انتهيت لأيام من قراءة كتاب سالم حميش، بعنوانه اللافت،"هذا الأندلسي". لو لم أقرأ سابقاً مقالة قصيرة حول الكتاب لم عرفت ما يحوي. طريقة جيدة في اغواء القارئ، وحافز متجدد لي كقارئ لعدم التوقف عند العناوين فقط. لم اقرأ كتاب حميش السابق"العلامة"وهذه هفوة أرجو عليها مغفرة. بكل الاحوال يتناول كتاب هذا الأندلسي سيرة ابن سبعين. والأمر يعنيني مباشرة. ولن أروي سيرتي معه بل سأذكر استعادياً، بانني قد باشرت الاهتمام بابن سبعين منذ السبعينات. اذ اكملت في العام 1977 اعداد أطروحتي للدكتوراه عن هذا المتصوف الفيلسوف في المانيا باشراف الاستاذ جوزن فان اس في جامعة توبنجن وفي معهدها للأبحاث الشرقية. قد اكون قد أهملت ابن سبعين بعد ذلك، ولكن لفترات بالطبع. اذ اصدرت ومنذ العام 1978 العديد من المقالات حوله، وحول طريقته وحول نوع التصوف الذي اخذ به، وحول المدرسة الصوفية التي انتمي اليها كما اصدرت كتابه المعروف الذي يتكرر اسمه مراراً في هذه الرواية، وأعني به كتابه"بد العارف وعقيدة المحقق المقرب الكاشف وطريقة السالك العاكف". صدر الكتاب عن دار الاندلس ودار الكندي عام 1978 محققاً مع مقدمة توضيحية. أعادني كتاب سالم حميش الى جو التصوف ووضعني امام سيرة في شكل روائي جميل، تستعيد ما تعلق بابن سبعين فتذكرت الرجل، وعدت الى الوراء سنوات، أي لسنين الدراسة والبحث والتنقيب وأعجبني جداً ان أجد سالم حميش قد استعاد ايضاً خطوات متعددة من الدراسة او الدراسات التي اعدت ونشرت. ما فتح عيني على طريقة اخرى في مقاربة الفكر، الفكر الاسلامي العربي او أي فكر آخر. وبكل الاحوال تلقى كتابة سير الفكر والمفكرين رواجاً حسناً الآن في الغرب كما في سواه. وبالشكل يعتبر ذلك أسلوباً حميداً وجيداً ومفيداً ايضاً. منذ مطلع الكتاب نجد ابن سبعين، وهو صوفي من اصل اندلسي انتقل بعد ذلك الى المغرب فمصر فمكة حيث مات، يبحث عن ضالة ما. وهي مخطوط اضاعه. لم أتصور ولم استطع وأنا القارئ، ان اعرف ما هو المخطوط الضائع، وليس مهماً لي ان اعرف. حسبي ان أتصور ان ابن سبعين يبحث عن ضالة ما. وهذا هو شأن الصوفي بالطبع يبحث عن شيء فقده، وهو عنده، او فيه اوله او وجود بحدسه وبحسه ولكنه لا يراه ولا يدركه الا لماماً. كالمخطوط الذي يشكل جزءاً من حبكة السيرة الرواية. والضالة هذه ولأنها المخطوط، فهي حاضنة العلم او لنقل بلغة اخرى انها مستودع ما يريده الصوفي. المستودع المعروف او الموهوم ونقطة الوصول بكل الاحوال فابن سبعين يبحث عما اضاعه بداية، يسأل عنه في احلامه وفي كل لقاءاته، وسط الرواية وفي نهايتها او في خاتمتها. وفي لقاءاته مع الآخرين نساء كن او من مريديه ومعاونيه الاقربين. المخطوط يعني ربما مشروعه الفلسفي او الصوفي وهو مشروع سيقوم ببنائه حلقة بعد حلقة. وأقول نساء بداية، اذ هكذا تبدأ السيرة. في مرحلة اولى من قراءتي انتابني شعور ان المرأة هنا ضالة أخرى. وهي صنو المعرفة. او ربما كانت هذه الضالة هي المعرفة الاخرى. لكن الامر المفاجئ لي ان المرأة قد ظلت في هذه السيرة نصفاً آخر. لم اعهد في الادبيات الصوفية حديثاً مفصلاً عن المرأة. أعرف ان بعض الصوفية كان يقع مغشياً عليه ان صادف امرأة جميلة، بل غلاماً جميلاً وذلك من فرط وجده وتوهمه. والتوهم كلمة صوفية أطلقها المحاسبي، انه يرى في ذلك تعبيراً عن حسن خلق الله. او صورة عن هذا الوجود الحسن وهذا مألوف في فلسفات وحدة الوجود. وابن سبعين واحد منهم. لكن قصة ابن سبعين مع المرأة في هذه الرواية السيرة لم توصلني الى كثير من الهداية حول ما أعرف من تصوف. تشابهت عندي بعد ذلك صورة عدم وصول عائلة ابن سبعين مع ما اعرفه من انتظار ابن خلدون لعائلته في مصر وعدم وصولها ايضاً. وهذا شأن آخر بكل الاحوال. قدر المرأة عند سالم حميش ان تظل هنا رمزاً. وكان تفكيك الرمز هذا عندي صعباً. علماً انه اعطانا صوراً نفسية متعددة لانماط من النساء، من كل الاديان ومن كل الطبقات. ومن كل الاحوال النفسية، الشبقة، الوادعة، الوادعة وحتى السحاقية. وأظن ذلك كان تفصيلاً على ايقاع الرواية. او ربما كان في احسن الاحوال من مستلزمات البحث الصوفي. عن التجربة بالمعنى المسيحي عن الاغراء، عن تجاوز الذات. وربما كان ذلك ايضاً اقراراً بأن هذا الصوفي قد جرب في حياته. او لنقل خاض تجربة الحياة وانتصر بعد ذلك على نفسه. فتعبد وتصوف وكانت طريقته مجال بحثنا اليوم. اذ اهتدى علمياً وأدبياً ونفسياً وبلغ درجة يقين يبحث عنه. فاجأتني الرواية ايضاً بتفاصيل لا بد من الدخول فيها. فهي اولاً مع استنادها الى نصوص مأثورة من ابن سبعين وعنه ومن مريديه ومن طلابه، قد توسعت جداً لتطاول الواقع السياسي ببعض تفاصيله، منها ما كانت الاندلس مسرحاً له ومنها ما شهده في سبتة وأخيراً في مكة. وقد اضفت السيرة على هذا الواقع مسحة لم اعرفها في ادبيات ابن سبعين كالأسي على فقدان الاندلس وان كان ذلك من الوجدانيات التي شهدتها آداب تلك المرحلة. ولكن اللافت مع التوقف عند مراسلة ابن سبعين مع فرديريك الثاني عبر ابن خلاص والي سبتة آنذاك هو اعطاء تفاصيل لم استطع لملمتها وعدم التوسع بمضمون هذا التراسل بالذات. وان كان من المعروف ان ابن سبعين قد استعمل اسلوباً جافاً مترفعاً. لكن المعروف ايضاً مع طرافة ما جرى، وقوعه في اخطاء لم تجعله يفي هذه المراسلة حقها العلمي او لنقل الفلسفي. ثم ان الاقتباس من الكتاب الأكبر لابن سبعين قد ظل عنده حد أدنى، وكان الاستناد الى الرسائل التي نشرها عبدالرحمن بدوي أكثر تفصيلاً. بذهني ان ابن سبعين قد استند الى مدرسة تعود جذورها الى ابن مسرة عبر سلسلة مقبولة تمر بالشوذي، المتصوف الشعبي، وبابن المرأة أو ابن اصلى وعبر المعروفين الآخرين كابن قسي وابن برجان وابن العريف. وهذا ما اشار اليه المؤلف مراراً. لكن هذه الطريقة التي كان كما تقول السيرة لها العديد من المريدين الذين يتهافتون عليه في كل موقع ومكان اقام فيه لم تتضح معالمها هنا. فلا نجد اشارات كثيرة الى المسالك التي كان يأمر بها. إلا ما كان من اشارة الى عهد ابن سبعين، والى شرح العهد وهو لأحد مريديه كما يظن. علماً ان الرسائل وكذلك بد العارف قد حددا معالم هذه الطريقة، وما هو مقبول فيها وما هو مرذول. قال ابن سبعين بوجدة الوجود. ولكنه قال ذلك بعبارات غامضة. يعرف أولها ولا يدرك آخرها، أو تعرف في جملتها ولا تعرف بتفاصيلها. وهذا ما قاله العديد من مؤرخي فترته التاريخية كابن خلدون ولسان الدين ابن الخطيب وسواهما، لكن لابن سبعين طريقة: السبعينية. ولهذه الطريقة نظرية في المعرفة وفي وحدة الوجود، لم نجد كل معالمها في هذه الرواية. مع كل الجهد المبذول من جانب حميش. ربما لا يكون ذلك مقصوداً في ذاته في سيرة أو في رواية تروي سيرة ما. لكن الاسهاب في تحديد لقاءات المريدين بالمحقق وبالقطب يقتضي بعض العودة لاعطاء تفاصيل معينة. لنظرته الى النفس، واكتساب المعارف والارتقاء بها واستخدامها. والالتزام بسلوك صوفي يوصل الى ذلك. لا علم لي أيضاً كيف دخل تراث ابي حيان التوحيدي هذه البقعة من الافكار. وأن كان المعروف عنه شيئاً من التصوف لا سيما في التفسير. كما لا اعرف ان كان الخيام معروفاً عند من يؤرخ له. من جانبي ايضاً، ارى ان هذه السيرة قد تشعبت في جزء، ربما كان الأخير منها، الى سيرتين. سيرة الششتري وسيرة ابن سبعين. أو ربما اراد ان يكمل سيرة احدهما بالآخر. يظهر الششتري منذ وقت مبكر في السيرة وظني أو على حد علمي انه قد حمل السبعينية في مرحلة متأخرة. بكل الاحوال ما نشهده هنا هو اندماج هذه الشخصية مع شخصية ابن سبعين. أفهم الأمر بأن تكون السبعينية قد انتشرت باسهام الششتري. أما ما أجده هنا فهو أن الششتري كان الى حد ما شريك ابن سبعين في تكوين السبعينية الى الحد الذي يبدو فيه الششتري بطلاً بالمعنى الروائي والتاريخي ربما، للكلمة. يظل بطلاً ثانوياً دون شك. ولكنه قد اعطى مساحة جيدة ربما على حساب علاقة ابن سبعين مع من كان قبله. حساب بيدر لا حساب زرع. الاشارات الاخرى لعلاقة ابن سبعين بالشخصيات الصوفية تظل عند حدود المعقولية. لفتني الاهتمام الذي اعطي للسياسة من منظور معين. وهو الاسهام الصوفي في السياسة، ناهيك عن بيعة أهل مكة باشراف وادارة أميرها ابي نمي للدولة الحفصية، الامر الذي ينسب عادة لابن سبعين تدبيراً وممارسة. مع عدم اتيانه ثمراً كما نعلم. لكن اللافت لي كان الربط بين شعبية ابن سبعين وشعبية ابن قسي مثلاً، أو شعبية ابن العريف وابن برجان. والقدر المشابه لهؤلاء جميعاً مع السلطة. اعادتني الرواية فعلاً الى تفاصيل اعرفها، وقمت بنشرها في مقدمة يد العارف، وفي مجلة الباحث وفي دوريات اخرى، اذ تناولت علاقة التصوف بالسلطة. وقد احسن سالم حميش اظهار ذلك مع تذكيري بأن كلامه عن فقدان السلطة في الاندلس والرثاء لهذه الحالة قد ظل ضمن ادبيات هذه المرحلة. وبكل الاحوال، ان اطلاق الخيال هنا يظل برمته جيداً وفي مكانه. فالحالة المزرية وتطاصن ملوك الطوائف وموقف احد اخوة ابن سبعين يعطينا لمحة عن ذلك وقد احسن حميش استغلال هذه النقطة بالذات. من هذه الزاوية يكون الحديث عن السبعينية في حدود ما كان يقدر للتصوف أن يكون فاعلاً في السياسة. ولكن انتقال الطريقة الى مصر فمكة قد اضعف هذا الدور وربما انهاه. بكل الاحوال تطالعنا في هذه السيرة، كما في بطون الكتب احاديث، سلبية مستمرة لعلاقة ابن سبعين بالسلطة ومن حولها شأن فقهاء السلطان وقضاة الامراء، ومع الولاة ايضاً. ماذا استفدت أنا من سيرة ابن سبعين؟ سأعمد بعدها لقراءة كتاب حميش،"العلامة"، وهي عن ابن خلدون، وقد وضع هذا لنفسه سيرة ذاتية الى حد ما. استفدت بالعودة بخيالي لزمن التحصيل الاكاديمي. واستفدت ان اجد ابن سبعين على اكثر من لسان. اعترف اني بعد دراستي لم اولي التصوف العناية التي يستحق. صحيح اني قد نشرت بعض النصوص لابن سبعين ولسواه. وقد احتفظت بمخطوطات ونصوص اخرى، قلت دائماً، اني سأعود اليها. وربما قد حان وقت ذلك. فالمسائل الصقلية وهي من نصوص ابن سبعين الهامة ما زالت شبه مجهولة، اذ نشرت منذ اكثر من ستة عقود. لذلك لا بد من اعادة نشرها. اعرف ارتباط التصوف بالاجتماع، وبحركة الفكر هذا ما يمكن العودة اليه باستمرار ومن هذه الزاوية ستكون رواية سالم حميش"هذا الاندلسي"لا عنواناً وحسب، بل امكانية توضع بتصرف القراء والمشتغلين لاستعادة هذا التراث واثره وتأثيره على اصعد متعددة. انها طريقة اخرى في رؤية الامور. وهي طريقة جيدة من دون شك. أخيراً أعترف بجهلي أصول النقد الأدبي الروائي وغير الروائي. ان الانشغال بالفكر بطرق عقلانية قد يبعد المرء عن حلاوة الصور المتعددة، المنتشرة في أركان الرواية وزواياها. ولكن عليّ ان أقول إن هذه المسيرة الرواية قد شدتني فعلاً. سواء كنت موافقاً على جديتها وغير موافق على كل تفاصيلها. فالخيال جزء من لعبة المؤلف. ولكن هذا الخيال لم يكن شديداً دائماً، بل جهد قدر المستطاع ليرتبط بالواقع. وسواء وجد ابن سبعين مخطوطة الضائع أو لم يجده. فقد وجدت أنا، القارئ، وأرجو ان يكون غيري مثلي، وجدت المتعة التي نفتقدها في قراءات كثيرة. أعلم ان قراءة يد العارف، مثل قراءة المسائل الصقلية لن تشد القارئ كثيراً، فابن سبعين يحلق أحياناً في أماكن ربما لا يريد الوصول إليها. والسيرة تقر ذلك في بعض المقاطع إذ تروي انه نسي انه قال ذلك أو قال مثله، بل عكسه أحياناً. والقراءة النفسية لابن سبعين كما يقترح الأستاذ لويس ماسينيون قد لا تكون إلا اقتراحاً، فهذه الشخصية قد تأسر القارئ، كما كان ماسينيون الحلاج وعذاباته. أخيراً وبالعذبات ننتهي. لا أدري لماذا أعرض سالم حميش عن الرواية من التصديق، وهي ان ابن سبعين قد انتحر فعلاً ليتقرب إلى الله أو ليصل سريعاً للاتحاد به. ولما كان الخيال هنا حيلة للتخلص من هذه الواقعة غير المألوفة. علماً انها ليست بالحالة الوحيدة. وثمة مقالات تناولت الانتحار في الإسلام وعددت العديد من المنتحرين ومن فيهم بعض أهل التصوف. لكن سالم حميش قد أبى لبطله إلا ان يموت بطلاً، حتى لو كان مطارداً. أو حتى لو كان قد سعى إليه الموت ان صح القول بجريرة آخر، أو بفعل الموقف السياسي الذي لا بد منه، طالما ان الرواية على الإجمال قد دارت ضمن الأفق السياسي أو تدرجت تبعاً للمواقف السياسة التي كان لا بد من اتباعها مرة في الأندلس وأخرى في المغرب وأخيراً مع أبي نمي وفي مكة بالتحديد. فالرواية التي تبدأ غرامية بين هلالين وهي ليست كذلك بالطبع وان يكن هذا الطابع إطاراً وأحياناً في صلب السرد، فإنها تنتهي بموقف سياسي يوصل إلى الشهادة. والشهادة في أيامنا صارت على كل شفة ولسان.