أعادت أحداث السنوات المُنصرمة مسألة النظام العربي الى الواجهة. تعدَّدت الكتابات في شأنه، تدعو، في مجملها، الى ضرورة اصلاحه، وتبين قصور الوعاء الحالي، جامعة عربية ومعاهدات ومؤسسات منبثقة عن الحاضنة الرسمية. وفي الغالب، جرى تحميل الأنظمة السياسية القائمة مسؤولية التردِّي الحاصل والفشل في مواجهة المشكلات البينية ومحاضرة بُؤر النزاع. بل ان ثمة من قاده سجل الاخفاقات البائِنة الى نقد جذري، صادق في مراده وغاياته، خلص الى إعلان وفاة المنظومة برمّتها وسقوط الصيغة المعمول بها، بعد انقضاء ستة عقود كاملة على انشاء جامعة الدول العربية. من المنطقي، منهجياً، أن تنصب النقمة على السياسات المتبعة، فهي مدخل الزامي لملامسة ظواهر العلَّة النازلة بمريض باتَ في غرفة العناية الفائقة. إنما تتعدى قراءة المتغيرات الحقل السياسي، على أهميته البارزة، وتحيل الى المعطيات البنيوية والرؤى الاجتماعية والثقافية في عالم متداخل حقق قفزات غير مسبوقة وشهد تبدلات عميقة خلال نصف قرن، تفوق في حجمها وأثرها واقتحامها البيت الداخلي، ما راكمته عهود وقرون. بدوره، عرف العالم العربي، خلال هذه الحقبة، المفصلية حضارياً وعلمياً وعولمةً، والقصيرة بقياس التاريخ، ارهاصات سياسية ونكسات فاقمت غربته عن المُتحوِّلات واسهامه في صنعها، وعمّقت الهوة التي تفصله عن النجاعة والرجاء. النافل، واقعاً لا يقبل النفي، تخبط الفضاء العربي في مزيد من الاشكاليات تحدّ من تواصله المتصالح مع العالم الفسيح، وتضعه في موقع المتلقي لصدمات المعاصرة، يخشى تدفق موجاتها المتتابعة والمتسارعة، ويعاني من فقدان الحصانة وقابلية الاستيعاب. أُخِذَ على الهندسة النظامية، المعنونة جامعة عربية، نشأتها في كنف الممالك المحافظة وميلها للتجاوب مع رغبات بريطانيا صاحبة النفوذ الأقوى شرق أوسطياً، آنذاك. سوى أن هذا الهيكل الاقليمي، ضعيف البُنيان، شكّل باكورة تجمع دولتي سبَّاق تأسس على قاعدة التعاون المتبادل والحماية النسبية، ووجد في الهوية العربية جامعاً يُعانق الحلم في وحدة مرجأة، مثابة بدل عن ضائع، وتعويض واعد محدود. أما من حيث خفي النيّات، فربما اختلطت الرغبة الصادقة، مع نازع انتهازي وقطرية مثبتة، لكن الحال العربية منتصف الأربعينات وإن حفلت بالغليان مشرقياً جرّاء القضم الصهيوني في فلسطين، لم تكن تشي بنضوج ممهدات الوحدة الشاملة، لتلتف الجامعة الوليدة على الضغط الشعبي، وتناط بها، جوهرياً، مهمة امتصاصه وإجهاض اندفاعته. ولقد أثبتت التطورات اللاحقة، من انقلابات عسكرية غلافها ثوري أطاحت بالملكية وبالنظام الدستوري في غير دولة، أنها لم تحسن استخدام أداة الجامعة العربية بنجاح أكبر، أم تستولد بدائل أكثر فاعلية وراهنية، فانزلقت الى اتحادات ووحدات مصغرة، سارت سريعاً نحو الاضمحلال، واستنفدت الشعارات الموصلة الى التنازع والشرذمة، ناهيك عن الهزائم العسكرية. إن الرجوع الى هذه الصفحات يؤشر على محدودية المقولة القومية التي تعزو المصاعب حصراً الى مسببات خارجية، وتجزم بأن بناء النظام العربي الفاعل، في كافة منازله وخيوطه، رهنٌ بالعامل السياسي الوحدوي، المُغيَّب تبعاً لانفصال أنظمة الحكم عن مراد شعوبها، وقعودها في كيانية تستجيب لتجزئة، أرادها الاستعمار وخطّطَ لها، لكبت النهوض وتغذية روح الفرقة. فما زال تشخيص الداء أسير عروض وجدانية خالصة، مرتكزها أحيائي يضرب جذوره ما قبل الحداثة، ويستعير العون من الغابر لشحن الحاضر وتوفير الطاقة لمحرِّكه. الحال، ان سائر المنظومات الاقليمية والقاريّة، الجاري بناؤها بنجاح والمستحدثة من الظروف التاريخية الناشئة، قلَّما رُسمت من وحي الامبرطوريات القديمة أو تطابقت مع خطوط حدودها واعتبرتها مرجع قباس. وفي هذا المجال، تفيد معاينة الوحدات التكاملية عن غياب الدافع القومي، وحلول روابط معاصرة في صلب نزعة التوحّد وقراره، تتجاوز صراعات وعداوات مزمنة، وتعزف عن المنحنى السلالي، القومي أو الاثني واللغوي، بدليل تشقق اللوحة السلافية والهندية والهندو - صينية والسكندينافية أو اللاتينية، والسقوط المدَوِّي للهندسات الجرمانية والطورانية والرومانية المتوسطية. يشكو النظام العربي من هشاشة مؤسسية وضعف فاعلية، غالباً ما يدين بيقظاتهِ المنقطعة من الرقابة الخمولة والجمود، الى تحدِّيات خارجية وانفعالات تضخ بعضاً من حياة في أوصاله، وتدفعه الى التخلي عن الطقوسية وتكرار المكرّر والأدبيات. أتاحت له التسووية الحكيمة فرصة البقاء والاستمرار، وحرمته قوة الدفع والتأقلم مع المستجدات، مخافة الانشطار والتشظِّي. اكتفى بضبط الخلافات وترميم العلاقات، يراوح في المكان والزمان، فلا هو بقادر على السير قدماً والنزول من شجرة العمل الفوقي، ولا هو بغافل عن ندرة حصاده، تستفزه إسرائيل في عقر داره، وعلى تخومِهِ يشغله صعود ورثة امبرطوريات بسطت نفوذها على مجاله وأجلسته في مدارها. ولئن عطّلت فترة الحرب الباردة بوصلته، وفرَّقت شمل الأسرة العربية نتيجة الانحياز لهذا المعسكر أو ذاك، أو الركون إلى صداقته وحمايته، ألقتْ الأحادية القطبية الأميركية بكامل ثقلها عليه بعد ان استدعى احتلال الكويت من جانب نظام صدَّام حسين أولاً. ومن ثم الارهاب المعولم أحداث 11 أيلول/سبتمبر أو غزوة نيويورك جيوشها وهندسات محافظيها الجدد المؤرقة الى قلب المنطقة. تمنح هذه اللوحة الجيو-استراتيجية البالغة التعقيد مقداراً من الأسباب التخفيفية في الحكم على النظام العربي، اذ أنه يواجه امتحاناً صعباً، تحاصره المؤثرات والتجاذبات، وتنال من قدرته على حياكة شبكة أمان مرضيّة، معترف بحصانتها، محترم كيانها. إنما على قدر أهل العزم تأتي العزائم، وأصل عاهة الكسيح عضوي وراثي تمثل في الاشتباك باكراً مع المعاصرة، والرهان على مفاعيل صحوة عجائبية أوقفت عوامل عزيمتها على العنفوان والتفوق الفطري القومي، وسحر الثورات/ الانقلابات والكفاية الذاتية المسيَِِّجة بفتاوى العلماء. إن نظرة معظم النخب العربية لأحوال العالم، توطئة لرسم المسار وبلورة المواقف، لطالما عيَّبتْ على رافعته الحضارية نزعتها المادية وبؤسها الروحاني، وبالتالي رفضت الإقرار بالعلاقة السببية، بين عناصر القوة والبيئة العقلانية النظامية، والمواءمة بين القاعدة العلمية/ التقنية والنشاط الدؤوب الخلاَّق لاكتساب المعارف ومضاعفة القُدرات عبر التضحيات الجسيمة. إنّ تجسير الهوّة الفاصلة عن ركب الحداثة، في أبعادها الكونية وتلاوينها، يحتاج الى مقدمات اجبارية وتصميم مفقود، لا ينفع في بلوغها نقل بليد أو استهلاك. بلغت مشتريات السلاح، من جانب أطراف المنظومة العربية، أرقاماً فلكية ، بموازاة عديد جرّار للجيوش العاملة، دون تحقيق توازن استراتيجي أو بناء مظلة دفاعية واقية ذاتية مع أي من القوى الاقليمية المجاورة ، الأقل عدداً وموارد. إثر حرب عام 1967 الكارثية، شكَّكَ الصف العربي بالسلاح السوفياتي ونسب اليه فشل العمليات. كما تسمَّرتْ دراسة نتائج حرب عام 1973 على النجاحات خلال أيامها الأولى وتدمير خط بارليف، متناسية خاتمتها القاسية، وبرَّرت حصيلتها الارتدادية بالجسر الجوِّي الذي أقامته الولاياتالمتحدة لامداد إسرائيل. إلى ذلك، غرق العراق، الخارج من حرب استنزاف مع إيران في مغامرة جديدة، وارتدَّ على داعميه ليحتلّ الكويت ويقع في مصيدة تحالف دولي، بقيادة أميركية، وينكشف عجز النظام العربي المُدمِّر مرتين عن توفير الوقاية والعلاج، واستدعائه قوات أجنبية للمرابطة على أراضيه. رغم قتامة المشهد العام، والفرص المهدورة، لا مفرّ من ترميم النظام العربي، لأن وجوده ومعافاته من أحكام الضرورة الموضوعية، في المنظور التاريخي وواقع الجغرافيا. فكلَّما بانت ثقوب جديدة في المركب العربي، من موريتانيا الى العراق، مروراً بالسودان وسواه، ازدادت الحاجة إلى حياضه ومرجعيته بالحاح. على أنه ينبغي في ضوء هذا التوكيد، عدم الاكتفاء بالمساحيق لتجميل واجهة البيت العربي شكلياً، بل إفشاء سرّ المعوِّقات الدفين، الكامن والعامل في أحشاء القالب الجامع والجسد العليل الخاص بالمبنى الثقافي والفكري المعوّج والخائف من التحولات والتجديد. هذه المكاشفة لزوم البدايات، تزيل الصدأ والتآكل وتنفض غبار السنوات. أما نصاب الجماعة الدولية، ذات المكانة وصاحبة الكلمة والاعتبار، فدليله النسق الديموقراطي والتوحّد الطوعي، وأفقه المساواة بين المكوِّنات على قاعدة السياديّة، والحد من التفاوت والفوارق بين الأفراد على أساس المواطنة والمساهمة في صُنع القرار. وقد يكون من عاجِل المهمَّات التخلص من مقيدات تقليدية شدَّدتْ على الأصالة والفرادة لمزيد جمود وتقوقع، والاقتباس من تجارب ونماذج حية معاصرة على سبيل إعادة تموضع المجموعة العربية والاعتراف بحقائق الواقع الدولي وموازين القوى والأحجام، على ما هي عليه. أي أنه حان وقت مغادرة دائرة مراعاة الماضويين والشموليين والقطع مع الممارسات الشوفينية والمفاخرة الفارغة وايقاف معزوفة المؤامرة الدائمة للتنصل من المسؤولية الذاتية واستبدال العمل الواعي بالبكائيات. * كاتب لبناني.