءة أعمالها مجتمعة عن ثراء تعبيري ومعرفي متدرج في تطوره ونضجه وعن مكابدات إنسانية تجعل الشعر منبثقاً عن مصدر روحي ومعاناة داخلية صادقة لا عن مجرد معاتبة للغة أو تمرس بها. وهذه الميزة لم تكن لتتحقق عند الشاعرة دفعة واحدة ولم تكن بالتالي ثمرة الموهبة الفطرية وحدها بل إن من يتابع أعمالها الستة لا بد من أن يقف على تعثر البدايات وارتباكها ثم ما يلبث أن يشعر بالدهشة إزاء النقلات الدراماتيكية التي أصابتها مفرح في أعمالها اللاحقة وبخاصة منذ عملها الثالث «كتاب الآثام» وصولاً الى العمل الأخير «ليل مشغول بالفتنة». ولعل تقصد الشاعرة أن تضع ترتيب مجموعاتها بشكل عكسي أي أن تستهل الكتاب الشعري بالمجموعة السادسة ثم تنهيه بالأولى لم يكن من قبيل المصادفة المحضة بل لشعور منها بأنها تفضل أن تقدم تجربتها للقارئ من خلال ما بلغته هذه التجربة من تطور ونضج في مراحلها الأخيرة، وهو أمر ليس بجديد على الأعمال الشعرية بأي حال فلقد سبقها اليه شعراء كثيرون من بينهم سعدي يوسف على سبيل المثال لا الحصر. بين المجموعات الست التي تتضمنها «مشية الإوزة» تختار سعدية مفرح في المجموعتين الأوليين «آخر الحالمين» و «تغيب فأسرج خيل ظنوني» أن تتبع الإيقاع الوزني وفق نظام التفعيلة المعروف. وعلى رغم أن الكثير من قصائد المجموعتين تنحو باتجاه التأمل والالتصاق بالذات في بوحها وصمتها وفرحها وحزنها وفقدانها إلا أن القارئ لا بد أن يتبين مقدار التفاوت في مستوى النصوص من جهة وفي استقامتها الوزنية من جهة أخرى. في بعض القصائد نلحظ تشابكاً غير مبرر بين البحور أو خروجاً واضحاً عن الوزن على رغم الحفاظ على التقفية، كما في قصيدة «مثل» التي يجيء فيها «مثلما الريح توقظ الأشجار/ كي لا تفاجئ فيها رغبة الانكسار/ أيقظني صوتك القادم قبل القدوم/ بعد الوجوم/ كي لا يفاجئ فيّ/ رغبة الانتحار». على أن هذه الملاحظة لا تمنع قصائد أخرى من العثور على ضالتها عبر الانتباه الى ما يحمله الواقع الملموس من هواجس تتعلق بالزمن والحياة وأسئلة القراءة والكتابة كما في قصيدة «كتبي» حيث نقرأ «في مكتبتي كتب لم أفتحها/ أخشى إذ أفعل أن أتلاشى/ بين رياح الكلمات المحمومة/ أو أغرق تحت سيول الكلمات/ أو أتجرع عاصفة الكلمات فأنفجر/ في مكتبتي كتب مغلقة/ ما زالت تتزايد كل نهار/ ترى/ هل تكفي كل مساءات العمر الآتي لقراءتها؟». وأظن أن الشاعرة هنا تتلمس جرحاً مزمناً أو فوبيا حقيقية يعاني من وطأتها سائر المشتغلين بالكتابة وكل الذين تغص جدران منازلهم وأروقتها بالكتب والمصنفات. قصائد نثر على أن النقلة الحقيقية في تجربة سعدية مفرح تتبدى في تقديري عبر أعمالها النثرية اللاحقة المتمثلة بمجموعاتها الثلاث «مجرد مرآة مستلقية» و«تواضعت أحلامي كثيراً» و«ليل مشغول بالفتنة». وعلى رغم أن الكثير من قصائد المجموعات الثلاث الأولى يكشف عن مقاربة ذكية للأشياء والكائنات الا أن التخفف من الأوزان أتاح للشاعرة مزيداً من الحرية والتحليق والانهمام بالمعنى والمغالبة غير المقيدة مع الوجود وأسئلته الممضّة. ففي مجموعة «مجرد مرآة مستلقية» تنفتح الكتابة على مروحة واسعة من الموضوعات المتعلقة بالصداقة والحب والزمن والصمت والمنزل والفقدان وغيرها. كما يبدو جلياً نزوع الشاعرة نحو المقاربات التأملية للظواهر التي ترصدها والحالات التي تعيشها، وهو ما يتضح في شكل أخص في قصيدة «غيابات مأهولة بالموت» حيث ينتقل الموت من إطاره البيولوجي والوجودي المعروف الى إطاره البسيكولوجي المتمثل في الفجوات الفاصلة بيننا وبين الموجودات أو داخل الموجودات نفسها أو من خلال الشغور الذي يولده الضجر والوحشة وعزلة الكائن في النفس. واذا كانت بعض أشكال الغياب أقرب الى مناخ الكآبة القاتمة فإن بعضها الآخر أقرب الى التأمل الذكي والطريف في الأشياء، كما في مقطع «غياب جذاب» الذي يرد فيه: «الثفاحة التي سقطت على رأس نيوتن/ فرحت قليلاً بلذائذ الدهشة الكامنة وشرف الجاذبية/ لكنها تطلعت نحو الأعلى/ بذلك الحنين الذي أعرفه/ والذي ينازعني به الآخرون/ وهم ينبشون أوراقي الثبوتية/ من بين أسنان الشوارع الجديدة». ثمة سمة أنثوية بارزة لشعرية سعدية مفرح في هذه المجموعة كما في عمليها اللاحقين، بل ونتاجها بوجه عام. لكن الأنثوية هنا لا تتأتى من إثارة القضايا المتعلقة بحقوق المرأة أو اضطهادها من قبل المجتمع الشرقي الذكوري، أو تلك المتصلة باتخاذ الجسد الأنثوي مطية مناسبة لركوب موجة الغرائز والبوح الشهواني، كما عند الكثيرات من الكاتبات المعاصرات، بل تتبدى من خلال العصب الطري للغة وخفوت الصوت وتقوسه وحدبه على معناه. أو تتبدى حيناً آخر من خلال قوة الملاحظة والتحديق في التفاصيل الزمانية والمكانية التي تتقن المرأة متابعتها أكثر من الرجل. في مجموعة «تواضعت أحلامي كثيراً» تتجه قصائد سعدية مفرح نحو المزيد من الشفافية والخفوت المشوبين بنبرة رثاء للحياة الماضية في تسارعها وانقضائها. فهناك اختزال للعبارة وتكثيف يقارب الحكمة. وهناك شعور مر بالفجوة القائمة بين الصبوات المحتدمة لزمن الصبا وبين الحصيلة المتواضعة للعقود اللاحقة. وإذا كنت لا أعرف على وجه التحديد تاريخ ولادة الشاعرة، حيث تغيب عن ديوانها أية إشارة واضحة لذلك، فإن ما تكشف عنه تجربة المجموعة هذه هو ما يمكن تسميته بأزمة منتصف العمر التي تمنح الكاتب على قسوتها ومفارقاتها المثيرة الفرصة الأهم لتجاوز نفسه وحمل تجربته باتجاه آفاق أرحب. ثمة حديث هنا حميم عن الرسائل الواضحة والمستترة التي تتلقاها الشاعرة كهدايا أو إشارات أو نذر مريبة بالمستقبل من غير مصدر بشري أو فيزيقي أو ميتافيزيقي. لذلك لن تتردد مفرح في مصارحتنا بالقول في إحدى المقطوعات المتعلقة بالرسائل «سأدرك بعد فوات الأوان/ كم هي لئيمة فكرة الرسائل المتأخرة/ وكم هو رحوم ساعي البريد الكسول». ثمة وقوف طويل في الوقت ذاته أمام الصور الكثيرة المرتسمة على شاشة الذاكرة المتدرجة في تقادمها أو المحفوظة في الألبومات الشخصية أو أمام المرايا المحايدة على فظاظة التي لا تتورع عن وضعنا أمام حقيقة ما أصبناه من تغيرات وتجاعيد وندوب دون شفقة ولا رحمة. ووسط ذلك الواقع المستجد والمقلق يبدو الانصهار بروح العالم وازالة الفروق بين الحقيقة والحلم ممرين الزاميين نحو الخروج من المأزق أو العثور على قشة للنجاة. لذلك تقذف الشاعرة نفسها نحو المناطق الملتبسة بين اللغة المواربة والوجود العياني وبين الوقائع والاحلام «هل حلمت البارحة بغيمة سوداء/ تمطرني بقصائد نسيتها عند يقظتي؟/ أم ان غيمة سوداء حلمت البارحة/ انها شاعرة تنسى قصائد الليل». تجيء المجموعة الأخيرة «ليل مشغول بالفتنة» بمثابة تتويج حقيقي لتجارب الشاعرة الماضية التي اجتازت العديد من العوائق والمحطات والمغالبة المضنية مع اللغة. فهذه القصيدة الطويلة والمتشعبة بدت أشبه بالسيرة الشعرية التي تعمل على تصفية الحساب مع الماضي بما يحمله من رؤى وأطياف ومشقات ووجوه للطفولة والصبا والألم والحب والصداقة والشعر والمنزل والعائلة، كما للروح في توبتها وانكفائها وللجسد في تفتحه وهزائمه. وكما يفعل الكثير من الشعراء في مراحل مشابهة من أعمارهم، ولأن معظمهم لا يحسنون كتابة الروايات، فإن سعدية مفرح أرادت لمجموعتها السادسة تلك أن تكون المحطة الفاصلة بين مرحلتين من حياتها كما لو أنها تريد عبر البوح والمكاشفة الساخنة مع النفس والعالم أن تلقي عن كاهلها حمولة العقود المنصرمة وأن تفتح قلبها لوعود أخرى تجيء من جهة المستقبل.