حرص صقور الثامن من آذار على إبداء ضيقهم وتذمرهم من الحكومة ورئيسها، قبل أن تبدأ مشاورات وزراء الخارجية العرب الرامية إلى إيجاد حلّ للمأزق السياسي في لبنان، الأمر الذي فسّر بأنّه تعويض عن غياب فريقهم عن الاجتماع، وعلى الرغم من أن نعي المؤتمر سبق انعقاده، عندما أعلن وزير الخارجية السوري وليد المعلم تبنيه طروحات المعارضة برمّتها، فإنّ الأنظار توجهت إلى القاهرة على أمل يمكنه أن ينبثق فجأة. صحيح أنّ ضيق نصف هؤلاء الصقور أو أكثر، لم يكن في الأيام الخوالي أقل مما هو عليه اليوم، عندما كانوا يشتمّون أدنى رائحة لبعض الثقة والقوة والفعالية في الأداء الحكومي بالذات، وصبرَهم في الماضي القريب لم يكن أعظم حينما يباغتهم رئيس وزراء قوي، ينشد مصالح أبعد من مصالحه، ويرنو إلى وطن مدنيّ مستقلّ ذي سيادة، ولكنّ ممارسة المجلس لبعض صلاحيات رئيس الجمهورية اللبنانية دون وجل، وبدستورية مكتملة المواصفات، أصابتهم بهلع مضاعف ظاهر، لأنها أنذرتهم بلا شفقة، أنّ الفراغ يمكن أن ينقلب على رؤوس صنّاعه. ففي جلسة تاريخية هادئة لم يعرف لبنان لها مثيلا، صادقت الحكومة اللبنانية مجتمعة على أكثر من 700 مرسوم في ممارسة اضطرارية لصلاحيات رئاسية، سهّلت من خلالها أعمالا، وسيّرت بفضلها أمورا حيوية لا تستطيع الانتظار أكثر، وبدا للجميع أنّ الوضع يمكنه أن يمضي قدما، وأنّ لبنان يستطيع أن يتنفّس عندما ينقضُّ بعضُ أبنائه على الاستحقاق الرئاسي فيلثّمونه ويكبّلونه ويأسرونه، وبدا لمن اختطف الرئاسة ليفتديها بغنائم سياسية تقلّص من حجمها وتحوّلها إلى شبح آدميّ يحمي كرسي الفراغ، ألا أحد في الغالبية النيابية مستعدٌ للاستسلام للشروط والسلال، وظهر لهؤلاء الذين تعجز ذاكرة لبناني واحد، عن استدعاء تصريح سابق يتيم، لأي ّمنهم، نمّ مرة واحدة عن غيرة ما بشأن الرئاسة وصلاحياتها، وتقصر مخيلة لبناني واحد عن القدرة الموضوعية على تلفيق موقف، بدا فيه لمرة واحدة أنّ هؤلاء الصقور أرادوا في ثانية من ثواني الوصاية رئيسا للجمهورية مقداما، حرّا، وذا طبيعة استقلالية، يضع مصالح لبنان في صدر أولوياته، ظهر لهؤلاء الذين يتّمتهم الوصاية بانكفائها خارج الحدود، أنّ المأزق يمسك بخنّاقهم دون غرمائهم، وأنّ تربصهم وتخندقهم خلف سلال مطالبهم، سيضرّ بهم، ويرغمهم على مغادرة ملجئهم. ولكنّ للتصعيد أكلافا قد تفوق مكتسباته، وتجربتا الثالث والعشرين والخامس والعشرين من كانون الأول ديسمبر الماضي شاهدان لم تتجاوزهما الذاكرة بعد، و"فشل"اختبار ملهى الكريستال التخويفيّ، الذي افتعله بعض ضباط وعناصر الأمن العام، الذي تعود قيادته إلى اللواء وفيق جزيني، و"صدمة"الحرارة المرتفعة، والأوداج المنتفخة، التي واجه بها مناصرو تيار المستقبل المجموعة الملثمة والمنظمة، التي افتعلت حادث تمزيق صور الرئيس الشهيد رفيق الحريري ونجله، درسان مؤلمان ولكنهما مفيدان حقّا، وعلامتا رسوب كامل تستحقان التأنّي في قراءة نتائجهما، والتبصّر بعواقب اللجوء إلى ما يشبههما. والنكوصُ خير من التهوّر، فحميّة الرابع عشر من آذار ما زالت في أوجها، والرهان على برودة الطقس والشرايين ارتدّ على أصحابه، الذين آن لهم أن يعترفوا بأنّ التظاهرتين الحاشدتين اللتين شهدتهما بيروت في الأول والعاشر من كانون الأول عام 2006 تحت شرفات السرايا الحكوميّة، لم يكن لهما أن تخفقا في تحقيق أهدافهما، لولا أنّ مطالبهما كانت تجسيدا لانقسام شعبي، اكتملت مواصفاته الطائفية، قبل أن يتبلور له مضمون سياسيّ، فالفارق الزمني بين توصيف الحكومة بحكومة"المقاومة السياسية"و تسميتها"حكومة فيلتمان"لا يزيد عن أشهر قليلة، وخروج وزراء حزب الله وحركة أمل منها، لم تتسبب به عمليات عزل وإقصاء ملموسة، بل فرضه استحقاق الموافقة الحكومية على مشروع المحكمة الخاصة بلبنان. ولقد آن للمعارضة اللبنانية أن تتعامل مع خيارات الأغلبية بوصفها خيارات لبنانية تتقاطع مع الخارج حينا إقرار المحكمة الخاصة في مجلس الأمن، وتتشابه حينا التمسّك بالديموقراطية في جوهرها الذي يسلّم مقاليد السلطة للغالبية البرلمانية، بالتوازي مع مفهوم الديموقراطية التوافقية"القائم على المشاركة الضرورية السويّة لمختلف قوى المعارضة في الحكومة وتختلف مع الأميركيين والأوروبيين ومعظم سكّان العالم حينا آخر ترشيح العماد ميشال سليمان العسكريّ لمنصب تراه أغلبية كونية أنّه مدنيّ بامتياز تتقاطع وتتشابه وتختلف، ولأنّها كذلك فالاختلاف معها سيبقى بوابة فتنة، ما بقيت لغته وعرة وتخوينية تستعير من السلاح منصّته، ومن الموت عدّه التنازليّ ونهائية توكيداته وحتميته وتهديداته. وسيظلّ التهجم الرعوي التخويني والتخويفيّ على خيارات بهذا الحجم مثيرا للتوجّس والتحسّب، وسيتحوّل وقد تحوّل مثيرا للتحفّز والانكفاء إلى الذات السياسية والطائفية، التي أخذت منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، تتبلور على هيئات مزعجة، بدا لوهلة أنّ طوائف بقضّها وقضيضها اختارت منحى سياسيا واحدا، أخذت"تهيم به"، و"تطيعه"، و"تأتمر بأمره وأوامر الناطقين به"كأنه خيارها الأبدي، ومقدّسها الطهور أيضا، ولا يخفى على عاقل مقدار الشرّ الكامن خلف هذه الصخور، فالسياسة على هذا النحو تصبح قبلية مقنّعة، وطائفية محجّبة! ويغدو التوغل في التهديد والتخوين في ظلال أجواء تكاد تكون رعوية حقا، فعلا تفجيريا كافيا لإحراق بلد بكامله، ونوعا من الصلافة الخاسرة التي تنقلب على أصحابها قبل أن تطلّ برأسها الشيطانيّ على مُستهدَفيها، والمزاج العربي والإسلامي لم يشهد التناقص المطّرد في حرارة تأييده منطق حزب الله ولغات الممانعين، إلا مع اللحظات التي انعطف فيها العداء والعدوانية باتجاه أبناء العمومة. فلم يكن انقسام المدى السياسي الشرق أوسطي إلى فريقين تغييريين، أحدهما يؤمن بالسلاح، والآخر يراهن على وسائل بديلة، جديداً حتى يعصف بالمنطقة على هذا النحو، لأنّ انقساما كهذا ولد مع الإنسان، وترعرع في بيئته المتقاتلة والمتصالحة"التي عرفت سبل التغيير بهندوانيّ عنترة العبسيّ، وتلمّست مسالكه المتصالحة بالسبل السلمية للحارث بن عوف وهرم بن سنان اللذين أخمدا بالحوار مع قبائل الدم حربا دامت عقودا، ولكنّ التخندق الطائفيّ الرثّ الذي لا يملك من السياسة إلا وجهها الأشد بؤسا وتخلّفا في أحزاب لا يجول في عروقها إلاّ الاعتداد المذهبيّ وحمولاته التاريخية الفجّة، كما تشي بنياناتها وصروحها الحصرية برمتها، استطاع أن يبلور الثنائية الطبيعية على هيئة شيطانية مرعبة، في العراق وفلسطين وأفغانستان والباكستان ولبنان حتى الآن! ويصحّ القول إنّنا نتحدث في حمأة هذا الانقسام، وعند قمم ما يملكه من شرور في أعطافه، ولكنّ نظرة بانورامية لما حدث في العالم من تبدلات في السنوات العشرين الماضية، على صعد الاندفاع العلميّ وجنون وسائل الاتصال، وتغيّر مفاهيم العلاقات الإنسانية وشروطها ومراميها، تفصح عن هوّة فاقم موقف بشر الشرق الأوسط على وجه الخصوص من عمقها، عندما احتكر شقّهم العنيف تفسيرا أحاديا لهذه المتغيرات يمزج مزاجهم بتاريخهم، في الوقت الذي أمعن الآخر الليبرالي لكونه يصدر عن أرومة أبناء عمومته نفسها"الأحادية، والنهائية، والجازمة، في رفض أية نأمة يصدرها خصمه. والراجح أنّ هذه الهوة لن تردمها الفيدرالية العراقية، ولن تحمي جمهورية غزّة الإسلامية أحدا من السقوط فيها، وستعجز حكومة لبنانية يستحوذ فيها المسلحون وأنصارهم على ما يزيد عن ثلثها في لبنان، عن تخطّيها نحو أفق مختلف. الأرجح أن يستهلك الصراع جثثا أخرى ودموعا جديدة، ولن يؤدي تصعيد بيروتيّ آخر إلى أي انفراج، وقد يقوى نزلاء العتمة على زج اللبنانيين الذين يخرجون إلى أضواء العالم في القبور، ولكنهم لن يتمكنوا من طيّهم في الظلام، لأنّ النهار يصل في موعده، حتى لو بدا للبعض أنّه يتلكّأ ويحبو حبوا. * كاتب سوري.