الرئيسان فلاديمير بوتين ونيكولا ساركوزي نموذجان أرى بينهما وجهاً للتشابه، فكلاهما يمثل نقطة تحول في سياسة بلاده الخارجية، كما أن كلاً منهما رئيس شاب نسبياً، يحمل جاذبية خاصة تعطيه درجة من الاهتمام الذي يبدو خصماً من الأضواء المسلطة فقط على كل ما هو قادم من الجانب الآخر من الأطلسي حيث العملاق الأميركي يفرض سطوته الفكرية والثقافية والإعلامية على العالم المعاصر. ورغم أن بوتين سيترك كرسي رئاسة روسيا الاتحادية إلا أنه سيظل يقود قاطرة الحكم من موقعه كرئيس للوزراء، والكل يعلم أن بوتين تولى الرئاسة في موسكو في ظروف صعبة للغاية إذ كانت ورطة روسيا شديدة في حرب الشيشان والأوضاع الاقتصادية غير مستقرة ودورها يتجه إلى الشحوب، بعد أن انسحبت عنها أضواء الاتحاد السوفياتي السابق ودخل بها الرئيس الراحل بوريس يلتسن مرحلة وصلت إلى حد السخرية الدولية إذ توحشت المافيا الجديدة وتدهورت الأوضاع بشكل ملحوظ. فجاء الرئيس الشاب - الذي تمرس في أعمال الاستخبارات وأصبح ابن"الكي. جي. بي."النابه - ليأخذ بيد روسيا الاتحادية إلى آفاق جديدة تستعيد بها قدراً كبيراً من نفوذها الإقليمي ومكانتها الدولية، أما نيكولا ساركوزي فهو رجل الاليزيه الذي جاء انتخابه متوقعاً منذ سنوات عدة بسبب مجموعة التحالفات الذكية التي قام بها ذلك الشاب الفرنسي المتحدر من أصول مجرية والذي لا تخلو دماؤه من قطرات يهودية وهو- باعترافه - صديق قريب من الولاياتالمتحدة الأميركية وإسرائيل وجرى الإعداد لدوره منذ سنوات، وهذا يدفعنا إلى أن نستعرض ملامح التأثير القادم من استمرار دور بوتين في ثوبه الجديد ودور ساركوزي بارتباطاته المعروفة وسجله الواضح، ولعلنا بذلك نناقش النقاط التالية: 1- إن كلاً من بوتين وساركوزي يمثل شريحة عمرية وسطى. ولا شك أن حيويتهما تعطي صبغة جديدة للمسرح السياسي الدولي وتخرج به من دائرة الروتين التقليدي في العلاقات الدولية إلى نماذج أخرى لها قبول عام لدى الأجيال الجديدة في مختلف أنحاء العالم. 2- إن أوروبا التي سعت إلى نوع من التوحد منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط حائط برلين كرمز لانتهاء التقسيم الايديولوجي للقارة بدأت مرحلة مختلفة إذ تفكر في البيت الأوروبي الواحد وتفتح أبواب أوروبا الغربية لمئات الآلاف من النازحين الذين يتطلعون إلى العمل ونموذج الحياة المختلف ودرجة الانصهار التي تطلعوا إليها من وراء الأسوار لعقود عديدة، ولا شك أن انهيار الاتحاد السوفياتي السابق كان علامة سلبية أدت إلى تحولات كبرى في العالم المعاصر وتركت بصماتها على نمط الحياة وطبيعة التحالفات وموازين القوى في عالم اليوم. 3- عند سقوط الاتحاد السوفياتي بدا الأمر - ولسنوات عدة - كما لو أن دول المعسكر الشرقي سترضخ برمتها للهيمنة الأميركية، وأن العالم يتجه نحو صيغة جديدة في العلاقات المعاصرة تتحول بها من مرحلة القطبية الثنائية إلى عصر السيطرة الأميركية الكاملة، خصوصاً أن ظلالاً من الشك كانت تغلف الدور الغامض الذي قام به آخر رئيس للاتحاد السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف مدعوماً من مواقف سابقة للبابا الراحل يوحنا بولس الثاني الذي دعم حركة"التضامن"في موطنه الأصلي بولندا فكان ذلك بمثابة أول مسمار يدق في نعش الأنظمة الشيوعية ويمهد للتغييرات الهائلة التي جاءت برجل من نوعية بوتين إلى كرسي السلطة كي يستعيد شيئاً من الهيبة الروسية المفقودة. 4- إذا أردنا أن نتخيل الفارق بين الماضي والحاضر فإننا نكتفي في ذلك بالمقارنة بين صورتين: الأولى للعملاق الفرنسي الراحل شارل ديغول بطل التحرير القومي في تاريخ فرنسا الحديث وهو يخطب في الجماهير في إحدى المناسبات الوطنية، وبين نيكولا ساركوزي وهو يهبط مع صديقته من الطائرة في مطار الأقصر في مصر ليقضي عطلة أعياد الميلاد. إنه فارق هائل بين العصر الديغولي صاحب النزعة الاستقلالية في التاريخ الفرنسي وبين الطراز الجديد لحكام من نوعية ساركوزي بارتباطه القوي بالولاياتالمتحدة الأميركية ورغبته في التعاون الكامل معها حتى أن أول تصريح له بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية كان رسالة تحية إلى واشنطن وسيد البيت الأبيض في محاولة سافرة للإعلان عن توجهاته المعروفة ودوره المرسوم. 5- لعلنا ندرك جميعاً أن دور روسيا الاتحادية وجمهورية فرنسا كان دوراً توفيقياً في الصراع العربي - الإسرائيلي وأن الدولتين مارستا قدراً من الاعتدال يبتعد عن النموذج البريطاني المؤيد بشكل مطلق للسياسة الأميركية في فلسطين والعراق وغيرهما من مناطق الصراع، وهو ما يعني أن الدولتين تمثلان دائماً إلى جانب دولة الصين ثالوثاً ملطفاً من غلواء سطوة القرار الأميركي. وكان ذلك واضحاً قبيل غزو الولاياتالمتحدة الأميركية للعراق وفي كثير من المناسبات المتصلة بالملف الإيراني أو المحطات المفصلية في الصراع العربي - الإسرائيلي. بل إننا نذهب إلى ما هو أبعد من ذلك لنتذكر ما أعلنه شارل ديغول عشية حرب حزيران يونيو 1967 إذ اتخذ قراراً بتوقف فرنسا عن إمداد السلاح للطرف الذي يبدأ العمل العسكري وهو موقف تاريخي كان يؤكد استقلالية فرنسا، بل إن موقف الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك قبيل الغزو الأميركي للعراق كان هو الآخر مصدر قلق لواشنطن جعل حماسها أشد لوصول ساركوزي إلى قصر الاليزيه. 6- وقف الاتحاد السوفياتي السابق ومن قبله روسيا القيصرية ومن بعده روسيا الاتحادية مواقف شديدة الاهتمام تجاه الدولة الفارسية لأسباب تتصل بالجوار الجغرافي والتداخل السكاني فضلاً عن المصالح المشتركة وحتى الاختلافات الطارئة، لذلك وقفت موسكو دائماً في خانة لا تعادي إيران بل تتعاطف معها لأسباب استراتيجية وأخرى جيوبوليتيكية. أما فرنسا فهي ترتبط بإيران على المستوى التجاري والاقتصادي فضلاً عن جالية إيرانية في عدد من المدن الغربية ومنها باريس وتأثير ذلك في بعض دوائر صنع القرار في الاليزيه، لذلك فإننا نظن أن الثنائي بوتين وساركوزي يمكن أن يلعب دوراً مهماً في ترطيب أجواء العلاقات الدولية وإن ظل ذلك محكوماً بالروابط التقليدية بين الدول الغربية على ضفتي الأطلسي. 7- لا تزال سورية تمثل محوراً مهماً وركيزة أساسية في التسوية المحتملة لأزمة الشرق الأوسط رغم أنها دولة ذات ارتباط تاريخي بفرنسا منذ فترة الاستعمار إلى جانب علاقتها الخاصة بالدولة اللبنانية والتي تجعل من فرنسا طرفاً أكثر اهتماماً بما يجري فيها، إلا أن أجندة سيد الاليزيه ساركوزي لا تتعامل بارتياح مع دمشق بل تبعث لها بتلميحات خشنة وتهديدات مغلفة، أما القيادة الروسية فهي تشعر بالتزام تاريخي تجاه سورية وتحرص على علاقات دافئة معها. 8- إن العلاقة الوثيقة بين المسار السياسي لنيكولا ساركوزي والولاياتالمتحدة تحاول أن تجعل من فرنسا دولة حليفة لواشنطن وكأن توني بلير جديد يقبع في الاليزيه، اما سياسات بوتين فهي غير داعمة للمواقف الأميركية اذ يرغب في إيجاد قرار روسي مستقل إلى الحد الذي جعل بعض الدوائر السياسية والديبلوماسية تطلق عليه القيصر الجديد، رغم تخفيه في موقعه الجديد كرئيس للوزراء خلف رئيس دولة من مريديه، إلا أن دور بوتين المتنامي في السياسة الدولية سيزداد وضوحاً في السنوات المقبلة وهو أمر يبدو قاسماً مشتركاً بينه وبين نيكولا ساركوزي. 9- إننا لا ننسى أن الزعيمين ينتميان إلى قارة واحدة وإلى منظومة دولية مشتركة، لذلك فإن المنظمات الدولية والتكتلات الإقليمية تبدو ساحات للتعاون والاختلاف أيضاً، فلفرنسا دور فاعل في حلف الأطلسي ولروسيا دور مؤثر في شرق القارة، وامتدادها الآسيوي أمر يجعل من القطبين الأوروبيين مركزي ثقل في وقت يتراجع فيه الدور البريطاني سياسياً بسبب ارتباطه إلى حد التبعية بالسياسات الأميركية دولياً وإقليمياً. 10- إن بوتين الذي يحرك الكرملين سواء كان بداخله أو خارجه يمضي بأسلوب الدب الروسي الذي يسعى نحو المياه الدافئة بينما يتصرف ساركوزي كمبعوث فوق العادة للسياسات الأميركية، بل التطلعات الإسرائيلية، وهو أمر يوحي بتركيبة جديدة في العلاقات الدولية ويعطي بُعداً مختلفاً للتحالفات المنتظرة لغرب الأطلسي وشرقه، كما أنه يدعم إلى حد كبير بعض السياسات الإسرائيلية ويعزز من دورها على المسرح الدولي وجود رجل في الاليزيه يختلف عن زعامة ديغول وحنكة ميتران ورؤية شيراك. كذلك فإن بوتين داعم للمواقف العربية والفلسطينية بالقدر الذي يجعله يختلف فقط عن السياسة الأميركية وإن التقى معها كلما برزت مصالح اقتصادية لبلاده تكون ذات ارتباط بواشنطن. هذه محاور وملاحظات أردنا منها أن تكون كاشفة لتطورات جديدة على الساحة الدولية ندرك معها حدود وقفتنا العربية في السنوات المقبلة وخصوصاً أن هناك من يرى أن هذه السنوات لن تكون مواتية بالضرورة لتحقيق الغايات العربية كافة حتى مع تغير الإدارة الأميركية الحالية وظهور تحولات في سياسة الحكومة الإسرائيلية. * كاتب مصري