والت ديزني الذي تحتفل السينما الأميركية بمئوية مولده في هذه الأيام، شغل عرش هذه السينما، كما شغل مخيلات الأطفال، الصغار والكبار معاً، منذ نحو ثلاثة ارباع القرن. وكل ذلك، أولاً وأخيراً، بفضل فأر. ليس فأراً حقيقياً، طبعاً، بل فأر مصوّر. ف"ميكي" الفأر الذي ابتكرته مخيّلة ذلك الشاب الاميركي الهادئ الباحث عن عمل وكانة في هذا العالم، في بداية ثلاثينات القرن العشرين، سرعان ما انتشر واشتهر، ليصبح، الى جانب شارلي شابلن، اكثر شخصيات القرن العشرين الفنية شعبية وتأثيراً. وعلى رغم ان ديزني عاد وابتكر شخصيات عدة اخرى، وعلى رغم انه حقق من الأفلام، الخالية من فأره الطيب، ما فاق جودة وشهرة افلام هذا الفأر أذكّر هنا بفيلمه "فانتازيا" الموضوع رسوماً متحركة على اساس "السيمفونية الغرائبية" لبرليوز، فإن العرش الفني الذي شغله ديزني، ظل مرتبطاً بميكي. ميكي الذي لم يكبر ولم تقهره السنين، وحتى من بعد رحيل مبتدعه في العام 1965. ولكن، إذا كان ميكي قد ظل عصياً على الفناء، فإن مبدعه لم تكن حاله كتلك الحال. إذ ما ان رحل عن دنيانا، ذلك الاميركي الذي "اتهم" كثيراً بالإفراط في اميركيته ونزعته اليمينية القومية الخالصة، حتى طلع من يتهمه بالتعامل مع النازيين، وبأنه في علاقته مع الايديولوجية المتطرفة الهتلرية، لم يكن مجرد متعاطف - ومثل ذلك التعاطف كان رائجاً بعض الشيء في الولاياتالمتحدة قبل دخولها الحرب العالمية الثانية - بل بالعمل المباشر لمصلحة برلين. وكلمة العمل المباشر تعني هنا، بالتحديد: التجسس. فهل صحيح ان والت ديزني، كان خلال فترة من حياته - وتحديداً خلال سنوات الثلاثين - عميلاً للألمان؟ ان الذين وجهوا هذا الاتهام الى مبتكر ميكي ماوس، لم يتمكنوا ابداً - وعلى رغم الجهود التي بذلوها وساندتهم فيها الوكالات الصهيونية الاميركية - من اثبات ذلك. وفي المقابل، لم يتمكن أنصار والت ديزني، ومحبّو فنه، من اثبات العكس. وهكذا ظلت قضيته معلقة. وربما ستظل معلقة لزمن طويل. غير ان ذلك التعليق لم يحل دون ديزني ودفع الثمن. وإن لم يكن في شكل مباشر او مقصود. ومن دفّع ديزني المؤسسة التي عاشت من بعد مؤسسها وحملت اسمه وتراثه ثمن تلك الظلال التي أحاطت بماضي العم والتر كما كان والت ديزني يسمى أحياناً، كان اهل المهنة أنفسهم، وليس من طريق المجابهة المباشرة. إذ خلال الأعوام العشرة الماضية، وبعد فترة من بدء أوساط صحافية وتاريخية التحري والتنقيب في "ماضي ديزني النازي" - بحسب تسمية بعض المتطرفين ضد والت ديزني - تمكنت جماعة "دريم ووركز" وهي الآلة السينمائية التي تأسست من حول ستيفن سبيلبرغ - مخرج "إي تي" و"الفك المفترس" ثم "لائحة شندلر" ... الخ - تمكنت من محاربة تراث والت ديزني في عقر داره وفي ميدان معركته: في عالم الرسوم المتحركة نفسه. وتقول لنا حصيلة سنوات عدة، لم تنته بعد، من المجابهة، ان "دريم ووركز" حققت حتى الآن انتصارات جعلت مؤسسة ديزني ترتجف وتعيد حساباتها غير مرة باحثة عن سبيل تستعيد به المكانة الأولى التي كانت لها. فالحال، ان ديزني، شخصاً ثم مؤسسة، ظل صاحب العرش في مجال الرسوم المتحركة وعالم الترفيه عن الاطفال، منذ صعد العم والتر نجاحاته الأولى اواسط الثلاثينات. وعلى رغم ظهور فنانين آخرين يمارسون الفن نفسه، ويجيدونه فنياً، بأفضل مما يجيده ديزني - ومن بينهم تاكس إيغري على سبيل المثال - لم يتمكن احد، فرداً او شركة او تياراً، من إنزال ديزني عن عرشه. وديزني ظل يشغل العرش، حتى ثلاثين عاماً بعد رحيله. ثم فجأة، من دون مقدمات، وفور ان بدأ الحديث عن ماضيه يقترب من مفاهم مثل "العداء للسامية"، راحت الظلال تحوم، وبدأت الهالة تخبو ... وهكذا بالتدريج بدأ ديزني يدفع الثمن، ولو بعد موته. وكل هذا لمجرد وجود شك في ماضٍ لم يؤكده أحد، ومن دون ان ينفيه أحد بالطبع.