كتب دون موريسون في عنوان "احتضار الثقافة الفرنسية"، في أسبوعية "تايم" الأميركية في عددها قبل الأخير مقالة لاذعة عن الوضع الثقافي الفرنسي"الآيل إلى الانحطاط"على حد تعبيره. لم يعد في فرنسا روائيون، موسيقيون، سينمائيون رسامون، لهم قدرة على تحصيل مكانة دولية مثلما كان عليه سارتر، فوكو، ميسيان، غودار، النحات سيزار، أو المغني شارل تريني، يشير موريسون. إثر هذا الاحصاء - التحقيق، خلص الصحافي إلى النتيجة الآتية: الثقافة الفرنسية في منعرج الخسارة. بين الفينة والأخرى تبشرنا أصوات بمثل هذه النهاية. كانت الحملات منتظمة في ظل اليسار الفرنسي، وبخاصة في ظل تقلد جاك لانغ زمام الثقافة ودفاعه عن"الاستثناء الثقافي الفرنسي". سايرت النخبة، على أقليتها، هذا التوجه لتزج نفسها في النقاش ولتوفر الدليل على أن الثقافة الفرنسية في عافية نظرية ومنهجية متينة. غاب بالكاد كبار المنظرين والمفكرين من أمثال: جاك لاكان، رولان بارت، ميشال فوكو، جان بودريار، جيل دولوز وفيليكس غاتاري، بول ريكور... أي أولئك الذين شكلوا الدعامة الأساس لثقافة الحداثة بما هي استكشاف وإعادة تأويل للتاريخ والأنثروبولوجيا والنظم الاجتماعية والسرديات الفردية والجماعية. ولكن لم تختف أفكارهم باختفائهم، بل بقيت وقوداً نظرياً ينهل منه السؤال. لا تزال أفكار دريدا، فوكو، لاكان، بارت، دولوز محط ندوات، مناظرات، وكتابات سواء في أوروبا، وبخاصة في أميركا، حيث تعكف الجامعات على تدريسها ونقاشها. ساد الاعتقاد بأن سعير الحملة ضد الثقافة الفرنسية سيخف مع تسلم نيكولا ساركوزي مقاليد الحكم وهو رئيس أقرب في فكره من الرئيس جورج بوش. لكن نافذي اليمين في"دواليب"النظام، المدنيون منهم أو العسكر بفكرهم الأطلنتي، لا يزالون ينظرون إلى فرنسا كدويلة مصغرة ميكرو دويلة لا وزن لها في آلية النظام العالمي. لم يمت الفكر الفرنسي وليس هو في أزمة، بل يتموقع عند مفترق طرق جديدة تحسباً لطرحه أسئلة جديدة. فأهم ما يميز الثقافة الفرنسية وثْباتها الحيوية تبعاً لمقولة هنري بيرغسون في اتجاه الأفق. أبحاث دومينيك فولتون، في موضوع الإعلاميات والمواصلات، مارسيل غوشي في مجال الفكر السياسي والتاريخي، رنيه جيرار، في موضوع القدسية، ريجيس دوبريه في موضوع الدين، مارك كريبون في ميدان اللغويات... دليل حي على انتعاش هذا الفكر. وبحكم العولمة، أضحت نظرية التواصل، وبامتياز، النظرية المرجع التي تستقطب اهتمام الدارسين. لكن فرنسا كانت سباقة إلى تناول هذا الموضوع من خلال نصوص جان بودريار ودراسته مجتمع"الفرجة"وپ"نظام البضاعة"، و"التشيؤ البشري". واليوم تستند الجامعات الأميركية إلى نظريات بودريار لتفكيك تداخلات الأنسقة والأنظمة التي تطوّق المجال النفسي والجسدي للأميركي. قدرة الثقافة الفرنسية على التنظير لمتطلبات الواقع هائلة ولأن مجلة أميركية رفعت صك اتهام سريع، يجب ألا تثنينا عن فكرة البحث في الطابع المتداخل والمعقد لهذه الثقافة. وإن كانت أزمة، فيجب البحث في جينيالوجيتها وبنياتها العميقة وليس ابتسار تركيبات سريعة.