سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
بعد مئة عام على خروجها البريء الأول من عالم التجريب الى رحابة الفن . سينما الرسوم المتحركة تغزو عالم الكبار غوصاً في السياسة والأخلاق و "اللؤم الاجتماعي"
الى سنوات قليلة فقط، حين عرض فيلم"شْريك"في المسابقة الرسمية في مهرجان"كان"السينمائي الدولي، وحتى خارج التباري، فغر كثر من النقاد والمعنيين أفواههم مدهوشين متسائلين: ماذا... فيلم رسوم متحركة في التظاهرة الأهم في هذا المهرجان السينمائي الكبير الذي ما اعتاد ان يتسابق فيه سوى الأفلام الدرامية الكبرى التي تصبح من الكلاسيكيات بعد ذلك، سواء فازت بجوائزه أو لم تفز؟ كانت الدهشة والسؤال مشروعين، طالما ان فن التحريك كان لا يزال مرتبطاً في الذهنية العامة بالسينما الموجهة الى الصغار. وپ"كان"مهرجان للكبار عادة. وبالفعل كان فيلم"شريك"في حلقته الأولى، وسيبقى في حلقتيه التاليتين، فيلماً يغلب عليه توجهه الى الصغار، رسماً ولوناً وحكاية. ومع هذا كان من الواضح في الوقت نفسه ان في ثنايا موضوع الفيلم وبين سطور حواراته ما يتجاوز بعده الظاهر. كان من الواضح ان فيه ما من شأنه ان يجذب الكبار... بل حتى في بعض الأحيان ان يحمل عبارة"للكبار البالغين فقط". طبعاً ازدواجية التوجه هذه، في سينما التحريك، لم تكن جديدة، فبساطة افلام والت ديزني، كانت منذ زمن قد كفت عن الاستفراد وحدها، بحيز افلام الرسوم المتحركة... و"توم وجيري"وپ"ميكي ماوس"وپ"وودي ناقر الخشب"وپ"دونالد"وغيرها من الحيوانات، حتى وإن كانت بقيت نجوماً في ساحة هذا النوع من السينما، كان عليها منذ سنوات طويلة ان تتخلى عن جزء من مملكتها لشخصيات أخرى، لئيمة متهكمة، شريرة... شخصيات قد لا يستحسن ان يشاهدها الصغار. في اختصار، عند نهاية القرن العشرين وبداية القرن الذي يليه، لم تعد سينما التحريك على ما كانت عليه... صارت في شكل عام لغة تعبير سائدة موجهة الى فئات متنوعة من الناس، وتحمل الى جانب صور الحيوانات الطيبة والمواضيع البسيطة الطفولية، مواضيع ومشاهد تصل في بعض الأحيان الى حدود الإباحية. نعرف ان هذا كان موجوداً منذ زمن بعيد، لكنه كان لا يزال محصوراً في افلام قليلة تعرض في اماكن ضيقة... لكن التعميم صار من سماتها أولاً مع تفجّر المجتمعات المفتوحة وتراجع الرقابات، ثم مع التجديد الهائل الذي طاول التقنيات نفسها، حتى من قبل مجيء الكومبيوتر ودخوله المدهش في عالم التحريك، ومع استيعاب التلفزة نفسها للجزء الأكبر من افلام التحريك الموجهة الى الصغار. وأخيراً مع خروج هذا الفن من القبضة الأميركية، ودخول بلدان مثل كوريا واليابان على الخط. عوالم جديدة كل هذا أحدث، في الواقع، ثورة في عالم التحريك، ربما تكون الثورة الأسرع انتشاراً والأحدث ارتباطاً بالتقنية في تاريخ الفن السابع نفسه. صحيح ان هذا كله لم يضعف من شأن افلام ديزني وإن كان اضطرها هي الأخرى الى التجديد الجذري احياناً، ولا من أهمية ونجاح الأفلام الموجهة الى الصغار حيث بقي هذا الفن في شكل عام فناً مرتبطاً بالصغار، لكنه أوجد مجالات وعوالم موازية تفرد للجماليات المفرطة مكاناً أساسياً افلام الياباني ميازاكي على سبيل المثال، كما انه ساهم في تنويع تقنيات التحريك نفسها، فلم نعد امام تطوير كمي لما كان اميل كوهل الفرنسي أبدعه عند بدايات القرن العشرين، ولا أمام ذاك الذي صنع شهرة والت ديزني وأمبراطورياته، ولا حتى امام تجريبية ماكلارن، بل صرنا وسط عوالم جديدة قد لا يكون من المبالغة القول ان اختلافها عن السابق بات نوعياً لا كمياً، الى درجة ان كل ما ما سبق - حتى في المجالات الني نوعت على فن الرسم عبر تحريك الدمى وتجريبية الخطوط وما شابه - صار يبدو منتمياً الى ما قبل التاريخ. اما المعادل الموضوعي لهذا كله فكان النجاحات العامة والاستثنائية التي باتت من نصيب منتجات هذا الفن، في شتى بلدان العالم، سواء كانت موجهة الى الصغار، أو منفتحة على الكبار أو... مخصصة للكبار وحدهم. وبحسب المرء ان يرصد على مدى العشرين سنة الأخيرة لوائح الأفلام الأكثر مردوداً، ليرى كم ان شرائط مثل"شْريك"نفسه، أو"علاء الدين"أو"العثور على نيمو"أو"ساوث بانك"وعشرات غيرها من الصنف نفسه، تمكنت دائماً من اجتذاب عشرات ملايين المشاهدين، وصولاً الى بقائها في التداول بصورة متواصلة عبر تحولها اسطوانات مدمجة وما شابه. وفي الوقت نفسه بحسب المرء ان يشاهد فيلماً حديثاً من افلام التحريك ليرى كم ان الثورة التي اندلعت في هذا العالم جدية وجذرية تكاد تلقي بتحف قديمة مثل"فانتازيا"- أحد منتجات ديزني الأكثر روعة وخروجاً من عالم الأطفال الى عالم الكبار - في المتاحف. ثورة تراكمت طبعاً لن نجعل من هذا النص رصداً لما أنتج في عالم التحريك خلال العقدين الأخيرين على الأقل. فالحقيقة أننا انما شئنا منه ان يكون مجرد تقديم لما اصبح عليه فن التحريك بعد مئة عام، بالتمام والكمال، من تحقيق الفرنسي اميل كوهل - الأب شبه المنسي لفن التحريك بالمعنى العلمي والتجاري والفني للكلمة - واحداً من أهم وأول افلامه التي سعى فيها الى الخروج من عالم التجريب الى عالم الإنتاج الممنهج وهو فيلم"فانتازما غوري"البالغ طوله دقيقتين تقريباً، والذي، بعدما اشتغل عليه مع مساعديه طوال عام كامل، عرضه في صالة مسرح"الجمنازيوم"الباريسي خلال شهر آب اغسطس 1908، لينطلق بعده، وبفضل النجاح الذي حققه ذلك العرض الى تحقيق نحو مئة فيلم قبل ان تخف الحماسة له ولأعماله في فرنسا فينتقل الى الولاياتالمتحدة التي وفرت له إمكانات مواصلة عمله واختراعاته فكان هناك ايضاً رائداً كبيراً، عمل الى جانب رسام الكاريكاتور ونسور ماكاي، ومع عدد من الفنانين الآخرين، ممهدين - من دون ان يدروا - لظهور والت ديزني واستفراده تقريباً بالساحة بعدما كان مجرد مساعد لهم. إذاً، مضى قرن كامل على تلك الولادة، قرن تطور فيه فن التحريك، ليصبح اليوم فرعاً فنياً قائماً بذاته، وخصوصاً بعدما تمكن حتى من الاستيلاء على مواضيع كان معهوداً انها"لا تنفع"إلا عبر التصوير الواقعي ووجود الممثلين والديكورات الطبيعية. وما أحدث فيلمين عرضا ويعرضان خلال هذا العام، منتميين الى فن التحريك، سوى إشارة اساسية الى هذا الاستيلاء. وهذان الفيلمان هما هنا"برسبوليس"للإيرانية المقيمة في فرنسا مرجان ساترابي، و"آل سمبسون الفيلم"المأخوذ عن سلسلة الرسوم المتحركة الأشهر في عالم الفنون الأميركية اليوم. للوهلة الأولى يبدو هذان الفيلمان وكأنهما، مثل معظم افلام التحريك، موجهين الى الصغار - بل ان صغاراً هم الشخصيات الأساسية في واحدهما والآخر - لكن نظرة ثانية، سترينا ان كلاً منهما - على طريقته - ينتمي الى سينما تتجاوز الصغار كثيراً. وأن الاثنين معاً يأتيان ليؤكدا من جديد كم ان فن التحريك هذا بات بعيداً مما كنا نعهده فيه، ذلك ان الفيلمين يغوصان في لعبة سياسية وأخلاقية، وفي أبعاد سلوكية من الصعب القبول بانتمائها الى عالم الصغار، كما سنرى في النصين المرفقين حول الفيلمين في هذه الصفحة. في هذا الإطار ليس"برسبوليس"وپ"آل سمبسون الفيلم"، سوى النموذجين الأحدث على الاستقلالية الكبرى التي بات فن سينما التحريك يتمتع بها كوسيلة تعبير مستقلة، توصل تراكم الثورة التي تحدثنا عنها في هذا المجال، الى ذروتها، شكلاً بالتأكيد، ولكن مضموناً ايضاً. نقول هذا من دون ان يفوتنا ان نذكر ان لكل من هذين الشريطين خصوصية، لا بأس من القول توخياً للإنصاف، انها ساهمت اصلاً في النجاح الذي حققه ويحققه، ذلك ان اياً منهما، ككينونة لم يأت من فراغ، اذ نعرف ان فيلم مرجان ساترابي، إنما هو الترجمة السينمائية التحريكية للكتاب المربع الأجزاء الذي كانت أصدرته بالعنوان نفسه، راسمة فيه بعض مسار سيرتها الذاتية في شرائط مصورة ساهم الوضع الإيراني في مدها بالنجاح اللازم، كما سنرى في النص التالي. اما فيلم"آل سمبسون"فليس سوى نقل سينمائي لشخصيات تلك العائلة المرعبة المنفرة التي يتابع الناس عادة"مغامراتها"على الشاشة الصغيرة منذ سنوات وسنوات، مدهوشين امام العلاقات المرضية بين افرادها، واللغة اللئيمة التي تهيمن على تبادل الحوارات بين هؤلاء الأفراد. إذاً، في الحالين لدينا ممهدات للنجاح، تأتي من خارج النجاح المتجدد لفن الرسوم المتحركة المعهود، وتحديداً من قدرة العملين على مخاطبة أوسع قطاع من الناس عبر مواضيع سائدة ايران، القمع، البيئة، التفكك العائلي... الخ، غير ان هذا يجب ألاّ يغيب عن بالنا لحظة تقديم أي من الفيلمين عبر وسيط سينمائي آخر سينما واقعية مثلاً، ما كان من شأنه ان يعطيه النجاح الذي حققه، ولا ان يجعل له ردود الفعل التي مكنته من ان يكون أشبه بثورة جديدة في عالم الفن. "برسبوليس" حكاية الحلم الذي هوى والطفلة المنفية مرتين على الأقل خلال الدورة الأخيرة لمهرجان"كان"السينمائي قبل شهور قليلة، سمعنا الاحتجاجات الرسمية الإيرانية قوية صاخبة، مرة حين احتجت مؤسسة"الفارابي"السينمائية الرسمية في طهران لدى الملحقية الثقافية الفرنسية هناك على عرض فيلم"برسبوليس"ضمن المسابقة الرسمية للمهرجان. ومرة ثانية حين منح الفيلم ثاني أكبر جوائز هذا المهرجان في الحفل الختامي. وفي المرتين ترافقت الاحتجاجات مع كلمات مثل"مؤامرة"وپ"إمبريالية"وپ"طعن الشعوب في ظهرها"تفوه بها صحافيون إيرانيون كانوا حاضرين في"كان"، في مقابل ثناء على الفيلم عبّر عنه صحافيون إيرانيون آخرون. أما الفارق بين الحالين، فهو أن مهاجمي"برسبوليس"أعلنوا أسماءهم، فيما فضل المدافعون عنه ألا يعلنوها. وهو فارق كبير كما نعرف. مهما يكن، فإن ثمة من بين هؤلاء من لام سياسة الفيلم، لكنه أثنى بقوة على تقنيته وتجديده وعلى جرأة صاحبته الفنية. وما"صاحبة"الفيلم هذه سوى المناضلة والفنانة الإيرانية المقيمة في فرنسا مرجان ساترابي، التي لن ننقل هنا بعض الأوصاف المقيتة التي"استحقتها"على ألسنة بعض مهاجميها من الصحافيين الإيرانيين في أروقة قصر المهرجان في الجنوب الفرنسي. كان واضحاً، بكل بساطة، أن فيلم"برسبوليس"أزعج إيران الرسمية... وأكثر كثيراً مما كانت قبل سنوات أزعجتها سلسلة كتب الشرائط المصورة التي أصدرتها مرجان ساترابي بالعنوان نفسه، محاولة فيها أن تستخدم الرسوم البسيطة والطريفة كي تحكي... سيرتها الذاتية لا أكثر ولا أقل. يوم صدرت الكتب الأربعة تباعاً، علت أصوات رسمية إيرانية محتجة، لكن الانزعاج لم يبد كبيراً. فالكتاب كتاب في نهاية الأمر حتى ولو حقق نجاحاً وكان في الشرائط المصورة. أما الفيلم! بالنسبة الى إيران الرسمية واضح أن الفيلم يشكل خطراً ما... بل كان واضحاً أن"برسبوليس"وقد حول فيلماً، سيكون أقسى على النظام الإيراني الحاكم، ألف مرة أكثر من قسوة جورج دبليو على هذا النظام. واضح أن كثراً، حتى وإن كانوا من غير المحبذين لسياسات إيران المحافظة ورئيسها الصاخب أحمدي نجاد، لن يصدقوا جورج دبليو حين يحاول"فضحها"فهو ليس، في رأي هؤلاء، أكثر قداسة من زميله الإيراني الملتهب -. ولكن حين يأتي الكلام، فيلم رسوم متحركة مبنياً على السيرة الذاتية لطفلة عاشت الأحداث الصاخبة التي مهدت لوصول نجاد وأمثاله الى الحكم، ثم عاشت المنفى بعد الحماسة الثورية الأولى، سيرمي الملايين تحفظاتهم على خطاب بوش الإيراني جانباً، وينظرون ملياً الى ما يروى لهم في الفيلم. والحقيقة ان خطورة هذا تزداد انطلاقاً من واقع أن الفيلم نفسه، كما حال كتب الشرائط المصورة السابقة له، جاء طريفاً متقن الصنع، مسلياً، يمرر رسالته الحزينة عبر ألف ابتسامة وابتسامة. والمسؤولون في إيران يعرفون منذ قرأوا كتابات ماوتسي تونغ أن عليك أن تزداد حذراً من عدوك كلما كان أداؤه أفضل وفنه أكثر قدرة على الوصول. وهذا ينطبق في الحقيقة على هذا العمل السينمائي الأول لمرجان ساترابي. وهو عمل أول على غير صعيد. إنه الأول عن إيران وثورتها، الذي يحقق بالرسوم المتحركة، وهو الأول الذي يروى بضمير المتكلم وهذا تجديد في هذا النوع من الأفلام لا يمكن التغاضي عنه أو عن جاذبيته -، ثم انه فيلم في السيرة الذاتية، ونحن نعرف أن فن السيرة الذاتية الذي يحقق نجاحات كبيرة في عالم اليوم في السينما -، لم يصل بعد الى الرسوم المتحركة. ثم انه، وهذا هو الأهم، أول فيلم يروي إيران من الداخل، بنظرة من الداخل. وتحديداً بنظرة أنثى عاشت في الداخل، ثم حين خرجت وهي بعد مراهقة، ظلت على تواصل مع الوطن. نسخ الداخل المقرصنة كل هذا صنع لپ"برسبوليس"عناصر نجاحه الذي لم يعد الآن بعد شهور من عرضه الأول تكهناً، بل صار واقعاً، لا يبالي باحتجاجات إيران الرسمية. بل صار، أيضاً، واقعاً، داخل إيران نفسها، حيث يقال إن ثمة ألوف النسخ المقرصنة التي بدأت تصل الى إيران وتعرض في البيوت... والحقيقة أن ردود فعل أولية أتت من داخل إيران وعلى ذمة أصدقاء يتوخون الحذر فلا يدلون بأسمائهم -، تقول إن كثراً يرون في الفيلم صورة قريبة جداً مما حدث ويحدث داخل إيران، وذلك مثلاً على العكس من احتجاجات صحافيين إيرانيين في"كان"قالت إن كل ما في الفيلم كذب في كذب، وانه"ينسى"الحديث عن"الإنجازات الحقيقية"التي"حققها الشعب الإيراني". مهما يكن، لا بد من القول هنا إن مرجان ساترابي، تروي في فيلمها نفس ما كانت روته في كتبها شهادتها الخاصة عن تلك الأنثى المنتمية الى الشعب الإيراني، والى شريحة تقدمية منه، والتي كانت في الثامنة حين اندلعت ثورة الإمام الخميني. خلال تلك الأيام الأولى يصف لنا الفيلم كما الكتب السابقة عليه تلك الحماسة الثورية التي استبدت بمرجان وأسرتها. فهم من شريحة كانت تراقب دائماً بعين الغضب القمع الذي يمارسه نظام الشاه، وبالتالي نظرت بعين الرضا الى ثورة، صحيح أن رجال الدين وجمهورهم يشكلون قوة أساسية فيها، لكنها تضم أيضاً التنظيمات اليسارية والتقدمية، والطبقات المتنورة. من هنا، تقول لنا مرجان، كان الحلم في البداية كبيراً... لكن الأمور سرعان ما تبدلت: سيطر المحافظون وأصحاب الرؤوس الحامية على الأمور، وساعدهم في ذلك الجار البعثي العراقي الذي"أنقذ"ثورة الخميني من مشاكلها الداخلية، إذ شن على إيران حرباً كان المحافظون هم أكثر الذين استفادوا منها، إذ غطت على تضافر النزعة القومية مع النزعة الدينية، كما على التخلص من الفئات المتقدمة بين تحالف الثائرين. وهكذا انقلب الحلم الثوري قمعاً وظلاماً واضطهاداً. فلم يجد أهل مرجان مفراً من إرسالها الى الخارج، وهي بعد في الرابعة عشرة من عمرها، لتعيش وتتعلم ريثما تهدأ الأمور. فمراهقة تخرق"القوانين الثورية"برفض التشادور، والرغبة في سماع أغاني"الآبا"وپ"البي دجيز"في ألبومات تهرب كالمخدرات، ما كان يمكنها أن تواصل عيشها في داخل يزداد تزمته أكثر وأكثر، خصوصاً أن الفئة التي تعرضت أكثر من غيرها لقمع"ذكور"الحرس الثوري واضطهادهم، كانت فئة النساء. وهكذا وجدت مرجان نفسها في فيينا... قبل أن تنتقل لاحقاً الى فرنسا لتعيش حتى اليوم في باريس. وإذا كانت مرجان ساترابي اتسمت بما يكفي من الصراحة لوصف الحياة في إيران طفولتها ومراهقتها، فإن الصراحة لم تنقصها حين راحت تصف ما جابهها في أوروبا من عنصرية وعداء. فهذه الكاتبة/ الفنانة، لم تبتغ من عملها أن يكون دعاية في مقابل دعاية. أرادت له أن يكون صورة للحياة التي عاشتها... صورة إن لم تكن حقيقية مئة في المئة، فعلى الأقل تكون صادقة في وصف الأمور من وجهة نظرها الخاصة. والحقيقة أن وجهة نظر مرجان ساترابي لم تكن"أسود/ أبيض"في أي صفحة من صفحات الكتاب، ولا في أي مشهد من مشاهد الفيلم. حتى وإن كان التلوين بالأسود والأبيض، هو الأساس في أسلوبها الفني. مع فارق أساسي يكمن في أنه إذا كان الكتاب، في أجزائه الأربعة، رسم بهذين اللونين، فإن الفيلم، الذي تعاونت ساترابي في تحقيقه، أي في تحريك رسومه، مع الفنان الرسام والمخرج الفرنسي فنسان يارونو، تميز بأن الفنانين أضافا الى كل مشهد خلفية أتت في أحيان كثيرة ملونة، ولكن في شكل لا ينسف فكرة الأسود والأبيض الأساسية المسيطرة. ومن هنا جاء العمل تجديدياً جذاباً في شكله وفي بساطة لغته الفنية، بحيث إن كثراً شاهدوه في"كان"ثم في العروض التجارية الفرنسية، حتى من دون أن يبدوا كبير اهتمام بموضوعه الحاد. ليس دعاية أميركية غير أن ما لا بد من قوله هنا هو أن"موضوع برسبوليس الحاد"لم يبد في أي لحظة موجهاً ضد إيران نفسها، أو ضد شعبها، كما أشار الرسميون والصحافيون الإيرانيون العاملون معهم والمدافعون عنهم، بل حمل حباً كبيراً من ساترابي الى وطنها والى شعبها... مركزاً، على خيبة الحلم الثوري، وعلى الكيفية التي تحول بها دعاة الحرية والثورة الى قامعين، وخصوصاً تجاه فئات وشرائح تحمست لهم ووقفت الى جانبهم منذ البداية. فهل علينا أن نشير مرة أخرى الى أن الرسميين لا يبدون مخطئين حين يرون الخطورة في هذا... في هذه الشهادة من الداخل، إذ بدأت تجول في العالم اليوم، مروية حيناً بالفارسية، ولكن أيضاً غالباً مدبلجة الى لغات العالم، بالفرنسية من طريق كاترين دونوف وكيارا ماستروياني وغيرهما، وغداً بالإنكليزية، من طريق دونوف نفسها، إضافة الى جينا رولاندز وفنانين من مستواهما، علماً أن هذه الأسماء نفسها تشكل، بالنسبة الى الجمهور العريض، ضمانة بأن"برسبوليس"، ليس كما وصفه ناقد إيراني غاضب"دعاية أميركية - فرنسية ضد إيران". "آل سمبسون": بيئة تهكم وإرهاب "شاهد عائلتنا... عند ذلك ستشعر أن عائلتك بألف خير"... هذه العبارة تزين ملصق فيلم"آل سبمسون"الذي بدأ يعرض في صالات السينما في العالم منذ أسابيع محققاً مداخيل لم تكن تتوقعها حتى الشركة التي أنتجته. ومع هذا كان منطقياً أن يحقق هذا الفيلم نجاحاً كبيراً. ليس فقط لأنه فيلم تحريك، وبتنا نعرف الآن أن معظم أفلام التحريك التي تحقق على نطاق كبير، ينتهي بها الأمر الى أن تصبح دجاجة تبيض ذهباً لأصحابها، بل كذلك لأن كثراً ينتظرون فيلماً عن هذا المسلسل التلفزيوني الذي يعتبر الأشهر في أميركا منذ سنوات ويشاهده عشرات الملايين. والحقيقة ان هذا الانتظار لم يكن تعبيراً عن أمنية أو رغبة، بل توقعاً لإنجاز مشروع أعلن عنه منذ سنوات... وصار مع الوقت أشبه بالبديهة بحيث ان السؤال لم يعد: هل ينجز؟ بل"متى ينجز". وهو أنجز بالفعل قبل شهور قليلة بعد عمل على السيناريو ثم على الرسوم استغرق ما لا يقل عن سبع سنوات. ونذكر هنا ان السيناريو قد أعيدت كتابته عشرات المرات، أي ما يضاهي عدد المخرجين والرسامين الذين اشتغلوا على الفيلم. جاءت النتيجة، في نهاية الأمر، باهرة حققت من حولها إجماع النقاد والمشاهدين. والأهم من هذا أن الاشتغال السينمائي على"مغامرة آل سمبسون"الجديدة هذه حقق رهاناً أساسياً فحواه انه كان مطلوباً بداية أن يأتي العمل السينمائي مختلفاً عن التلفزيوني، إنما من دون أن يشعر المشاهدون أنهم ابتعدوا كثيراً من عالمهم الأثير. كان الرهان صعباً. لكنه نجح وصار لتلك العائلة المشاكسة المتنافرة اليوم فيلمها. لكن هذا الفيلم أتى في الوقت نفسه مطلاً على مواضيع اجتماعية وسياسية في الوقت نفسه، أي مواضيع تتعدى الإطار العائلي التناحري التقليدي الذي عرف البرنامج به. وذلك بالتحديد من خلال حبكة بيئوية توصل الى النقد السياسي بالضرورة. صحيح أن لدينا هنا - كما في حلقات"آل سمبسون"التلفزيونية المعتادة، وكما في فيلم"برسبوليس"لمرجان ساترابي - عائلة ومراهقين وتناحراً بين الأجيال، لكن الحبكة تدور حول ذلك الموضوع الذي لا يني يشغل بال الأميركيين منذ زمن: تلوث البيئة. وهكذا، في منطقة بحيرة سبرنغفيلد، نبدأ بجمعية"غرينداي"وهي على غرار جمعية"غرينبيس"الشهيرة التي تسعى الى نشر أفكارها حول البيئة وضرورة الحفاظ عليها... لننتقل الى التلوث وقد قتل الناس، فإلى الجنازات، حيث الجد سمبسون تهيمن عليه رؤيا دينية تنذره بأن يوم الحشر مخيم فوق المدينة. وهكذا بالتدريج نجد نفسنا وسط هومير سمبسون وعائلته وابنته وبقية الشخصيات لتدور رحى مغامرة شديدة التهكم والحركة واللؤم، وصولاً الى قنابل تنفجر وإرهاب يسود وما الى ذلك... حتى تدخل الشرطة والرحيل الى آلاسكا. إنه، في اختصار عالم من المغامرات ذات الخلفية السياسية والبيئية، عرف هذا الفيلم المشغول بعناية كيف يتسلل اليه، من خلال هذه العائلة التي لا شك في أنها اليوم أشهر عائلة في أميركا، وفي عمل يضيف الى عالم سينما التحريك جديداً إنما غير مفاجئ... فاتحاً أمام هذا الفن آفاقاً رحبة تعد بأن سينما التحريك ستزدهر أكثر وأكثر خلال الأزمان المقبلة، سواء أكان ذلك الازدهار كلاسيكياً، أو طليعياً، علماً أن"آل سمبسون"يجمع البعدين معاً.