تصدر خلال أيام عن دار المدى دمشق ترجمة عربية جديدة لرواية روبرت لويس ستيفنسون الصادرة سنة 1886، خورخي لويس بورخيس استعان برواية "دكتور جيكل ومستر هايد" وهو يكتب نصه القصير"بورخيس وأنا". لماذا يؤثر ستيفنسون الى هذا الحد في القراء؟ هنا مقدمة الترجمة. يحدثنا خورخي لويس بورخيس في أحد نصوص "كتاب الكائنات الخيالية"، عن مخلوقات خرافية اسمها"البنيُّون"، وهم أقزام طيبون يرتدون ثياباً ضيقة بنية اللون سكناهم المزارع الاسكوتلندية ويقومون بالأعمال المنزلية في الليل بينما أهل البيت نائمون. يذكر روبرت لويس ستيفنسون انه قد مرّن بنّييه على فن الأدب، يترددون على مناماته ويروون له حكايات مدهشة، منها قصة"أولالا"في كتابه"الرجال المرحون"1887 حيث سيدٌ نبيل يعضُّ يد أخته، وهذه الرواية الماثلة بين أيدينا:"دكتور جيكل ومستر هايد"1886. يكتب لويد أوسبورن في يومياته 1885-1886 عن زوج أمه واصفاً نحول ستيفنسون وتجواله في بيت كبير موصد في سكيريفور، قرب بورنماوث، ناقهاً ممتثلاً لنصيحة الطبيب بوجوب الامتناع عن قصّ شعره وعدم الخروج إلى الحديقة لئلا يُصاب بنزلة برد"فقد ظل منذ مطلع شبابه، مثل كافكا وتشيخوف، معذّباً بداء السل الذي اضطره للتنقل بين بلدان وقارات مختلفة بحثاً عن مناخ يمنع تدهور صحته. كان ذاك البيت الكبير هديةً من أبيه، مهندسِ المنارات على شواطئ اسكوتلندا الصخرية، بمناسبة زواج ابنه الوحيد من فاني أوسبورن، السيدة الأميركية المطلقة التي تعرف إليها ستيفنسون في غابات فونتينبلو الفرنسية، وكانت تكبره بعشر سنوات. في ذاك البيت ألّف مع صديقه و. إي. هنلي عدداً من الأعمال المشتركة، وزاره زيارة طويلة صديقه الحميم هنري جيمس الذي قال عنه:"إن عشق الصبا هو بداية رسالة ستيفنسون ونهايتها"، مشيراً إلى"جزيرة الكنز"1883، الكتاب الذي استهلَّ شهرته في بريطانياوالولاياتالمتحدة، لتعقبه سلسلة من روايات المغامرات البديعة:"السهم الأسود"1883،"المخطوف"1886،"كاتريونا"1893. لم يستقر المقام به طويلاً في أي مكان. فبعد أن تخلى عن مزاولة المحاماة إثر تخرجه في جامعة إدنبرة وقبوله عضواً في تلك المهنة، قرر التفرغ نهائياً للأدب، وانفصل عن والديه بعد شجارات متكررة آثر في نهايتها أن يخوض عيشاً بوهيمياً عوضاً عن حياته الرزينة السابقة، وقد كوّن انبهاره بقاع مدينة إدنبرة والشخصيات الغريبة التي التقى بها هناك مادة غنية نهل منها بعضاً من قصصه اللاحقة. سافر إلى فرنسا وتجول في أرجائها، استقلَّ قارباً في نهر السين وراح يطوف على امتداده "رحلة إلى الداخل"- 1878، كما امتطى حماراً يجول به في دروب الأرياف. كتب عن مئة حصان في الإصطبلات على متن السفينة البخارية التي أقلّته آخر صيف 1877 إلى الولاياتالمتحدة كي يتزوج فاني التي استكملت إجراءات طلاقها قبل وصوله، وحلم بقصتين عن البحر الذي يعشقه. تجول طويلاً في القارة الجديدة، استقلَّ قطارات الدرجة الثانية حيث أفزعه المسافرون وأدهشوه بأقاصيصهم"أمضى شهر العسل بالقرب من منجم مهجور في كاليفورنيا، وعشق نيويورك التي رأى فيها آنذاك مزيجاً من تشلسي وليفربول وباريس. عاش ستيفنسون أعوامه الأخيرة في جزيرة ساموا في المحيط الهادي، حيث المناخ الدافئ يناسب صحته العليلة على الدوام، وتوافرت له العزلةُ بعيداً من الأوساط الأدبية، محتفياً بالمباهج المتاحة في تلك الحياة القاسية للمنفيين، واصفاً نفسه براوي الأقاصيص ونسّاج الكلمات"مثلما وصفه تشسترتن بالحاذق، مستغرباً أن الكلمة المناسبة تنتظر دائماً على رأس قلمه، وأبدى إعجابه بالقصص اللافتة في "الليالي العربية الجديدة"، أو"ليالٍ جديدة من ألف ليلة وليلة"- 1882، واعتبرها قصصاً فريدة لا نظير لها حيث الجرائم والأسرار الآثمة التي يقترفها أفراد المجتمع البارزون. في إحدى رسائله من جزيرة ساموا، كتب ستيفنسون:"أعيش هنا في بحار الجنوب، تحت وطأة ظروف بالغة الجدة والقسوة، بينما مخيلتي تلازم السكنى بين التلال الرمادية والبحيرات القديمة الباردة التي جئنا منها". في هذه الجزيرة باغته الموت إثر نزيف حاد في المخ عام 1894، متوفياً عن 44 عاماً. ودُفِنَ هناك في جبل فايا القريب من منزله، وعلى شاهدة القبر نُقِشَت قصيدته هذه: "تحت السماء الواسعة المرصعة بالنجوم احفرْ لي قبراً، ودعني أرقد"ْ. شتاء 1885 إنه شتاء 1885. يقف ستيفنسون عند النافذة الكبيرة، متدثراً بعباءة صوف، شعره الأسود الطويل ينسدل حتى كتفيه، يشاهد هطول المطر في سكيريفور، اسكوتلندا، ولا يستطيع الخروج من البيت. تزعجه الضائقة المالية التي قاسى عواقبها طويلاً، ولم تنفكّ إلا بعد وفاة أبيه 1887 والميراث الذي تركه له. بحلول الليل، متقلباً في سريره المعتم الكبير، يكابد كي يغفو. ينام وتدخل مخلوقاته السحرية المسرحَ الأسود لرأسه، وتتوالى الصور والتفاصيل. توقظه زوجته فاني، وقد أفزعتها صرخاتُه الكابوسية، فينهرها:"لماذا أيقظتني!؟ كنت أرى قصة رعب باهرة". لقد فوّتت عليه إكمال ما رآه، وكان قد بلغ النقطة التي يتحول فيها دكتور جيكل للمرة الأولى إلى قرينه هايد. كتب بعدئذ:"مهما كان نومي وجيزاً، سأعرف أنني أنا من يبتكرُ الحلم، وإذا صرخت تكون صرختي امتناناً لأنني أدرك عندئذ كم القصة جيدة جديرة بالكتابة". متلصصاً من الباب الموارب، مذهولاً، يصف لويد السرعة الخارقة التي كُتِبت بها الرواية في غضون ثلاثة أيام فقط نكاد لا نجد مثل هذا الاستثناء في تاريخ الأدب إلا لدى كافكا الذي فرغ من كتابة"المحاكمة"في ليلة واحدة. قرأ ستيفنسون ما كتبه لزوجته وابنها. لم تحب فاني القصة وتجادلا طويلاً. دخل الكاتب غرفته وأقفل الباب، ثم خرج بعد قليل مبتسماً، وعلى مرأى منهما رمى بالمخطوط كله إلى نار المدفأة، ولم تتمكن فاني من إنقاذ الأوراق التي احترقت. اعتزل الكاتب في غرفته ثلاثة أيام أخرى، مواصلاً الكتابة على سريره، يكتب في الضوء الكابي للنهارات، وعلى نور الشموع في الليل. لاحقاً، انكبَّ على المسودة الثانية ينقّحها مشذّباً الحلمَ مما سماه بالحماقات، هو المدقّق المغالي في التنقيح الذي قد يعيد كتابة بعض نصوصه سبع مرات. لقد قلب الرواية رأساً على عقب، ابتكر صياغة أخرى مختلفة عن الأولى، صانعاً أمثولة إنسانية لا تضاهيها في الدقة والكمال روايات أخرى تناولت ازدواج الشخصية"لقد استدرك خطأه، فقد كان دكتور جيكل شريراً في السريرة وقرينه هايد مجرد شخصية متنكرة تظهر على خشبة مسرحه في لندن المرسومة بعيني ديكنز. في سياق محدّد شديد الإيجاز يكتنفه مأزق أخلاقي عميق، داخل مناخ غريب وأليف، مبهمٍ ومثير للفضول، تتنوع طرائق السرد بين عدد قليل من الشخصيات اللندنية، لا نصادف النساء إلا عرَضاً أسرَّ الكاتب لزوجته بأنه لا يجرؤ على الحديث عن أي امرأة، كما يجد صعوبة في إبقائها شخصية ثانوية دائماً، لا نصادف أجنبياً في هذا المجتمع المحدود للغاية، لا نشاهد غرباء ولا ملونين وُلِدوا في مستعمرات الإمبراطورية "كما يشير بعض الدارسين إلى الشبه القائم بين مستر هايد والصورة النمطية للإيرلنديين والقوقاز الشائعة في الصحف والأدبيات السياسية للقرن التاسع عشر، هؤلاء الذين اعتبرهم الداروينيون الاجتماعيون أقل تطوراً من الإنكليز وسائر الأوروبيين. تحت عنوان"الحالة الغريبة للدكتور جيكل والمستر هايد"ظهرت الطبعة الأولى لهذه الرواية شتاء 1886، واقتُبست للسينما في أفلام عدة خلال القرن العشرين. بعث الكاتب بنسخة إلى أحد أصدقائه واعتبرها مثالاً في الأناقة،"كنزاً قوطياً استُخرج من منجم عميق". وفي رسالته التي وقّعها باسم بروميثيوس، يكتب عن حياة العاجز المتأمل:"صحة الكاتب أو مرضه الجسدي أو العقلي، إضافة إلى التهكم الوجيز، لا تشكّل السماتِ المميزة لعمله وحسب، بل إنها، في الصميم، الشيءُ الوحيد الذي يستطيع إيصاله إلى الآخرين. ... منذ 14 عاماً لم أنعم يوماً بعافية حقيقية"أستيقظ كالمريض ثم أخلد إلى فراشي منهكاً. أكتب في السرير ورئتاي تتمزقان بالسعال. أكتب وجسدي واهن، ويستمرّ هذا العراك مريضاً كنتُ أو معافى"يا للسخف، وتستمرّ الكتابة. لقد خُلقتُ لأجل هذا الصراع، لكن الأقدار شاءت أن يكون ميدان معاركي هو العقل، في هذا السرير النتن الوضيع". موسيقى اللغة كان ستيفنسون، المولع بويتمان وإنجيل متى، يرى تأثير الكتب عميقاً وصامتاً كتأثير الطبيعة. وقد شغلته طويلاً فكرةُ القرين أو الذات الأخرى، وعالجها مراراً في كتبه: الموضوع القديم لطبيعة الإنسان المزدوجة. ففي روايته"سيدُ بالانتري"1889 الشخصيتان الأساسيتان بالغتا التعقيد وهما جيمس وهنري شطر اسم صديقه هنري جيمس إلى نصفين، ولاحظ ان الاسمين يحملان الحرفين الأولين من جيكل وهايد، لا يمكن الحكم على أي منهما أخلاقياً، ويتمازج فيهما الخير والشر امتزاجاً أخّاذاً، وفي نهاية الرواية يموتان في الوقت نفسه في مكانين منفصلين. امتدح هذه الروايةَ فالتر بنيامين وأندريه جيد، واعتبرها بريخت وكالفينو ونابوكوف ذروةَ ما كتبه. الأسلوب شاغلٌ أساس لدى ستيفنسون، إلى جانب ولعه بموسيقى اللغة وإيقاع الكلمات، وكراهيته للعبارات الجاهزة التي ظل دائماً يتحاشاها قدر المستطاع، مثلما يتحاشى سيرته الذاتية، إذ قلما نلمح أطيافها في ثنايا أعماله. يقول:"الفن يكمن في الحذف. يبقى الكاتب هاوياً إن قال في جملتين ما يمكن قولُه في جملة واحدة". هذه الحساسية وهذا الوضوح أفضيا به إلى تنوع مدهش في الأساليب، يبهرنا بحيويته ونضارته ورشاقته، بلطافته وفطنته ودقّته الآسرة هذه محاور حاول جاهداً التقيد بها"يرتب التفاصيل بحرص وأناة حتى يبلغ تلك الحالة التي يغدو فيها الرعب منبعاً للمتعة - الحالة التي ينعتها لديه غالب هلسا بالمخيف الممتع. يرى بورخيس ان من حسن حظ ستيفنسون نجاته من حفاوة الحداثويين مطلع القرن العشرين، فقد صنفوه كاتباً مولعاً بقصص المغامرات، واستبعده ليونارد وولف تماماً من أنطولوجيا الأدب الإنكليزي. لكنه، باستثناء الرواية الفيكتورية التقليدية ذات الأجزاء الثلاثة التي هيمنت بين عامي 1840 و1880، كتب المسرحيات والقصائد، القصص القصيرة والروايات، النقد الأدبي والمقالات، قصص المغامرات والرحلات، الحكايات الفانتازية والخرافية. فعلى رغم إهمال النقاد لهذا الكاتب الزئبقي، بتعبير بورخيس، بقيت قراءته ببساطة شكلاً من أشكال السعادة.