اعتمدت التوجهات الاقتصادية للعهد الملكي في العراق 1921-1958 على رفض التدخل الحكومي المباشر في الشؤون الاقتصادية. لذا اقتصر دور الدولة في تلك الفترة على الوظائف التقليدية فقط. ومع أن عقد الخمسينات شهد تنشيط مجلس الاعمار وبداية تكون القطاع العام وزيادة إيرادات النفط، فإن السياسة التنموية للدولة لم تكن واضحة واستمرت في تعزيز أوضاع الأمر الواقع. وتميزت الفترة من 1958 الى 1963 بمساهمة فاعلة للعوامل الخارجية في صوغ آليات النسق الاقتصادي. وكانت إجراءات الدولة في تلك الفترة خليطاً غير متجانس يعكس إما ضغط القوى الخارجية كلها كقانون الإصلاح الزراعي رقم 30 لسنة 1958 أو المعسكر الاشتراكي وأنصاره فقط قانون اتفاق التعاون الاقتصادي والفني بين الجمهورية العراقية واتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية رقم 52 لسنة 1959، أو يحابي المعسكر الرأسمالي بانتهاجه سياسة اقتصادية عامة تتسم بالتسامح والمرونة إزاء القطاع الخاص. وتقدم تأميمات عام 1964 التي تمت بموجب قوانين سُمّيت بالاشتراكية أيضاً دليلاً على تأثير النسق السياسي في عملية البناء الاقتصادي. في تلك الفترة إصدرت الدولة مجموعة من القوانين منها: - رسم الحدود الواضحة بين القطاع العام والقطاع الخاص. - والتأكيد على ان الاشتراكية العربية لا تعني سيطرة الدولة على اوجه النشاط الاقتصادي كافة، ما يترك مجالاً واسعاً للقطاع الخاص للعمل على تنشيط الحياة الاقتصادية. وبعد ثورة تموز يوليو 1968 ومجيء حزب البعث إلى السلطة، حددت الدولة مهماتها البنائية الداخلية في الفترة من 1968 الى 1973 كالآتي: 1- ان الاقتصاد الوطني اقتصاد موجه يتعاون فيه القطاعان الخاص والاشتراكي العام لتحقيق التنمية. 2- ان القطاع العام هو حجر الأساس في الاقتصاد الوطني بكل فروعه، سواء في الزراعة أو الصناعة أو التجارة أو الخدمات. اما القطاع الخاص فإنه لا يزال قادراً على أن يؤدي مهمات إيجابية في بناء الاشتراكية أيضاً عبر بناء الاقتصاد الوطني. ومن الضروري دعم هذا القطاع بتوجيه من القطاع العام وبالتعاون معه، ووفقاً للشروط والبرامج والقوانين التي تشرعها الدولة. 3- تشجيع رأس المال الوطني على بناء مشاريع صناعية صغيرة ومتوسطة وعلى الدخول في مشاريع مختلطة للاستفادة منه ومن خبرة البرجوازية الوطنية في هذا الميدان. اتسمت الفترة ما بعد 1974 بدرجة كبيرة من التفاعل بين المهمات البنائية الداخلية والخارجية. فعلى الصعيد الخارجي ارتبطت خصائص ومهمات نمط الدولة في تلك الفترة بالتأثير الناجم عن مد وانحسار العوائد النفطية من جهة، وعن الضغوط الإقليمية المباشرة كالحرب العراقية - الإيرانية والاحتلال العراقي للكويت والحصار الذي فرض على العراق وتداعياته من جهة أخرى. ومع زيادة عائدات النفط تراجعت أهمية تكوين وتراكم رأس المال الخاص، وتمت برمجة التوسع الأفقي للقطاع العام لا بهدف توفير التراكم وفق الطريق الرأسمالي وصولاً إلى استخدام هذا التراكم لأغراض التحول الاشتراكي من خلال تأميمه في مرحلة لاحقة، ولا بهدف توفير القدرة الاستثمارية للقطاع الخاص في الصناعة والزراعة والخدمات واستخدام رؤوس الأموال الخاصة المستثمرة المتجمعة لأغراض التطوير والبناء الاشتراكيين في المرحلة اللاحقة، وإنما بهدف زيادة قدرة أجهزة التطبيق الاشتراكي على تأدية لمهماتها الوطنية بشكل جيد ومتطور ومتوازن ومراعاة الخصوصية الوطنية وتأثير السياسة الدولية وطبيعة حركتها الاقتصادية على الصعيد العالمي عند التصدي لتأدية تلك المهمات. ووفقاً لهذه التوجهات تم بناء نسق اقتصادي قائم على الاستفادة من العائدات النفطية، وتحقيق التنمية بطريقة"انفجارية"تؤمن التطور السريع جداً والشامل لكل ميادين الحياة في المجتمع العراقي. ومع ثبات النسق السياسي وزيادة قدرة الدولة على تمويل الانفاق العام خصوصاً الفترة من 1974 الى 1980، تم تحويل ما تبقى من النشاطات الاقتصادية الخاصة ذات الطبيعة الرأسمالية إلى أنشطة ملحقة بمجالات عمل القطاع العام. ومع نشوب الحرب العراقية الإيرانية وتراجع العائدات النفطية، والنضوب التدريجي للاحتياطات من العملات الأجنبية وتزايد الاعتماد على القروض، طورت الدولة العراقية في الفترة من 1981 الى 1990 صيغ التعامل مع هذه المتغيرات بما يتسق مع منطق المرحلة التاريخية وظروفها الخاصة والمستجدة. وحددت الدولة موقفها من القطاع الخاص في أوائل الثمانينات كالآتي: 1- التأكيد على مشروعية الملكية الخاصة والنشاط الخاص في إطار المبادئ والقوانين الاشتراكية والمصالح العليا للدولة والمجتمع مع ضمان السيطرة الحاسمة للدولة على كل وسائل الانتاج الرئيسية ومنع تكوين البرجوازية على أساس استغلال الجماهير. 2- حجم النشاط الخاص واتجاهاته تحددها ظروف التغيير. وان التملك والنشاط الخاص إنما يقوم بدور محدد ومرسوم مركزياً، وليس المطلوب هو حكم النشاط الخاص غير الاستغلالي بالقوانين والاتجاهات العامة للاشتراكية فحسب، وإنما اخضاعه للسياسات المرحلية ونظرتها إلى ما يجب أن يقوم به من دور وحجم وطبيعة ذلك أيضاً. 3- إعادة النظر في الملكية الخاصة والنشاط الخاص من حيث النوع والحجم والاتجاه من حين الى آخر، ومن ميدان الى آخر، عبر صيغ متجددة، لتأمين التوازن المستمر بين مقتضيات التغيير الاشتراكي ومقتضيات الحد من تجاوز القطاع الخاص للآفاق المقررة له. 4- التأكيد على ضرورة القطاع الخاص للحياة الاشتراكية المنشودة"سواء الآن أو على المدى البعيد وإلى ما لا نهاية"والتأكيد بالتالي على ضرورة وجوده في كل المراحل وعبر مختلف الصيغ. كما تجلى أحد أهم قرارات الدولة العراقية التي ارتبطت بالحرب العراقية الإيرانية في تبني سلسلة إجراءات لتشجيع القطاع الخاص. وتُوّجت هذه الإجراءات باعتماد الدولة رسمياً سياسة التخصيص عام 1987 كمخرج من المشكلات الاقتصادية المتفاقمة، واعلنت الدولة عن برنامج اقتصادي تم بموجبه بيع عدد من المنشآت العامة إلى القطاع الخاص، وإطلاق الحدود العليا لرأسمال الشركات وتقديم تسهيلات ائتمانية ميسرة وحوافز عدة للاستثمارات العربية وتحرير أسعار السلع الزراعية وأسعار الكثير من السلع المصنعة وإنشاء سوق للأوراق المالية والسماح للقطاع الخاص بالدخول في نشاطات منافسة للقطاع العام في مجالات الزراعة والصناعة والتجارة والمصارف والتأمين. ومثلما تم تكليف القطاع الخاص بجزء من مهمات عملية الانتقال نحو الاشتراكية بريادة الدولة، تم تكليفه بالمساهمة في ملكية وإدارة عدد كبير من المشاريع ذات الطابع العام وتحويله تدريجياً إلى قطاع مشارك وفاعل في إدارة الاقتصاد الوطني. إختارت الدولة العراقية على مدى أكثر من أربعين عاماً الاعتماد المتزايد على النفط كمصدر رئيسي للإيرادات العامة، ولم تؤد تلك السياسة الى تكثيف الأبعاد السلبية للصدمات الخارجية المرتبطة بسوق النفط فحسب، بل قادت أيضاً إلى تجاهل القطاع الخاص والإحساس بعدم الحاجة إلى دوره ومدخراته في دعم عملية التنمية وتمويلها. وبسبب ضعف علاقات التداخل الصناعي بين قطاع استخراج النفط الخام والقطاعات الاقتصادية الأخرى، ظل القطاع الخاص الوطني عاجزاً عن الاستفادة من نمو هذا القطاع ومن ريعه الخارجي بل وحتى من أساليب انفاق هذا الريع. وأدت عملية إعادة بناء القطاع الخاص إلى تغير بنية هذا القطاع وإلى تراجع قوته الاقتصادية تدريجياً اعتباراً من منتصف السبعينات، حين كان نصيبه من اجمالي الناتج المحلي 76 في المئة عام 1965، ولم يعد يساهم عام 1980 إلا بنسبة 21 في المئة. ومع تراجع القوة الاقتصادية للدولة، بتراجع عائداتها النفطية، وكذلك إعلان الدولة عام 1987 عن برنامج اقتصادي تخصيصي، كما أشرنا، ارتفعت مساهمة القطاع الخاص في اجمالي الناتج المحلي إلى 65.7 في المئة، و90 في المئة و92 في المئة اعوام 1990 و1998 و2000 على التوالي. وأظهرت أحدث نشرات الجهاز المركزي للإحصاء عام 2002 أن القطاع الخاص يهيمن هيمنة حقيقة على قطاعات الزراعة والغابات والصيد وصيد الأسماك وملكية دور السكن والنقل والمواصلات والتخزين وتجارة الجملة والتجزئة والفنادق، ويغطي 86 في المئة من نشاطات قطاع البناء والتشييد. بينما يهيمن القطاع العام على قطاع الماء والكهرباء، ويسيطر على 91 في المئة من قطاع التعدين النفط والمنتجات الأخرى و6.91 في المئة من قطاع البنوك والتأمين و8.71 في المئة من قطاع الخدمات الاجتماعية والشخصية و8.60 في المئة من قطاع الصناعة التحويلية. وشكلت مساهمة القطاع الخاص في الزراعة 37 في المئة، ثم في قطاعات النقل والمواصلات والتخزين وقطاع تجارة الجملة والتجزئة بنسب تراوح بين 21 و22 في المئة. وتشير الأرقام الى طبيعة ومضمون القطاع الخاص في العراق، الذي يتركز في الزراعة والأنشطة التوزيعية والخدمية فقط. ونتيجة لذلك كان الحصاد هزيلاً، وتركزت الاستثمارات الخاصة في قطاع الخدمات التعليمية والعقارات وبعض الصناعات الغذائية والجلود والأثاث والملابس الجاهزة والطباعة، ولم تتجه إلى المجالات التي كان العراق يحتاج الى تركيز الاستثمارات فيها، وتحديداً قطاع الصناعات الثقيلة والهندسية والكيماويات والحراريات والسلع الاستهلاكية الضرورية والمعمرة وتكنولوجيا المعلومات. وأدى إصرار الدولة العراقية على الهيمنة المطلقة على مصادر التراكم الرأسمالي المحلي والإمكانات المتعددة لاستخدامه إلى ضعف وعجز القطاع الخاص عن القيام بدور كبير ومهم في عملية التنمية. وعندما شكلت التغيرات السلبية في سوق النفط العالمية وضغوط الحرب العراقية الإيرانية وتداعيات الاحتلال العراقي للكويت والحصار الاقتصادي نوعاً من الضغط باتجاه منح القطاع الخاص دوراً في النشاط الاقتصادي، ومع أن هذا الدور كان خياراً وطنياً اتخذ في ما بعد أشكالاً إجرائية ورسمية محددة، لم يستطع القطاع الخاص الاستفادة من التوجهات الجديدة لمصلحة. ويعود ذلك الى دخول القطاع الخاص تلك المرحلة ببنية هشة وضعيفة بعد سلسلة متلاحقة من عمليات التحجيم والإهمال وإعادة البناء التي تعاقبت عليه منذ عام 1958. يشار الى أن وجود قطاع عام في العراق ضروري ومطلوب. ذلك أن المبررات التي دعت إلى تكوينه في الماضي لا تزال مطروحة. فهو مطلوب سياسياً لتأكيد السيادة والاستقلال الوطني وتهيئة مناخ مواتٍ لمشاركة جميع المواطنين في صوغ سياسات الدولة. ومطلوب اقتصادياً من أجل قيادة عملية التنمية. فقد استطاع ذلك القطاع في السبعينات وبداية الثمانينات أن يستعيد السيطرة على الفائض الاقتصادي في القطاع النفطي الذي هيمنت عليه القوى الأجنبية فترة طويلة من الزمن، وأمسكت الدولة بالخيوط الأساسية للصناعة الاستخراجية والتحويلية وقطاع التجارة الخارجية، وأدى هذا إلى تحقيق معدلات عالية من النمو الاقتصادي في تلك الفترة. وانعكس ذلك في ارتفاع معدلات النمو في الدخل القومي والتوسع في التراكم الرأسمالي وتأسيس قاعدة صناعية كبيرة وارتفاع معدل دخل الفرد، وفي الخدمات الاجتماعية التي كانت تقدمها الدولة. أما القطاع الخاص، فمن الضروري أن يلعب دوراً بارزاً في عملية التنمية الاقتصادية ضمن الاستراتيجية العامة للدولة. ويمكن إيجاد الصيغ الملائمة للعلاقة بين القطاع العام والقطاع الخاص، على أن يبقى للقطاع العام الدور المهم في عملية التنمية، مع تنشيط الفاعليات الاقتصادية لمؤسسات المجتمع المدني واشراكها في عملية التنمية الاقتصادية. وفي الختام نشير الى قضية أساسية هي أن دور الدولة مهم في الاقتصاد العراقي كما هي الحال في كل الدول النفطية المهمة بسبب ملكية الدولة لقطاع النفط والتي لا يمكن التفريط فيها عن طريق الخصخصة لأنها على صلة مباشرة بالسيادة الوطنية الذي يعتبر مكوناً أساسياً في إجمالي الناتج القومي وفي مجموع الصادرات وإيرادات التحويل الخارجي. ولكن يتوقع ان يكون دور الدولة الان مختلفاً عن دور التفرد السابق وضمن نموذج مختلط يجمع بين الدولة والقطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني. والنمط المختلط هو السائد في كل أنحاء العالم تقريبا. فاقتصاد السوق لا ينكر وجود الدولة أو أهميتها كما لا ينكر دور مؤسسات المجتمع المدني، وإنما على العكس يضع نظام السوق عبئاً كبيراً على الدولة كي تختار السياسات الاقتصادية الملائمة. ولتمويل التنمية في العراق لا بد من الاستعانة بالاستثمار الأجنبي المباشر. فليس من مصلحة العراق بيع مؤسسات القطاع العام إلى استثمارات أجنبية، وإنما تشجيع الاستثمارات الأجنبية على البدء باستثمارات جديدة تتطلب مبالغ كبيرة يعجز عنها القطاع الخاص العراقي أو الدولة وبشروط معينة كنقل التكنولوجيا والوصول إلى أسواق التصدير ونقل أساليب حديثة في الإدارة وزيادة التشغيل وتدريب القوى العاملة الوطنية. بروفسور في الاقتصاد ومستشار اقتصادي في جامعة الدول العربية