لا تزال الموارد المادية والبشرية للعراق مرهونة بتوافر الشروط المسبقة الضرورية قبل اختيار الأهداف والخطط والبرامج التنفيذية اللازمة، للانطلاق نحو إعادة انشاء البنى الارتكازية وتأهيل القطاعات الاقتصادية نحو التنمية المطلوبة المستدامة. هذه الشروط هي في ذاتها قيود هيكلية، أما مفروضة أو ناجمة عن حقيقة أن الاقتصاد العراقي لايزال في مجمله"اقتصاداً تحت الاحتلال"وليس اقتصاد" مابعد الحرب". بيّن الواقع الفعلي بما لايقبل الشك، أن الإجراءات الإصلاحية التي أصدرتها "سلطة الاحتلال"، هي في جوهرها إجراءات إصلاحية تم تطبيقها في منتصف تسعينات القرن الماضي على اقتصادات أوروبا الشرقية ما زالت معطلة بسبب الكثير من المشاكل والمعوقات الهيكلية القائمة حالياً. فالإجراءات الإصلاحية هدفت إلى تحويل الاقتصاد العراقي إلى سوق مفتوحة من خلال فتح الأبواب على مصاريعها للأستثمار الأجنبي والشركات النفطية العالمية والقطاع الخاص المحلي، وتخصيص مؤسسات الدولة المنتجة وإصلاح قطاع المصارف واستقلالية البنك المركزي عن وزارة المال، ما يعني التوقف عن إقراض الوزارات العراقية والحق في اعتماد سياسة نقدية مستقلة تجسدت في اعتماده مبدأي سعر الصرف المرن وتحرير سعر الفائدة، التي تعتبر من أضعف الوسائل الاقتصادية التي يجب استكمالها بسياسة مالية فعالة إلى جانب إجراءات اقتصادية أخرى. في ظل الظروف الحالية التي يمر بها العراق من احتلال وعدم استقرار أمنياً ومؤسساتياً يصبح صعباً إجراء تقويم موضوعي لأداء الاقتصاد العراقي ورسم البرامج التنفيذية المناسبة. فتوافر الأمن شرط أساسي لازم من أجل تفعيل القرارات والإجراءات السياسية والاقتصادية والاجتماعية منها والبنية التحتية والعمل وتحسن الظروف المعيشية للمواطنين. كما أن غيابه يجعل من أية إجراءات اقتصادية إصلاحية ضرباً من العبث. تشير بعض التقديرات المستقلة بأن تكلفة إعادة بناء العراق تحتاج إلى أكثر من 200 بليون دولار. وهي تقديرات غير دقيقة وغير معبرة لعظم حجم الكوارث وتراكمها وإسقاط التكلفة الانسانية والاجتماعية من التقديرات المالية. وعلى رغم سعي الادارة الأميركية الى خفض المديونية الدولية للعراق وتوجيه الدول والمؤسسات الدولية الى مساعدته مالياً وتنموياً، إلا أن حجم المديونية وتعويضات حرب الخليج الكويت لا يزال كبيراً يثقل كاهل الاقتصاد، والدول المانحة لاتزال تتلكأ في إيداع الأموال بحجة عدم وضوح الآلية التي ستصرف بها. أما بالنسبة الى الموارد المالية للعراق فهي لاتزال تحت السيطرة الكاملة لسلطة الاحتلال وغير معروفة التفاصيل نظراً الى إحاطتها بالكثير من التعتيم ما يصعب الوقوف على الوضع المالي الفعلي ووضع تقديرات واقعية وبرامج اقتصادية تفصيلية وتحديد المدة التي يحتاجها العراق لاستكمال بنيته التحتية وإطلاق تنميته الاقتصادية. ومن أولى الخطوات في السياسات التصحيحية تخصيص التمويل اللازم لإعادة إعمار القطاع النفطي وتأهيله كونه قطاعاً مسيطراً على مجمل عملية الإصلاح الاقتصادي والتنمية. وفي هذا الخصوص للعراق في الأقل ثلاثة بدائل تمويلية تتمثل في: الاستثمار المباشر من خلال الموازنة العامة أو الاقتراض من البنوك بضمانة الإنتاج النفطي المستقبلي، أو من طريق قيام الشركات النفطية العالمية بتقديم الاستثمارات المطلوبة شرط عدم ربطها على المدى البعيد بالنفط المنتج، وأن تحرر العوائد النفطية من تكاليف التمويل من خلال اختيار نماذج عقود متوازنة ومرنة. والمقصود أن ملكية النفط تكون للدولة، والشركات تعامل كمقاول يعطى حق التشغيل والادارة بصلاحيات محددة ولفترات قصيرة نسبياً، وأن لا يتاح لها تحقيق أرباح عالية على حساب المصلحة العليا للعراق. ومن القطاعات الرئيسة التي يجب الاستثمار فيها أولاً، المصافي العراقية بتوظيف استثمارات كبيرة من أجل إعادة إصلاحها وتأهيلها وتوسيع بعضها وبناء مصاف جديدة بتقنيات حديثة. وليتحقق التكامل الأفقي والعمودي في قطاع النفط المسيطر، يجب توفير مستلزمات عمل شركات النفط الوطنية لأنها تمثل محوراً ارتكازياً رئيساً يحقق أهدافاً اقتصادية واجتماعية وسياسية في المدى القصير والمتوسط والبعيد. فالهدف من إنشائها وتفعيله في شكل كفوء يحدث نوعاً من التوازن مع شركات النفط العالمية في المجالات الفنية والمهارات الإدارية وقدرتها على تحقيق الأرباح التجارية. لذا فإن اعتماد صيغة المشاريع المشتركة مع شركات النفط العالمية بخاصة في مجالي الاستكشاف والإنتاج والتصفية وتسويق المنتجات النفطية للاستفادة من الخبرات الفنية والإدارية والتجارية يعتبر إجراء اقتصادياً محموداً. أما لإعادة بناء العراق، فيجب التوجه نحو طلب دعم المؤسسات المالية الدولية والبلدان الصناعية التي لا يزال موقفها يتسم بالسلبية والمماطلة في تحمل المسؤولية الدولية. فبالنسبة الى الاستثمارات الأجنبية يجب توفير العوامل المساعدة على استقطابها. أخيراً يمكن القول بأن الاقتصاد العراقي في دائرة مغلقة من الكوارث السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتداخلة، والتي يحتاج كسرها إلى قيام حكومة مركزية قوية تأخذ بالمبادئ والمعايير العامة المتفق عليها دولياً في عملية الإصلاح والتنمية الاقتصادية. ولكي يتسنى للاقتصاديين العراقيين وضع الخطط والبرامج اللازمة لا بد من توافر بعض الإجابات الواضحة عن التساؤلات التالية: - هل سينتهي احتلال العراق في الزمن المنظور؟ - هل بإمكانه الخروج من الظروف الحالية التي أوجدها الغزو والاحتلال والنزاعات الداخلية؟ - هل تقدر الدولة على السيطرة الأمنية والاقتصادية والاجتماعية؟ وهل بإمكانها مواجهة خسائرها في الأرواح والممتلكات والبنية التحتية والسلع والخدمات والتعافي منها؟ - ماهو واقع المالية العامة في الوقت الحاضر؟ - هل بإمكان الدولة إيجاد الحلول الناجعة لثلاث مشكلات مالية: - خفض تمويل التكاليف العسكرية والأمنية لمصلحة رفع حجم المساعدات الاجتماعية والانسانية وتوفير الحاجات الأساسية للمواطنين. - تمويل إعادة البناء والاعمار التي تعتمد على حجم ما حدث وما سيحدث من دمار في المستقبل؟ - تسوية التعويضات والمديونية الدولية، في شكل لا يعوّق عملية الاعمار والبناء. أسئلة لا نملك نحن الاقتصاديين العراقيين أجوبة تفصيلية واضحة عنها. * عضو منتدى الفكر العربي.