تشكل مبيعات المجموعات الشعرية والأعمال الشعرية المسرحية لشيموس هيني أكثر من ثلثي مبيعات شعراء بريطانيا الأحياء خلال السنوات العشر الأخيرة، خصوصاً بعد حصول هيني على جائزة نوبل للآداب عام 1995. ويعد الشاعر الإيرلندي الشمالي واحداً من أهم شعراء العالم الناطق بالإنكليزية، وأهمَ شاعر إيرلندي بعد وليم بتلر ييتس، بل إنه يعد في الحقيقة وارث ذلك الشاعر الإيرلندي الكبير، سواء من حيث العالم الشعري الذي يغوص عميقاً في التقاليد والإرث الايرلنديين، أو من حيث محاولته الدائمة لتصعيد الوقائع السياسية وعدم التحول إلى شاعر لحظة سياسية. وكما جر هذا الانسحاب الرمزي من عالم السياسة اليومية والصراع الدامي في إيرلندا الشمالية الاتهامات، والغضب السياسي على وليم بتلر ييتس، ووجِه هيني بالاتهامات نفسها إلى درجة اتهامه بالخيانة عندما انتقل عام 1972من بلفاست إلى دبلن عاصمة ايرلندا الجنوبية ليعيش هناك، أو عندما ذهب إلى لندن عام 1988 لتسلم جائزة بريطانية. في ذلك الوقت كان الصراع الدموي قد اندلع بقوة وعنف بين الجيش الجمهوري الايرلندي والقوات البريطانية في إيرلندا الشمالية مسقط شيموس هيني. ولربما تكون الظروف السياسية التي أحاطت بتجربة هيني الشعرية هي التي دفعت عدداً من النقاد للربط بين محادثات السلام البريطانية - الايرلندية التي أجريت خلال منتصف التسعينات من القرن الماضي ومنح شيموس هيني جائزة نوبل للآداب عام 1995. لكن ارتباط اللحظتين السياسية والأدبية لا يقلل بأية صورة من الصور من مكانة هيني الشعرية وإبداعه الشخصي الذي تطور منذ نشر ديوانه الأول عام 1966 عن دار النشر البريطانية الشهيرة"فيبر أند فيبر". ويبدو أن ظروف ولادة هيني لأسرة كاثوليكية في إيرلندا الشمالية البروتستانتية الديانة، ونشأته في مزرعة في مقاطعة ديري، قد حددت عملية تطوره الشعري ووجهت حساسيته الأدبية ليصبح شاعراً رعوياً حديثاً تحتل الأرض ومتعلقاتها الحسية مركز عمله الشعري. في صباه فاز هيني بمنحة دراسية لمدرسة القديس كولَمب، ومن ثم انتقل إلى جامعة كوين في مدينة بلفاست البروتستانتية بعد حصوله على منحة أخرى تعطى للمتفوقين من أبناء المناطق الريفية. وأصبح في ذلك الوقت الأكبر سناً بين عدد من شعراء الجامعة الشباب، وهم: جون مونتاغيو وتوماس كينسيلا وريتشارد ميرفي وديريك ماهون ومايكل لونغلي. وقد لفت هؤلاء الشعراء الشباب الأنظار إليهم وأصبحوا في ما بعد من خيرة شعراء ايرلندا المعاصرين. ويشير هيني الى أنه خلال المرحلة الجامعية لم يبدأ كتابة الشعر إلا بعدما قرأ شعر الجيل الجديد ممثلاً بتيد هيوز وباتريك كافاناه و آر. اس. توماس، إضافة إلى زملائه من الشعراء الإيرلنديين الشباب. وما بين عامي 1989 و1994 عمل هيني أستاذاً لمادة الشعر في جامعة أكسفورد وأستاذ كرسي بويلستون للبلاغة والخطابة في جامعة هارفرد. نشر هيني شعره في بداية الستينات، وأصدر عام 1966ديوانه الأول"موت عالِم طبيعة"الذي تشكل طفولة هيني الريفية الخلفية المحفورة للكثير من قصائده. وتضم المجموعة الأخيرة عدداً من القصائد التي تتخذ من المكان الريفي أو الحيوانات موضوعاً لها، لكن ذلك لا يجعل من هيني شاعراً من شعراء الطبيعة، إذ إن ما يشده في التجربة الريفية هو المجتمع وتقاليده، والطقوس الريفية، ومهارة الحرفيين وأصحاب الصناعات اليدوية. كما أن الموضوعات الرئيسة في عمله الشعري تتمثل بالحفر عميقاً في تجربة النمو والنضج في ذلك الريف الإيرلندي. ومن هنا تبدو ذكريات الطفولة وتجاربها، وذكريات العائلة كذلك، هي المصدر الفعلي لأفضل قصائد هذه المجموعة ومجموعات شعرية تالية. ومن اللافت أن القصيدة الأولى في هذه المجموعة الشعرية هي في عنوان"حفر"، في إشارة واضحة الى جوهر ما يفعله الشاعر في قصائده، حيث يحفر في ذاكرته كاشفاً عن والده وحياته ثم يغوص عميقاً في حياة جدّه أيضاً، مشكلاً عالمه الشعري من المادة العائلية اليومية التي سيضفرها مستقبلاً مع جذور التجربة التاريخية الايرلندية. أهل المستنقعات يحدد هيني منذ البداية مشروعه الشعري، ذلك المشروع الذي يضع هدفاً له أن يمنح صوتاً للصامتين والمقموعين. ومع أن هيني يعمل في كتابه الشعري الأول على تفحص علاقته بتاريخ بلاده وماضي عائلته، إلا أن التطور الأساس الذي حدث في شعره يتمثل في ذلك الانتقال الحاد الذي نشاهده في شعره بدءاً من عام 1967 بعدما قرأ للمرة الأولى كتاب عالم الآثار الايرلندي بي. في. غلوب"أهل المستنقعات". أحدث ذلك الكتاب في شعر هيني تأثيراً عميقاً يماثل الأثر الذي أحدثه كتاب جيسي وستون"من الطقس إلى الرومانس"في شعر تي. اس. إليوت. لقد فتح كتاب"أهل المستنقعات"عينيه على المستويات العميقة لتطابق التاريخ والأسطورة. يقول هيني عن ذلك الكتاب إنه:"يركز بصورة أساسية على أجساد الرجال والنساء التي وجدت محفوظة في مستنقعات أراضي الجوت عارية، أو مشنوقة، او مقطوعة الأعناق، ترقد أسفل نبات الخُث نصف المتفحم منذ العصر الحديدي المبكر. ويجادل المؤلف بصورة مقنعة أن عدداً من هذه الاجساد، وعلى الأخص إنسان تولند الذي يُحتفظ برأسه في آروس في متحف سيلكيبيرغ، وقد كان جزءاً من طقس تضحية للإلهة الأم، إلهة الأرض التي كانت بحاجة إلى عرسان جدد تقطع رؤوسهم كل شتاء ليتزاوجوا معها في الربيع". يقول هيني في قصيدته"إنسان تولند": "في يوم من الأيام سأذهب إلى آروس لأرى رأسه البني بلون نسيج نباتي نصف متفحم، الأخاديدَ غير العميقة التي تعلو جفنيه، قلنسوتَه الجلدية المدببة. في الأرض الريفية المنبسطة القريبة حيث حفروا وأخرجوه، كانت الحبوب الشتوية لآخر ثريد تناوله مرصوصة جنباً إلى جنب في معدته، عارياً إلا من قلنسوته، والأنشوطة والطوق". أما في قصيدته"إنسان تولند"، فإننا نلحظ كذلك التأثير العميق لهذا الاكتشاف الأثرى في مجموعاته الشعرية التي أصدرها بعد عام 1966. فهو يتخذ من سكان المستنقعات نموذجاً بدئياً، حيث تمتزج في ذهن الشاعر صور هؤلاء الضحايا التي لا تنسى بصور الأعمال الوحشية التي ترتكب في الماضي والحاضر في طقوس الصراع السياسي والديني في ايرلندا، كما يشير هيني نفسه. والمجموعات الشعرية"باب يفضي إلى العتمة"1969، وپ"شتاء نحو الخارج"1972، وپ"شمال"1975 تستمد من هذا الفهم لطقس التضحية الماضي والمعاصر مادّتَها الشعرية التي منحت شعر هيني خصوصيته وعمقه. ويمكننا من خلال عناوين هذه المجموعات أن نحدد موضوعات هيني الشعرية: الطبيعة، والفصول، والخطر الذي يتهدد الحياة الايرلندية في المناطق الريفية، في الماضي، والحاضرِ الذي يسود فيه عدم الاستقرار السياسي. إن صورة الأرض الايرلندية التي تشربت دم الماضي واحتوت على عظامه تصبح رمزاً أساسياً ومفتاحياً في شعر هيني. وبهذه الطريقة تدخل الصراعات السياسية الحية والمريرة لإيرلندا المعاصرة شعر هيني من باب الاهتمام بالماضي ورموزه وطقوسه وعوالمه الدموية، في محاولة من الشاعر الايرلندي أن يتملص من التعبير المباشر عن مشكلات شعبه السياسية المعاصرة. وهو يتجنب بذلك تبسيط هذه المشكلات المعقدة، ويثبت في الوقت نفسه أنه ظل، منذ عام 1970، يدور حول مسألة جوهرية في داخله لا يستطيع القبض عليها أو فهمها، وهي مشكلة علاقة الشاعر المعاصر بالقضايا السياسية الراهنة لوطنه. وتعود هذه الحيرة والارتباك إلى عدم قدرة الشاعر على سجن نفسه في قالب الرؤى التبسيطية للصراعات بين البشر والشعوب، وعدم رغبته في تحويل شعره إلى معرض للآراء السياسية التي ترضي فريقاً وتغضب آخر. إن هيني المولود عام 1939 في موسبون على بعد ثلاثين ميلاً من مدينة بلفاست ، على رغم ما يبدو من انشغاله بماضي ايرلندا التاريخي وأساطيرها وطقوسها، شاعر معاصر بكل ما في الكلمة من معنى، وليس توجهه إلى الماضي إلا محاولة لفهم الحاضر والقبض على جوهر صراعاته. لكن هيني، ومنذ انتقاله للعيش في دبلن عام 1972، أصبح مهموماً أكثر بالحصار الذي يفرضه عليه دوره كشاعر مهتم في صورة عميقة بالمشكلات السياسية لإيرلندا المعاصرة. وتظهر هذه المشكلات بصورة لا تخطئها العين في قصائده التي كتبها بعد مجموعته"شمال"، خصوصاً في"عمل ميداني"1979، وپ"جزيرة المحطة"1984. في"قنديل الزعرور"1987 وپ"إبصار الأشياء"1991 يدخل شيموس هيني أرضاً تخيلية جديدة. قصائده هنا، خصوصاً في"قنديل الزعرور"، تستقصي موضوع الفقدان، الفقدان بعامة وفقدان والدة الشاعر بخاصة التي توفيت عام 1984. وهو يتأمل في الوقت نفسه وعيه ككاتب، ويعود بالطبع إلى ذكريات الطفولة والنضج، إلى حياة العائلة وأرض المستنقعات التي عبّر عن أسطورتها في شعره. ومن هنا يبدو عالمه الشعري متماسكاً حول موضوعات أساسية، ويتشكل حول صور تتطور من عمل إلى عمل شعري آخر. وهو يثبت من خلال تواصل تجربته الشعرية انه بالفعل حفار يقوم بالكشف عن ماضي شعبه وجذوره التاريخية من خلال الكتابة. يقول هيني في قصيدته"التابع": "بمحراث يجره حصان حرث أبي الأرض، كتفاه تكورتا مثل شراع مشدود بين مقبضي المحراث وثلم الحقل. والحصانان جاهدا مستجيبين للسانه الذي يطقطق. بمهارته وخبرته كان يثبت الذراع الجانبية ويثبت شفرة المحراث الفولاذية المدببة اللامعة. كان المرج يمتد بلا انقطاع على مرمى البصر. وفي المساحة غير المحروثة من الحقل كان الفريق الذي يتصبب عرقاً يروح ويجيء قاطعاً الأرض بعزم وقوة. عينه كانت تضيق وتستدير، وتحسب مساحة ثلم الحقل بدقة لافتة. كنت أتعثر فوق آثار نعليه على أرض الحقل، وأسقط أحياناً فوق أرض المرج المحروثة" كان أحياناً يردفني خلفه منحنياً إلى الأمام ومعتدلاً بقامته في مشيته المتهادية. كنت أتحرق شوقاً لأن أكبر وأتمكن من حراثة الحقل، أن أغلق عيناً واحدة وأشدّ ذراعي. لكن كل ما فعلته كان أنني تبعته متوارياً في ظله الكبير وهو يعبر المزرعة". أما في قصيدته"كير الحداد"، فإن شيموس هيني يرسم صورة رمزية للحداد: "كل ما أعرفه هو باب واحد يفضي إلى الظلام. وفي الخارج توجد محاور عجلات ودواليب عتيقة وطارات حديدية تصدأ" وفي الداخل حلقة سندان مطروقة قصيرة الانحدار، ثم مروحة الشرر غير المتوقعة أو الهسيس الصادر عن حذوة حصان جديدة تصير صلبة في الماء. ينبغي أن يكون السندان في مكان ما هناك في الوسط، مدبباً مثل قرن وحيد القرن، في مربع ما هناك، ثابتاً لا يتحرك: مذبحاً يضحي بنفسه شكلاً وموسيقى. أحياناً كان يميل مستنداً، بمريلته الجلدية والشعرات في أنفه، إلى حافة الباب مستعيداً أصوات قرقعة حوافر الأحصنة إذ تلمع صفوف الإشارات الضوئية" ثم يصر بأسنانه ويهرع إلى الداخل، صافقاً وراءه الباب / ليطرق الحديد الحقيقي وينفخ في الكير". أصدر شيموس هيني أكثر من مجموعة شعرية وكتاب نقدي ومسرحية منذ حصوله على نوبل للآداب، وقد لاقت هذه الكتب اهتماماً نقدياً ملحوظاً، وحققت رواجاً بين القراء. لكن موضوعات هيني الأثيرة، التي تدور حول إرث ايرلندا القديم وتاريخها الرعوي، ظلت مركز الاهتمام في شعره، كما في مجموعاته"ضوء الكهرباء"2001، وپ"المقاطعة والدائرة"2006 التي نال عليها جائزة تي إس. إليوت في السنة نفسها. لقد ظل هيني الذي أعاد ترجمة القصيدة الملحمية"بيوولف"الأنكلوساكسونية الشهيرة - مجهولة المؤلف - ترجمة جديدة عام 1999، شاعر ايرلندا الذي يجدل تاريخها وأساطيرها ورموزها القديمة بالتأثيرات الأنكلوساكسونية وحكايات عائلته الريفية وأحزانها الشخصية. إنه شاعر رعوي معاصر من طراز رفيع.