منذ انهيار جدار برلين، حسِب العالم ان مد الموجة الديموقراطية، إثر تصدع الاتحاد السوفياتي، لن ينحسر. وبدا أن الديموقراطية، وتعريفها غير واضح ومحدد، تختزل السياسة في الانتخابات الحرة أو المنافسة. وبحسب آدم برجورسكي، الديموقراطية هي حق المواطنين في تغيير قادتهم من طريق صناديق الاقتراع. وهذا الضرب من الانتخابات انتشر انتشاراً كبيراً في الحياة السياسية العالمية، على رغم بعض الشوائب. وتنمو الأحزاب مثل الفطر في بلدان تراثها الديموقراطي طري العود وضعيف. فعلى سبيل المثل، ثمة حزبان كبيران في الولاياتالمتحدة، ومئات الاحزاب في نيجيريا. وبعد نحو عشرين عاماً على انهيار جدار برلين، يرى بعض المراقبين ان"الفورة الديموقراطية"هي وهم غربي. فالغرب لم يُشف من ميله الى مبدأ كوني، جامع وعام. وأسهم في ظهور أوضاع معقدة ترفع فيها النخب المحلية لواء الديموقراطية لتتفادى غضب الغرب. وهذه ديموقراطيات اسمية صورية لا ترسي المساواة الاجتماعية بين مواطنيها. ويدعو بعض آخر الى التأني في تقويم الديموقراطيات"الشكلية"غير الغربية، والى احتساب أثر المبادئ الديموقراطية وأفكارها في المجتمعات المحلية. والحق أن مناقشات مجلس الشورى الأفغاني ضعيفة الصلة بنموذج الديموقراطية الجيفرسوني. ولكن نفي صفة الديموقراطية عن هذه المناقشات لغو. ونواة الوهم الغربي هي حسبان الغرب أن نشر الديموقراطية يقرّب بينه وبين"الديموقراطيين"الآخرين، ويعزز مصالحه. وهذا ما دحضته تجربتا"حزب الله"اللبناني، و"حماس"الفلسطينية في المشاركة السياسة. ويعود تراجع مد الديموقراطية الى أربعة عوامل متزامنة: الفشل الاميركي بالعراق، وندرة الديموقراطيين في العالم الاسلامي الذي يغلب عليه رجال الدين والقادة السلطويون، وعجز الغرب عن ارساء مبادئ الديموقراطية في بلدان لم تعرفها أو اختبرتها اختباراً ضعيفاً، وموازين قوى الدول النفطية، ومعظم أنظمتها ريعية ترفض اللعبة السياسية أو استجابة الضغوط الدولية. ولم يسبق أن اجتيح بلد كبير لتغيير نظامه السياسي من قبل. فعملية إرساء الديموقراطية في ألمانيا واليابان ترتبت على حرب هاجمتا فيها الولاياتالمتحدة. ولم تكن حرب فيتنام اجتياحاً، بل حرباً لوقف انتشار الشيوعية بآسيا، لإبلاغ الصين والاتحاد السوفياتي أن الولاياتالمتحدة لن تتراجع عن سياسة"الاحتواء"، بعد أزمة الصواريخ بكوبا. ولم تتوان الولاياتالمتحدة عن إطاحة أنظمة ديموقراطية منتخبة غير أوروبية تتهدد مصالحها، على ما حصل في إيران، وغواتيمالا، وتشيلي. وتجمع بين الحرب على فيتنام والحرب على العراق رغبة الولاياتالمتحدة في استعراض قوتها وقدرتها على الإمساك بمقاليد العالم، إثر أزمة الصواريخ الكوبية في 1962، واعتداءات الحادي عشر من أيلول سبتمبر. ولم تنجح الحرب على أفغانستان، وقوة هذا البلد ثانوية، في تضميد الجرح الأميركي، ولم تفلح في إظهار قوة أميركا الجريحة. وبدا أن الولاياتالمتحدة في حاجة ماسة الى الانبعاث انبعاثاً"شميدتياً"نسبة الى كارل شميدت الذي يرى أن جوهر السياسة هو تمييز الصديق من العدو. فبحثت عن عدو لدود يسهل القضاء عليه، من جهة، ويكون هدف حملة عسكرية جديدة ترمم صورة أميركا، وتبعث هيبتها. ولكن لماذا أخفقت حملة"تصدير الديموقراطية"الى العراق؟ مصدر الإخفاق هذا هو تغليب واشنطن كفة استعادة هيبتها. فوزير الدفاع الأميركي السابق، ومهندس الحملة على العراق، دونالد رامسفيلد، أعلن أن بلاده لن تبقى"الى الأبد"في العراق، وأنها لن ترعى سيرورة"نايشن بيلدينغ"، أو"بناء الأمة". ووضع نائب رامسفيلد، بول وولفوفيتز، هدفين للحرب على العراق، أولهما إرساء هيبة الولاياتالمتحدة الاستراتيجية، وثانيهما توفير نموذج يعتبر به أعداء الولاياتالمتحدة بالعالم الإسلامي والعربي، ويبعث الخوف في صدور حلفاء أميركا الذين يشتبه في تمويلهم الارهابيين. وبدا أن إرساء الديموقراطية في منطقة تفتقر اليها يُعبّد الطريق أمام عملية السلام الاسرائيلية - الفلسطينية، ويوفر أصدقاء أوفياء لأميركا. فيستقيم ميزان القوى"الشميدتي"بالمنطقة، ويتنازع كفتيه، أصدقاء الولاياتالمتحدة الصدوقون وأعداؤها الشرسون. وبعد إطاحة نظام صدام، باشرت أميركا"ابتكار"الأصدقاء وانتحالهم. وحسبت أن إطاحة الديكتاتور المستبد تضمن صداقة العراقيين لها، وأن العراقيين الراغبين في سقوط صدام تواقون الى الديموقراطية. وانتهج الساسة الأميركيون نهجاً تبسيطياً يهمل الفروق بين التجربة الألمانية أو اليابانية أو البرتغالية أو الاسبانية السابقة وبين العراق. واحتذى بول بريمر على مثال اجتثاث النازية الألمانية في عملية اجتثاث البعث العراقي. وكانت العملية فاتحة الحرب الاهلية بالعراق. والحق أن مرد إخفاق الأميركيين في نقل التجربة اليابانية الى العراق الى تباين أحوال البلدين، وافتقار الشعب العراقي الى إجماع على مستقبله، وهويته وطبيعته وحدود بلاده. ولا أمل في بروز الديموقراطية في ظل غياب مثل هذا الإجماع. وبرز الانقسام العراقي في مناقشات المجلس التشريعي. فهل المنشود هو ديموقراطية إسلامية تستثني الأقليات العراقية غير الإسلامية، وتحاكي نموذج الجمهورية الإيرانية الإسلامية، أم عربية تستبعد الأكراد، أو متعددة القوميات قد تستدعي أن تفرض دولة جارة"وصايتها"عليها، على النموذج اللبناني؟ ولا شك في ان الديموقراطية ليست الخيار الوحيد المتوافر في العراق، وهي آخر الخيارات. ويسعى شيعة العراق الى الانتقام من الظلم التاريخي اللاحق بهم منذ قرون، في حين يرفض سنّة العراق أن يكونوا مواطنين ثانويين. ويسعى أكراده الى الاستقلال. فيكاد يكون مستحيلاً أن تبسط الدولة العراقية سيادتها الواحدة على أراضيها. ولا تحظى الديموقراطية الليبرالية باحتضان شعبي في العالمين الإسلامي والعربي. فالقوميون والعسكر همشوا دور الديموقراطيين في هذه المنطقة في الخمسينات، واتهموهم بالانحياز الى الغرب. وسعى القوميون والعسكر في الحؤول دون بروز قوى اجتماعية اقتصادية مستقلة. وبعد فشل معظم الأنظمة الإسلامية، تميل المجتمعات الإسلامية الى البحث عن نهج يذلل مشكلاتها، ويدين تعسف أنظمتها الزبائنية القبلية. وتستغل القوى الإسلامية المتطرفة الغضب الشعبي، وتزعم أن الديموقراطية تقتصر على إطاحة النظام السلطوي، ولا تفترض إرساء نظام تمثيلي يقر بتداول السلطة ونتائج الانتخابات. ولا يرى العالم الإسلامي والعربي أن الديموقراطية هي خلاف السلطوية. فهو يتوق الى"حل إسلامي"، ويرى أن الاستعمار، والأنظمة المقربة من الغرب في مرحلة ما بعد الاستعمار، حالا دون إبصاره النور. وروجت الأنظمة الديكتاتورية والحركات الإسلامية المتطرفة هذه الفكرة، الأولى في سبيل تهميش الناشطين الديموقراطيين في المجتمع واستمالتهم إليها، والثانية في سبيل بسط نفوذها في المجتمع. وتغض الأنظمة الحاكمة النظر عن حركة الإسلاميين المتطرفين. وإذا تنامى نفوذ هذه الجماعات وكادت أن تبلغ السلطة، قمعت. ومنذ اعتداءات 11 أيلول، مال الغرب الى تعزيز هذا الاستقطاب في العالم الإسلامي بين السلطة والإسلاميين. فالأوروبيون والأميركيون وطدوا علاقات التعاون البوليسي والسياسي بالأنظمة المستبدة لمواجهة خطر الإسلاميين المتطرفين. واضطرت الديبلوماسية الأميركية، إثر فشل الحملة العسكرية على العراق، الى دعم أنظمة لا تغلو في مناوأتها، والى مراجعة سياسة"تصدير الديموقراطية"، والانصراف الى ضمان الأمن النفطي ومكافحة الإرهاب. والعامل الثالث في طي صفحة"الفصل الديموقراطي"هو تغير تحديات بناء الديموقراطيات. ففي السابق، انتشرت الديموقراطية في بلدان عرفت تجارب تحرر موروثة من القرن التاسع عشر، مثل دول أميركا اللاتينية وبلدان شرق أوروبا وشبه الجزيرة الايبيرية. وبدا أن العودة الى النظام الديموقراطي في دول شرق أوروبا ووسطها هي صِنو استعادة هذه الدول سيادتها واستقلالها عن الاتحاد السوفياتي. ولكن فرص نشر الديموقراطية ضئيلة في بلدان مثل تيمور وهايتي والعراق والبلقان وكمبوديا وليبيريا. فلا تناسب بين المشروع الديموقراطي والمشروع الوطني. ومنذ انتهاء الحرب الباردة الى اليوم، تدخل المجتمع الدولي في 22 أزمة، عشرون منها في بلدان"فاشلة"مزقتها الحروب الأهلية. ووجد المجتمع الدولي نفسه أمام مهمة معقدة وصعبة، هي إعادة بناء الدول على سكة الديموقراطية، عوض ترميم المؤسسات الديموقراطية. ولا شك في ان تغير المعادلة الجيو - سياسية العالمية يتعارض مع اللحظة الديموقراطية، ويعوق استمرارها، ويسهم في تقهقرها. فعلى سبيل المثل، تصيب البطالة في ليبيا والجزائر أكثر من 30 في المئة من السكان. وتعوق الدول الريعية نشوء المجتمعات المدنية. وثمة بلدان عربية غير نفطية نظامها ريعي، مثل مصر. وحريّ بمن يرغب في فهم أسباب ضعف الديموقراطية في البلدان العربية والأفريقية أن يخرج من قوقعة النظرية الثقافية الى إدراك أن نخب هذه البلدان ترفض طريق التطوير والتنمية والإصلاح. فمثل هذا الطريق يتهدد نفوذها، ويقوضه. عن زكي العيدي،"ديبا"الفرنسية، أيار مايو - آب أغسطس 2008