حيثما حلّت الجماعات، برز لون من التزاحم على المناصب، بلغ حد التنافس والإقصاء، وأدَّى في غابر الزمان، ولغاية العصر الحديث إلى تصفيات جسدية وجرائم مكتومة تكشَّفت مع تبدل الأحوال. تغيب أمثلة صارخة عن اللوحة في ما كان مجهولاً وبدا أنه عالم جديد، بينما يقتصر ذكرها في المجتمعات البدائية على المنقول المتواتر، وليس من تدوين معاصر للأفعال. وعلى معلوم نقيض، تكثر الشواهد المثبتة، المعززة بالوقائع، على المقترف من خصام دموي، في العالم القديم، من الصين الى أوروبا، ومن المحيط الهادىء الى الأطلسي. فعلى سبيل التعداد، لا الحصر، يُؤرَّخ للتصفيات التي رافقت تمدّد المغول والتتار واندفاعهم نحو الغرب، ولنزاعات أهل البيت مع الأمويين، ومن ثمَّ العباسيين، والمقتلة التي نزلت بالمماليك، وما أضحى تقليداً طوال قرون من تصفيات داخل أسرة بني عثمان. كذلك أعطت بريطانيا نموذجاً عن قسوة أهل الحكم في ما بين بطون النورمانديين، وتجسّدت إبادة طبقة النبلاء أوروبياً في معركة كريسي (1346)، لتتبعها، بفاصل قرنين، الحروب الدينية على مدى قرن، بلوغاً لمعاهدة وستفاليا عام 1648. وكانت الإمبرطورية الرومانية، بجناحيها الشرقي والغربي، مسرحاً دائماً للعبة الدسائس والموت وتوسل العنف في أعلى المراتب والهرم، وباتت إنجازاتها الحضارية تنوء بمشاهد المؤامرات وما عُرِفَ بثورات القصور، تلتهم نار العداوات أبناءها، وتضعف قدرتها على الصمود. وقريباً منا، مع بدايات العصر الحديث، افتتحت الثورة الفرنسية فصلاً دموياً جديداً في التاريخ، وأورثتنا الخوف من المقصلة، بمحموله المادي والجسدي، الإيحائي (الرمزي) المرادف للتنكيل السياسي في الحقبة الحاضرة. لئن أعطت الحرب الأهلية في الولاياتالمتحدة، منتصف القرن التاسع عشر، دفعاً للمساواة، فقد سطَّرت مجازر حقيقية بين الاتحاديين والكونفيدراليين، وتركت ندوباً قائمة وماثلة في الوجدان. غير أن روسيا، الخارجة من حكم قيصري استبدادي مديد، تفوقت بدورها على سابقاتها، إذ قادها البلاشفة وتخلصوا تباعاً من المناشفة، ليدخلها ستالين في دائرة الشك من الرفاق المقرّبين، ويلبسهم تهمة خيانة الشعب والدولة، ومختصر الطريق نحو الفولاغ وتلة الإعدام. نسوق هذه المحطات مثابة مدخل الى توكيد الحرفية البشرية في هذا المضمار، ودرءاً لإلصاق العنف الأخوي بثقافة أو حضارة أو نظام سياسي على وجه حصري. إنّ نزعة التخلص من ذوي القربى، أتحدَّروا سلالياً وعائلياً أم اتحدوا في الإيمان أو المقاصد الدنيوية، استمرت تؤول الى تغييب جسدي عبر التاريخ، وتأصلت في فضاءات بعينها، مخاصمة معايير الحداثة وأدواتها، فيما سارت المجتمعات الديموقراطية المعاصرة نحو مزيد من التسامح في فضّ النزاعات والاستهداف، واكتفت بإنفاذ الموت السياسي بديلاً من إراقة الدماء. وما من شك في ان زوال العنف الذي غدا سمة عامة في الحقل السياسي حيثما توافرت قواعد الاختيار الحرّ والرقابة الشعبية المعطوفة على عامل تقريري أساس، مكسب حضاري سار قدماً مع الرشد المجتمعي وشيوع ثقافة سمحة، عنوانهما المشترك القبول بالآخر، على أن يكون الاحتكام الدوري الى صندوق الاقتراع الفيصل، ومفتاح تداول السلطة وضمان ثبات المؤسسات. جاء ذلك حصيلة مخاض طويل اغتنى بتجارب رائدة خرجت من رحم التنوير، لا خطَّة الأوتوقراطية والفكر الكنسي الجامد، تراكم التجديد والتجاوز الدائم وتتلاقح لبلورة المزيد من الشفافية والعقلانية في السلوكيات. وحيث تفشّت عدوى الفاشية خلال حقبة الردّة، بانت نقيض الخط البياني الصاعد، وانكسرت شوكة أنظمتها التوسعية في حرب طاحنة ارادتها صناعة لتاريخ جديد يحمل بصماتها، انهار الى غير رجعة. كان ذلك نذير تحوّلات كبرى سوف يشهدها العالم في زمن الحرب الباردة، جرفت بدورها الشمولية بحلّتها الاشتراكية، وغلّبت حرية الفرد ومفهوم التنوع في الاختلاف، مرجعاً ومنهجاً، على وحدة العقيدة السياسية وزعامة الحزب الطليعي المنوطة بها شرطاً قيادة الأمة، ثمنها إقصاء الآخرين. بعد مسألة القوميات في القرن التاسع عشر، التي طبعت المشهد الأوروبي بخاصّة، وشغلت الأمبرطوريات المترامية الأطراف قارياً وفي البلدان النامية والمحميات، أذنت حرب عالمية أولى بولادة منظومات أحرزت تبدّلاً جذرياً في المعادلات، منها الاشتراكية مطلعها ثورة أكتوبر في روسيا القيصرية، ومنها الفاشية بتلاوينها النازيَّة والعصبوية ومشتقاتها. ولئن سقط المحور الفاشي في غضون عقدين، زالتْ نزعته المدانة في الجوهر والتعبيرات، باستثناء قلة من المقلدين، الجالسين على هامش الصيرورة التاريخية، العنصريين المفتونين بمبدأ القوة والزعيم الأوحد. على ضفة الاشتراكية، الواعدة بإنهاء الاستغلال الطبقي، وإحلال المساواة، بدا الأمر مختلفاً من جذوره ومبتغاه، وهيأ لكتلة دولية وازنة شقت طريقها بعيد الحرب العالمية الثانية. يُستدلّ من مجرى الأحداث في ذروة الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، أن الأخير اندثر في حدود الضم والفرز حول المركز المسكوبي، سواء في جمهوريات آسيا السوفياتية، أم في دول أوروبا الشرقية التي ترعرعت في كنف الجيش الأحمر وعدلت نظامها السياسي تبعاً لنصيب الاتحاد السوفياتي من تركة ما بعد الحرب. كما يُستخلص بقاء الدول المنبثقة من ثورات شعبية في شرق آسيا وكوبا على لونها الخاص، وانعطافة الصين وفيتنام تباعاً نحو اقتصاد العولمة الرأسمالي بجرعات انفتاح متفاوتة، فيما غرقت كوريا الشمالية في الانغلاق والعزلة، ووقفت كوبا معاندة بانتظار فك الاشتباك مع جارتها الأميركية العملاقة. من منتصف أربعينات القرن العشرين، لاحت بواكير تصفية الاستعمار في شبه القارة الهندية بادئاً، ثم كرَّت السبحة بالعشرات. مذ ذاك، دخلت هذه المجموعة المسرح الدولي، عاملة، من حيث المبدأ، على اللحاق بالركب وترجمة التحرر الوطني وئاماً يمحو آثار التبعية والتفرقة كونها مخلفات عهد بائد ووصمة عار. في الحساب البسيط، أقلعت دول معدودة في هذا الاتجاه، وراوح العديد مكانه في البدء، عازياً الجمود والبؤس إلى الطوق الأمبريالي. من هذا المنطلق، تعاقب عالمثالثيون، عسكرتاريا ونخب حركات انسلخت عن المتروبولات ونادت باختصار الطريق المؤدِّي الى التغيير الشامل، وما هي إلا سنوات، حتى دارت النزاعات بين أبناء الثورات، أشقاء الأمس القريب ومتعهِّدي التصحيح، على خلفية القبلية والتعصب الإثني والصراع على السلطة بأشكاله كافة وشعارات الخلاص. خنقت الديموقراطية في المهد واقعاً، وأسفرت دعوات التمايز حيال المستعمر القديم ومعاييره، عن اتجاهات استبدادية فردية شخصنت السلطة وأنزلت العقاب بالمناوئين والمعارضين. في المحصلة، ليس من المبالغة القول ان غالب الدول، المسماة نامية، قطع السبيل الى النمو المطرّد، وأفرغ الوعاء المجتمعي من خواصه، بذريعة زيف الديموقراطية المستوردة واجتراح البديل من خصائص وطنية تقوم على الأصالة وتحاكي المناخ الثقافي النابع من وجدان الأمة وقيمها الأبدية بأساليب مبتكرة بزَّت المعروف من اضطهاد سياسي. . لهذه الغاية، طاولت يد السلطة لاجئين مقيمين في الخارج وهاربين من وطنهم الأم، بعد رصد تحرِّكاتهم، وجنّدَت أجهزتها الأمنية عملاء نفّذوا المهمة الموكولة إليهم بمهارة وازدراء بقوانين الدول المضيفة. يصحّ في عملياتهم وصف الإرهاب المخطط له والمرعي من دوائر نافذة، والمؤيّد سرّاً من بعثات ديبلوماسية تحظى بالحصانة وتتنكّر للمواثيق والأعراف. وفي جنّات القادة الملهمين، من لم يُوفَّق بزنزانة في السجن الكبير، لحقت به لعنة الاغتيالات عمداً أو حادثاً عرضياً يرد في سجل اليوميات. * كاتب لبناني