ولد ابن عربي محمد بن علي بن محمد بن عبدالله الحاتمي من أسرة عربية تنتمي في أصولها الى حاتم طي في بلدة مرسية جنوب الاندلس في سنة 560 هجرية. والده علي بن محمد العربي كان، كما قال عنه، من أئمة الفقه والحديث ومن أعلام الزهد والتقوى. انتقل به والده، وهو في السابعة، ويقال في الثامنة من عمره، الى اشبيلية في زمن حاكمها السلطان محمد بن سعد. فقرأ ودرس الحديث والفقه وأخذ علومه عن الشيخ عبدالحق عبدالرحمن بن عبدالله الاشبيلي، وابن زرقون، وابي الوليد الحضرمي. مال الى التصوف وهو في ال15 من عمره بتأثير من أسرته وأهله والده، عمه وخاله، وأنهى تحصيله العلمي قبل بلوغه سن العشرين، وبدأ يتنقل في حواضر الاندلس متعرفاً على شيوخ الصوفية. فتتلمذ على يوسف بن يخلف القمي، واصطحب بعضهم كأبي العباس العريني التقاه في اشبيلية سنة 580 هجرية، وصالح العدوي صحبه 13 سنة، ويوسف الشهربولي صحبه عشر سنوات، والتقى عبدالله القطان في غرناطةفاستفاد من علمه وتقواه، واصطحب محمد بن اشرف الروندي وغيره من أعلام الصوفية. حسم ابن عربي موقفه من التصوف ومال اليه قبل أن يستمع الى ابن بشكوال، إلا أن دراسته القصيرة معه أفادته في تلوين تصوفه بنزعة عقلية فلسفية واجتماعية ونظرة تاريخية للحياة والتقدم. عاش ابن عربي في قرطبة في فترة إمامة قاضيها ابن رشد وتنقل بين مدن الاندلس من اشبيلية الى غرناطة في عصر الأمير المنصور قرابة عشر سنوات. وحين بلغ الثلاثين من عمره دعاه أمير الموحدين المنصور الى المغرب طالباً تربية ولده الناصر وتوقيع المراسيم وانشاء الرسائل. لبى ابن عربي دعوة الأمير في سنة 590 هجرية، واختلفت الروايات عن أعماله وسياساته. هناك رواية خصومه تقول انه وافق على عرض الأمير المنصور وتوظف في البلاط للقيام بالمهمة المكلف بها وسرعان ما وقعت جفوة مع بطانة السلطان فاضطر الى مغادرة المغرب الى تونس ومنها عاد الى الاندلس. وهناك رواية ابن عربي التي تؤكد حصول العرض من الأمير وذهابه الى المغرب لكنه ينفي قبوله الوظيفة. استفاد ابن عربي من فرصة وجوده في المغرب فاتصل بشيوخ الصوفية ومعظمهم كانوا من مريدي الشيخ ابو مدين الاندلسي الأصل. ومن هناك توجه الى تونس وتردد على شيخ الصوفية عبدالعزيز المهدوي وتلقى منه تعاليمه الروحية. بين الروايتين لا بد من تصديق رواية ابن عربي عن نفسه مع التحفظ عليها لأنه كتبها لاحقاً بعد اشتهاره كشيخ العارفين في عصره ووسط أهل التصوف. فالمتصوفة عموماً لا يقبلون الوظائف الرسمية ولا بد أن يكون أخفى هذه النقطة عن مريديه حين أصبح شيخهم الأكبر ومثالهم الأعلى. أحدثت زيارة ابن عربي لبلاد المغرب انقلاباً في سيرته وشكلت منعطفاً نفسياً في تطوره الذهني وستكون فاتحة رحلات وتنقلات لن تتوقف سوى في فترات التدريس أو التأليف. فمن مراكش ذهب الى تونس ثم عاد الى فاس سنة 591 هجرية لمواصلة دراسة فكر الحركات الصوفية. وخلال وجوده في فاس جاءت أنباء انتصار الأمير المنصور على الفرنجة في معركة الارك في سنة 591 هجرية وهي آخر انتصارات المسلمين الكبرى في تلك الديار. شجع الانتصار ابن عربي على العودة الى اشبيلية، ثم رجع الى فاس عام 593 هجرية، ثم عاد الى اشبيلية عام 595 هجرية. وفي تلك السنة توفي ابن رشد وبعده الأمير المنصور وتولى مكانه ابنه الناصر الذي نجح في مطلع عهده في ضبط الأمن وتسجيل غزوات محدودة ضد الفرنجة. استقر ابن عربي في اشبيلية الى سنة 597 هجرية، ثم رحل الى مراكش ومنها الى تونس مع رفيقه محمد الهزاز، والتقى هناك بأحمد بن قسي وأخذ منه كتاب والد أحمد "خلع النعلين" وهو كتاب انتقده ابن عربي لاحقاً واتهم صاحبه بالدجل والنفاق وادعاء العلم. في هذه الفترة قرر ابن عربي فجأة مغادرة الاندلس والذهاب الى مكة للحج. وبمغادرته انقطعت صلته ببلاد المغرب والاندلس مكتفياً بمتابعة أخبارها. فهو لن يعود اليها وسيمكث ما تبقى من حياته متنقلاً بين مصر والحجاز والعراق والأناضول والشام. السؤال: لماذا قرر ابن عربي مغادرة الاندلس وعدم العودة اليها؟ هناك اجوبة كثيرة وكلها غير شافية. فالاجوبة مفتوحة وتخضع لاحتمالات مختلفة. الخوف الداخلي الى جانب القلق على مصير المسلمين ومستقبل وجودهم في الاندلس من الاحتمالات الواردة. واحتمال تحريض رجال السلطان الجديد الأمير الناصر ضده من الأمور الواردة خصوصاً بعد أن أثارت جولاته وتنقلاته بين حواضر الاندلس والمغرب شبهات كثيرة بين خصومه. وغضب الأمير الناصر منه من الاحتمالات المرجحة اما بسبب رفضه وظيفة تربيته كما يقول ابن عربي واما بسبب خلافه مع رجال والده المنصور بسبب قبوله الوظيفة كما يقول خصومه. ويرجح ان يكون العامل السياسي هو الدافع الرئيسي نظراً لمخاوف السلطة من تحركاته واتصالاته بالمدارس الصوفية ومحاولة توحيدها في تيار واحد ومنظم في أجواء مشحونة بالانقسامات الأهلية والخلافات على السلطة، مضافاً اليها ضغوط الفرنجة على الجبهة العسكرية. وهناك أخيراً تفسير ابن عربي وهو البحث عن الحقيقة من المكان الذي نزلت فيه: مكة. فترة مصر وصل ابن عربي مصر في طريقه الى مكة في العام 598 هجرية. آنذاك بلغ سنوات النضج 38 سنة وهي أخصب فترات حياته. فالأفكار تخمرت في ذهنه وبات في موقع الانتقال من المطلع على مختلف تيارات عصره في الاندلس الى صاحب رأي وموقف في بلاد المشرق. فابن عربي كان متأثراً بتعاليم متصوفة المغرب والاندلس أكثر من متصوفة المشرق. فهو اميل في نظراته وتأملاته الى مدارس طفولته وشبابه. فكتاباته تشير الى تأثره بأفكار ابن مسرة الذي أحرقت كتبه الثلاثة التبصر، الحروف، توحيد الموقنين في سنة 350 هجرية، وعادت وانتشرت على يد ابن الفرضي، ثم ضاع تأثيرها لتظهر مجدداً في مدرسة المرية برئاسة ثلاث شخصيات صوفية مهمة ابن العريف توفي 536 هجرية، وابن برجان توفي 536 هجرية، وابي بكر الميورقي توفي 537 هجرية تمت محاكمتها في مراكش. فأثارت المحاكمة انتفاضة فاشلة قادها ابن قسي تلميذ ابن العريف في سنة 537 هجرية بعد سنة من وفاة استاذه. وتقارب وفاة الثلاثة يشير الى تعرضهم لحالات تعذيب أدت الى رحيلهم في فترة واحدة. الثابت عن ابن عربي انه نهل من ذاك الموروث الصوفي، فهو يذكر ابن مسرة خمس مرات في كتبه ولا يخفي اعجابه به، ويرجع الى كتاب ابن برجان "ايضاح الحكمة" في مناسبتين ويذكره بكثير من الاحترام والتقدير، إلا أنه يفضل صاحب كتاب "محاسن المجالس" ابن العريف عليه، ويهاجم بعنف ابن قسي صاحب كتاب "خلع النعلين" وقائد انتفاضة المريدين الفاشلة. ويبقى ابن مسرة أكثر من اثر على ابن عربي. بل ان الأخير قام بتطوير بعض أفكاره عن معرفة "أسرار السالكين" ومفهوم الاعتبار الذي يتمثل بنظره في استعمال العقل التبصر لكشف اشاراته والتسامي بها درجة درجة حتى ادراك التوحيد. الى ابن مسرة تأثر ابن عربي بأفكار الإمام الغزالي التي بدأت تنتشر في النصف الأول من القرن السادس الهجري وزاد تأثيرها في نهاية عهد المرابطين ومطلع عهد دعوة الموحدين. وتمثلت تأثيرات الغزالي على مستويين فقهي - كلامي وصوفي - شعبي. واعجب ابن عربي بالمستوى الثاني وقام بتقليده حين بدأ بتدريس تلامذته كتاب الغزالي "إحياء علوم الدين". وصل ابن عربي القاهرة في فترة بلوغه الفكري، وهناك وجد ضالته المفقودة في الاندلس: الأمن. فالشيخ الباحث عن الحقيقة كان يعيش في دياره لحظات قلق دائم من مخاطر الفرنجة وتوتر مستمر من تربص السلطة. فهو غادر بحثاً عن توازنه النفسي الداخلي هرباً من الفرنجة وخوفاً من السلطان في آن. فالسببان البعيد والقريب فتحا له باب الخروج بذريعة البحث عن الحقيقة. آنذاك كان المشرق يعيش في فضاء الانتصارات التي حققها صلاح الدين الايوبي ضد الفرنجة وتحريره القدس في سنة 583 هجرية 1187م وهو أمر، كما يشير ابن عربي، توقعه ابن برجان في كتابه "إيضاح الحكمة" قبل حصوله بحوالى 50 سنة. شكل المشرق لابن عربي ما يشبه الملجأ الذي زرع في قلبه الاطمئنان ونزع منه الخوف على مصير المسلمين. آنذاك كانت دولة الايوبيين في مصر والشام تعيش في ظل معاهدة الصلح التي وقعها صلاح الدين مع ريكاردوس قلب الاسد في الرملة سنة 588 هجرية. وهي معاهدة عززت سلطة المسلمين في فلسطين وساهمت في احباط حملة الفرنجة الرابعة في عهد خليفته وشقيقه العادل الايوبي في سنة 598 هجرية. وهي السنة التي دخل فيها ابي عربي ارض الكنانة. واجهت الشيخ الشاب صدمة ثقافية بعد وصوله حين اكتشف اختلاف التصوف في مصر عن ذاك الذي عاشه في الاندلس وتعرف اليه في المغرب. فالاول وجداني اشبه بحركة دراويش ويميل الى الزهد والتقشف والانكفاء على الذات، والثاني فكري اقرب الى الحركات الفلسفية التي تطل على السياسة والاجتماع من جهات مختلفة ويتعاطى مع مشاكل العصر في جوانب معينة. آنذاك شهدت القاهرة ظاهرة الزهد والانزواء في ظل سلطة جديدة نقلت مصر من الفترة الفاطمية الى فترة مغايرة سياسياً ومذهبياً. فالنجاح الذي حققه السلطان صلاح الدين في تسريع اعادة الاعتبار للدور العباسي على مستوى الدولة تأخر زمنياً في تحقيق التحول السريع على مستوى المجتمع. وادى التفاوت الزمني بين سرعة التحول في دائرة السياسة وضعف الاستجابة في دائرة الاجتماع، إلى نمو ظواهر ثقافية عبّرت عن نفسها في حالات اجتماعية تعكس عدم التجانس بين التوجهين. الا ان تلك الظواهر لم تدم طويلاً بعد ان نجحت السلطة في قيادة الدولة الى موقع مختلف عن الفترة الفاطمية واخذت بعزل تلك الحركات ومحاصرتها في زوايا صغيرة من المجتمع. عند وصول ابي عربي كانت ظاهرة الشاعر الصوفي ابن الفارض في بدايتها. فالشاعر الشاب 576 - 636ه كان في ال22 من عمره وبدأ يتلمس طريقه الخاص في الزهد والتصوف، واخذ يعتزل الناس ويأوي إلى المساجد المهجورة محاولاً تأسيس حلقة مستقلة عن دائرة الازهر. فإبن الفارض الذي عرف بشرف الدين وسلطان العارفين ينتمي الى اسرة من حماة الشام نزحت الى القاهرة في زمن صلاح الدين، فأخذ الحديث عن ابن عساكر واشتغل بفقه الشافعية لكنه قرر مغادرة العلوم والانفراد بنفسه وتأمل الوجود والحياة. يتعارض هذا النمط من الزهد الصوفي مع طبيعة ابن عربي ومشروعه الفلسفي ونظرته المختلفة الى دور العارف في اصلاح المجتمع وتغيير سلوكياته. وبسبب نزعته الصوفية المختلفة ارتابت السلطة من تصرفاته فغضب السلطان منه وسجنه، وتوسط له الشيخ القاضي علي ابي الحسن البجائي فأفرج عنه وتوجه فوراً الى مراده: الحجاز. فترة مكة تصادفت زيارة ابن عربي الى مكة مع رحلة ابن الفارض، إلا انهما اختلفا في سلوكهما. فإبن الفارض اكثر من العزلة في وادٍ بعيد عن مكة بينما اتخذ ابن عربي الركن اليماني كمكان يلقي فيه دروسه وشروحه التي جمعت في كتاب "الفتوحات المكية". بلغت فصول الفتوحات 560 فصلاً 20 مجلداً جمع فيها بين السنة وغيرها، فكان يقول فيها ويبالغ في تأويلها لتأكيد نظرياته العامة عن وحدة الزمن ووحدة الحقيقة. فالفتوحات المكية تختلف عن كل كتب الفتوح التي صنفت في تاريخ الاسلام. فالسابقة تناولت بالجملة والتفصيل الفتوحات الاسلامية السياسية صلحاً والعسكرية عنوة والاجراءات التنظيمية والادارية والاقتصادية التي تلتها وعلاقة الارض المفتوحة بمركز الخلافة. بينما تناولت فتوحات ابن عربي الجوانب الروحية للدعوة الاسلامية ليس من لحظة نزولها بل منذ لحظة بدء الخليقة. فالاسلام عند ابن عربي هو الحقيقة الكاملة التي تجلت في أدوار مختلفة وصولاً الى ما يسمىه "الحقيقة المحمدية"، وهي بمصطلحه "الانسان الكامل بأخص معانيه". اربكت نظريات ابن عربي اهل السنة والجماعة في عصره وتعرضت الى نقاشات بعد رحيله، وتفاوتت الردود عليه فاتهم بالالحاد والزندقة والقول بوحدة الوجود والحلولية والاتحاد والتناسخ وهي أمور نفاها ابن عربي واوضح افكاره في كتب مستقلة تفسر ما يريد قوله وما لا يريده. فابن عربي مثلاً يحذر مريديه من التسرع في طلب الكشف والمشاهدة فهذه الامور لا تحصل الا لفئة مختارة من البشر. وعلى رغم توضيحاته استمرت الالتباسات حول فلسفته العرفانية وابعادها وأهدافها، وبقيت الشبهات تحوم حول معاني كلماته ورموزه واشاراته الغامضة. فابن خلدون توفي 808 هجرية مثلاً حذر من "علم المكاشفة" لأن العبارة عن تلك "المدارك والمعاني المنكشفة من عالم الملكوت متعذرة، لا، بل مفقودة، لان الفاظ التخاطب في كل لغة من اللغات انما وضعت لمعانٍ متعارفة من محسوس، او متخيل، او معقول تعرفه الكافة" شفاء السائل، ص 103 ويشير المؤرخ الدمشقي ابن كثير توفي 774 هجرية إلى كتابه "الفتوحات" ويجد فيه "ما يعقل وما لا يعقل، وما ينكر وما لا ينكر، وما يعرف وما لا يعرف" مجلد 13، صفحة 179، وقال عنه ابن السبط الجوزي "كان يقول انه يحفظ الاسم الاعظم، ويقول انه يعرف الكيمياء بطريق المنازلة لا بطريق الكسب، وكان فاضلاً في علم التصوف وله تصانيف كثيرة". تشير التعليقات المذكورة الى نوع من الشك العقلي في اقوال ابن عربي العرفانية، وهي تدل الى نوع من الارتباك في تحديد موقف واضح من نزعة غريبة ظهرت في لحظة زمنية يصعب تصنيفها في مدرسة فقهية أو فلفسية أو صوفية. وفي الواقع جمع ابن عربي المدارس الثلاث في اعماله وسيرته، فهو مالكي المذهب افتى على المذاهب الاربعة، وهو فيلسوف في نظامه المعرفي لا يقبل نظريات الفلاسفة عن الوجود واهل الكون والوحدة والانقسام، وهو صوفي الهوى لا ينسجم مع حركات الزهد والدراويش. فابن عربي شكل حالة خاصة في زمنه تحولت الى نموذج مختلف حين قام بترويج افكاره ونقلها وتدريسها لتلامذته في رحلاته الدائمة. لم يستقر ابن عربي طويلاً في مكة فغادرها الى بغداد سنة 601 هجرية والتقى هناك بالامام عمر السهروردي 539 - 632 هجرية/ 1144 - 1234م الذي ذاع صيته بعد صدور كتابه "عوارف المعارف". فالامام السهروردي وهو غير السهروردي المقتول في قلعة حلب سنة 587 هجرية عرف عنه جمعه بين الفقه شافعي المذهب والتصوف، وشكل ظاهرة خاصة حين قدومه من سهرورد في فارس الى بغداد وبات مرجعاً في الفقه والتصوف. فشل اللقاء وافترقا بعد خلاف الامام السهروردي مع منظومة افكار ابن عربي، فعاد الاخير الى القاهرة في سنة 603 هجرية وحاول الشيخ القاضي البجائي التوسط له مع سلطان مصر عارضاً عليه العمل في الدولة، فاعتذر وغادر مجدداً الى مكة في العام 611 هجرية وبدأ بتدريس "احياء علوم الدين" للامام الغزالي في خطوة منه تشير الى عدم اختلافه مع تصوف الغزالي الذي يوصف بحجة المسلمين وامام المجددين. لم تسعف خطوة التقرب من فكر الامام الغزالي ابن عربي الذي اكثر من شروحه وتفسيراته المتناقضة، فاضطر الى مغادرة مكة متوجهاً الى الموصل وحلب ومنها الى قونية في بلاد الاناضول. وهناك نجح في التأثير على بعض المريدين فنشأت مدارس تستلهم منظومة أفكاره التي انتشرت بحدود معينة في بعض أوساط النخب من أدباء وشعراء، لكنها فشلت في التحول الى تيار شعبي نظراً لصعوبة مفرداته وابهام معاني كلماته. فترة دمشق في هذه الفترة وردت من الشرق والغرب اسوأ الانباء. ففي الشرق بدأت حركة المغول باتجاه الغرب تسقط الحواضر المسلمة ولم تنته الا بسقوط عاصمة الخلافة. وفي الغرب الاندلسي تدهور وضع دولة الموحدين في عهد امارة الناصر وجاءت الاخبار تؤكد مخاوف ابن عربي وتوقعاته. شهد الغرب الاسلامي اسوأ تحولاته التاريخية آنذاك. ففي الوقت الذي أخذ الفرنجة يتوحدون بقيادة فرناندو الثالث، بعد رحيل الفونسو التاسع، انقسمت الاندلس مجدداً وعادت الى فترة سقوط تشبه زمن "دويلات الطوائف"، فبدأ امراء المناطق يستقلون بديارهم فاستولى ابن هود الجذامي على امارته، وابن سعد من اعقاب دولة بني مردنيش على بلنسية، وخرج ابن هود بدولته، وخرج أهل نسب ابن هود محمد بن يوسف بن نصر المعروف بابن الأحمر عليه فكانت لكل منهما دولته، وظهر محمد بن ابي حفص سنة 620 هجرية فاندلع القتال بينه وبين ابن هود فهرب ابن حفص الى برشلونة وانضم الى قوات الفرنجة سنة 626 هجرية 1229م. واستغل فرناندو الثالث الانقسامات الاهلية ولعب على تناقضات أمراء المناطق في ظل اضمحلال الدولة المركزية، فاستولى على عدد من المدن في سنتي 626 - 627 هجرية ومنها ماردة وبطليوس في المنطقة الغربية من الاندلس، ناقلاً المواجهة من الغرب الى وسط الجنوب، فتراجع المسلمون الى الوادي الكبير في جو عاصف بالخلافات والانتفاضات، خصوصاً بين ابن هود وابن الاحمر. لم تنفع تدخلات الدولة العباسية في وقف الحروب الاهلية الصغيرة. وحين وصل خطاب الخليفة المستنصر العباسي الى ابن هود الجذامي مع وفد جاء من بغداد حاملاً معه الراية والخلع والعهد ولقب المتوكل، اضطر ابن الأحمر بني نصر مبايعته، الا ان الخلاف عاد ودب مع ابن مدافع ابن مردنيش وابن خطاب في شرق الاندلس، فاستغل الفرنجة فرصة الانهيار وزحفوا على معظم ثغور المسلمين وحاصروا قرطبة عاصمة دولة الامويين واسقطوها سنة 633 هجرية 1236م بينما استقر ابن هود في اشبيلية واستولى ابن الاحمر على غرناطة سنة 635 هجرية. حين جاءت انباء قرطبة كان ابن عربي غادر قونية في رحلة جديدة قاصداً بلاد الشام فاستقر في دمشق سنة 627 هجرية وبدأ يكثر الجلوس في زاوية الغزالي في جامع دمشق تقرباً منه واخذ بتدريس اعماله وشرح كتابه "الوسيط" في الفقه واعتمده الى جانب كتاب الاحياء لتطوير أفكاره وتوضيح ملابساتها. آنذاك بلغ ابن عربي ال73 من عمره واحتل مكانة عالية بين مريديه ولقب بشيخ العارفين وباتت له حلقة من التابعين في وقت عاد الصوفي الآخر ابن الفارض من مكة الى القاهرة بعد غيبة 15 عاماً من التأمل وقعد في قاعة الخطابة في الأزهر، وأخذ الناس يقصدونه للزيارة والاستماع الى شروحه وقصائده الى حين وفاته سنة 636 هجرية 1239م وهي السنة التي اتفق فيها على وفاة ابن عربي في دمشق هناك من يذكر 638 هجرية كالمؤرخ ابن كثير ودفن في الصالحية عن 76 سنة في مقبرة القاضي محي الدين بن الزكي في جبل قاسيون. وبرحيله انتهى طور مديد في مراحل الصوفية كان ابن عربي خير معبر عنه في سيرته وأعماله بدءاً من قرطبة وانتهاء بدمشق. فقبله كانت الصوفية ممارسة وحركات رياضية تهدف الى تطويع الجسد في انماط وتعابير لم تتجاوز حدود بعض الروايات والكتابات ومنثورات من الأدب والشعر. وبعده تحولت الصوفية الى نظرية شاملة وحركة ذهنية تهدف الى تطويع العقل في نظام معرفي. نجح ابن عربي في حياته وأعماله في نقل التصوف من كلام شعري ورياضات تطبيقية الاجهاد الى اجتهاد فقهي - فلسفي انتهى الى بناء ناطحات سحاب فكرية وابنية نظرية وتحويل الممارسة الى رؤية مختلفة للحياة والكون والوجود والانسان. * كاتب من أسرة "الحياة".