في المشهد اللبناني الكثير مما يبعث على الغيظ والحسرة، وكم من زوارٍ ووافدين عرب وأجانب يقولون لنا"أنتم لا تحبون بلدكم بمقدار ما نحبه ولا تعرفون قيمته مثلما نعرفها". والواقع، ان في هذا القول كثيراً من الصواب، نظراً الى ما يرتكبه لبنانيون بحق وطنهم، بل إنني أحسد بعض"الأوطان"الأخرى لشدة إخلاص بعض أبناء وطني لها حين يقدمون مصلحتها على مصلحته، ويفدونها بالغالي والرخيص، ويبخلون على لبنان ولو بكلمة طيبة تبلسم بعضاً من جراحاته وتداوي شيئاً من أوجاعه وتساهم، ولو في الحد الأدنى، في تخفيف عذاباته، وهو المصلوب منذ عقود على خشبة الانتظار لحلول لم تأتِ ولقيامة لم تحصل، ويظل مثل سيزيف يحمل الصخرة ويعيد الكرة. أقول قولي هذا، وفي بالي من جملة الكثير المؤذي في المشهد اللبناني، تلك النشرات الإخبارية التي يتحفنا بها بعض القنوات اللبنانية المتلفزة صبحاً ومساء وظهراً وعصراً، وأناء الليل والنهار، وكل ما فيها همٌّ وغمٌّ وتبشير بالآتي الأعظم وتهديد ووعيد، وتلويح بالويل والثبور وعظائم الأمور. أسوأ ما في تلك النشرات الإخبارية، ليست الأخبار بذاتها فتلك وقائع تحدث ولا تخترعها وسائل الإعلام، وماذا في يد تلك الوسائل اذا كان الواقع قاتماً وكئيباً؟ لكن السيئ هو مقدمات تلك النشرات، وهي، أي المقدمات اختراع لبناني مؤذٍ وبغيض، لم يسبقنا أحد اليه، حتى"الإعلام المؤدلج"في بلدان الأنظمة الشمولية. اذ تستهل النشرة ب"مقدمة"عصماء أطول من النشرة ذاتها أحياناً، يتلوها المذيع او المذيعة بما يستدعيه الموقف من تجهم وعبوس، أو من ابتسامات صفر ونظرات تذاكٍ وإيماءاتٍ ماكرة للتدليل على امتلاك الحقيقة المطلقة، والقبض على عنق اليقين، بما لا يقبل الشك والاحتمال. طبعاً لا يقع اللوم على المذيعين والمذيعات فهم يقرأون ما يُكتب لهم، الا ان بعضهم يدخل في"الحالة"او في"الدور"زيادة عن اللزوم ويروح يغمز ويكاد ان يهمز ويلمز، او يتراقص طرباً وهو يقذفنا بتلك الجمل السامة والعبارات الخبيثة، ناسياً او متناسياً انه يتوجه الى لبنانيين ويتكلم عن لبنانيين، أي عن"شركاء"في الوطن بحسب التعبير الشائع هذه الأيام، وما أمقتها من كلمة شركاء، لكنها للأسف صائبة، فحين يمسي الوطن"شركة"وغير مساهمة لأن الجميع يريد ان يأخذ دون ان يعطي شيئاً، يصير المواطنون"شركاء"لكنهم شركاء إسميون لا حول لهم ولا قوة سوى الانصات للفحيح التلفزيوني والوقوع تحت سطوته وتأثيره ثم الخروج لقتال الشريك الآخر وقتله اذا تيسر الأمر، بالفعل او بالنية. هل يفكر كتبة المقدمات الإخبارية، وسواها من خطب الشحن والتحريض، بذويهم، بأهلهم، بأمهاتهم وآبائهم؟ هل يفكرون بزوجاتهم، بأبنائهم، بأطفالهم، وبالأيام التي تتربص بهم اذا تواصل هذا الشحن الطائفي والسياسي البغيض؟ وأين يضعون ضمائرهم المهنية وروادعهم الأخلاقية حين يجعلون"مقدماتهم"نفثاً وسماً زعافاً؟ سؤال آخر يخطر لي وأنا أصغي"مسموماً"الى تلك"المقدمات"، لسان حال مَن هي؟ ورأي مَن هذا الذي يتشدق به مقدم نشرة الأخبار او مقدمتها؟ أهو رأي شخصي للمذيع او للمذيعة؟ أهو رأي القناة أم رأي الجهة التي تملكها ومعظم قنوات التلفزة في لبنان مملوكة لأحزاب وجهات سياسية؟ واذا كان الاحتمال الاخير هو الواقع فلماذا لا يصدر هذا الرأي في بيان او تصريح يحمل علناً توقيع صاحبه، وبذلك نحفظ للمهنية حدها الأدنى وللصدقية ماء وجهها، ولتبثه القناة ساعتها عشر مرات في اليوم. أتابع الأخبار ونشراتها و"مقدماتها"التي أتمنى لو انها مؤخرات لأركلها ركلة توصلها الى مكب النفايات، حيث يليق بها المكان أكثر من بيوت الناس التي تدخلها بلا استئذان، فتضاعف خوفها وقلقها وتوجسها من حاضرها ومستقبلها، وأتمنى لو يُدرك كتبة تلك"المقدمات"، ومعهم كل الكتبة الآخرين، ان الوطن، وهو البيت الكبير، متى تداعى وانهار، ينهار على الجميع ولا يسلم منه"شريك"دون آخر، ومتى انهار البت الكبير لن يعوض علينا أحد. وهذه مأساة فلسطين جمرة في عيوننا، وحرقة في قلوبنا منذ نصف قرن ونيف، فهل استطاع العالم ان يعوّض على أهلها؟ وهذه الكارثة العراقية"طازجة"فهل مَن يعتبر؟ الأسئلة كثيرة، تضمر أجوبتها بين ثنايا علامات استفهامها، وأسئلة العارف حارقة فهل تسلعُ غير صاحبها ، هل تصحو عقول وتستفيق ضمائر؟ أم اننا سنصحو يوماً ونغفو على نشرة أخبار"لبنانية"تبدأ"مقدمتها"بالتالي: قام"العدو اللبناني"هذا النهار بكذا وكذا...!!! ولا شيء مستبعداً او مستغرباً ومستهجناً من"الأخوة الأعداء". لست أدري متى خرج هذا الاختراع اللبناني البغيض على الملأ. أيعود الى يوم كان تلفزيون لبنان الرسمي تلفزيونين وشاشة الوطن شاشتين، واحدة للشرقية وأخرى للغربية، ام يعود الى ما قبل ذلك او بعده؟ وماذا نفعل اليوم ونحن لم نعد فقط شرقية وغربية، ونكاد ان نكون كل الجهات؟ الأسئلة كثيرة وقديمة، بعضها عمره من عمر لبنان، وما نشرات الأخبار و"مقدَّماتها"سوى رأس"جبل النار"الكامن في النفوس المشحونة بالكراهية والبغضاء، وهذه"ثقافة"لنا اليها عودة، اما"النشرات"فتستحق اسمها لكنها ليست للأخبار قطعاً، لأنها كالمنشار"تنشر"أعصابنا وتقطع شجيرات الامل الباقية فينا.